لم يكن استشهاد سيد شهداء الأمة، السيد حسن نصر الله، حدثاً مفصلياً وتاريخيًا في لبنان وحسب، بل طاول بثقله كل أحرار العالم على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم الفكرية المتنوعة، وقد تجلّى ذلك في التشييع المليوني المهيب الذي أقيم في المدينة الرياضية، حين اجتمع الأحرار على قلب واحد، وصدحوا بلسان عربي وأعجمي: “إنّا على العهد يا نصر الله”. هذا هو حال الثائرين الكبار في العالم الذين يواجهون طغاة الأرض منذ البداية حتى النهاية، ولا يختمون حياتهم إلاّ بالشهادة. كان التشييع بمنزلة استفتاء جماهيري واختبار لقوة المقاومة الفعلية ومستقبلها في المنطقة. وكالعادة، لم يتأخر المحبون، صغارًا وشبابًا ونساءً وشيوخًا عن الاستجابة العفوية والمشاركة في وداع قائد قلّ نظيره في المنطقة على الرغم من الحملات المغرضة التي مورست من الإعلام اللبناني المعادي والخليجي من أجل تثبيط العزيمة لدى جمهور المقاومة، فضلاً عن المضايقات والقرارات المجحفة التي اتُخذت بإيعاز أمريكي- إسرائيلي في مطار بيروت، وذلك بهدف عرقلة القادمين من كل حدب وصوب من حضور التشييع الكبير. وبالنتيجة، باءت كل رهانات الداخل والخارج بالفشل، وذلك بفضل الصورة التي رسمها المحبون في الساحات،” وكان “السَيفُ أَصدَقُ إنباءً مِنَ الكُتُبِ، فِي حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ وَاللَّعِبِ”.
يحضرنا في هذه المناسبة الأليمة التي ألمّت بنا أن نستحضر خطابه الاستثنائي والشامل الذي ألقاه في عام 2008 بذكرى أربعين القائد الكبير، الشهيد عماد مغنية، حين أجاب على السؤال الآتي: هل نستطيع أن نُزيل “إسرائيل” من الوجود؟ أجاب حينها: “نعم وألف نعم، يمكن أن تزول “إسرائيل” من الوجود”. لم يكن خطاب شهيدنا الأسمى حينها منطلقًا من دوافع عاطفية، بل كان يرتكز إلى الوقائع والتوصيف الموضوعي لحجم الخطر الإسرائيلي الحقيقي الذي يتربّص بشعوب المنطقة.
لنعد إلى التاريخ قليلاً، فبُعيد النكبة التي تعرّض لها الفلسطينيون في عام 1948 والتي أفضت إلى قتل وتهجير الآلاف من الفلسطينيين، وتلاها بعد ذلك حرب عام 1967، والتي انتهت بهزيمة العرب، على الرغم من الانتصار الجدلي الذي حققه العرب في ما بعد على “إسرائيل” في حرب عام 1973، حيث أسفرت هذه الحرب عن نتائج لم تخدم فلسطين على المدى البعيد، إذ انطلق قطار التطبيع من مصر مرورًا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى الأردن. وهكذا أصبح الشعب الفلسطيني ضحية هذه الاتفاقيات، وصارت “إسرائيل” تملك اليد العليا في المنطقة بدعم من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
وللعلم، فإن هذه المرحلة أسست لفكرة مفادها، إن “إسرائيل” أضحت أمراً واقعًا في المنطقة العربية، بعدما استمدّت “شرعيتها” من الأمم المتحدة ككيان شرعي في المنطقة، بدعم من الدول الغربية. وفي تلك المرحلة بالذات، روّج المحللون الإسرائيليون والغربيون وبعض النخب العربية المرتهنة إلى الفكرة التي تقول، إنّ “إسرائيل” لا تُهزم، وقد أصبحت قدراً محتوماً، وعلينا التكيّف مع هذا الواقع المرير.
لقد سيطر الإحباط واليأس على الشعوب العربية، وأدرك الشعب الفلسطيني أنه تُرك لمصيره في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. استمر الوضع على ما هو عليه حتى ظهر إمام وقائد استثنائي يُدعى موسى الصدر، إذ تمكّن هذا المُغيّب الجليل من تشكيل النواة الأولى للمقاومة، وكان من بين هؤلاء المقاومين الأحرار، الشيخ راغب حرب، والسيد عباس الموسوي، والسيد حسن نصر الله.
وفي خضم كل ذلك، ظهرت المقاومة كخيار وحيد للمواجهة، وكان حزب الله الأكثر تأثيراً في تلك المرحلة، خاصة بعد العمليات النوعية التي نفذها ضد “إسرائيل”. ومن أبرز تلك العمليات كانت عملية الاستشهادي أحمد قصير التي حولت مقر الحاكم العسكري إلى أنقاض، وأسفرت عن مقتل 76 جنديًا وضابطًا من القوات الصهيونية وإصابة 188 آخرين. ومنذ ذلك الحين توالت العمليات والإنجازات النوعية حتى تحرير كل الأراضي اللبنانية في عام 2000، وتبعها بعد ذلك الانتصار في حرب تموز عام 2006. وكان لهذه الإنجازات والتراكمات النوعية التي حققتها المقاومة اللبنانية تأثير كبير في اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين المُحتلّة، أو ما يُعرف بانتفاضة الأقصى عام 2000.
هنا تغير المشهد كلياً، وأرخى بظلاله على طبيعة الصراع بين “إسرائيل” وحركات المقاومة لناحية الأسلوب والتكتيك، والذي يُعبّر عنه بالحروب غير المتناظرة (Asymmetric Warfare) والذي انتهجته المقاومة في فلسطين ولبنان لتعويض فارق القوة الصلبة (Hard Power) التي تتميز بها “إسرائيل”. بالإضافة إلى ذلك، نجحت المقاومة اللبنانية في إنشاء حالة من الوعي الجماهيري، استطاعت أن تثبت فيه بأنّ الكيان الصهيوني قابل للزوال عندما تتوفر إرداة القتال، بمعزل عن الإمكانات المادية والدعم الغربي المفتوح الذي يتلقاه على الدوام. وهنا، نود أن نشير – بعيدًا عن الجمل الإنشائية – إلى أن العقيدة القتالية هي الأساس والقوة المحركة التي تدفع الأفراد للمضي قدماً نحو تحقيق النصر، وكما يشير المُفكر الأمريكي في العلاقات الدولية، كينيث والتز (Kenneth Waltz)، إلى أنّ الأيديولوجيا (Ideology) لها تأثير جماعي وقوي، حيث ترتبط بشكل وثيق بحق تقرير المصير (Self-determination)، مما يضمن عمليًا أن الشعوب التي تعاني من الاحتلال ستثور ضد المُحتلّ، فالأيديولوجيا أحد عناصر القوة الأساسية التي يمكن أن تحملها الشعوب. لذا، فإنّ أقوى إنسان في العالم هو ذلك الشخص الذي يحمل أفكارًا ثورية تدفعه إلى أن يكون مستعداً ليفني ذاته في سبيل قضية مشروعة، فكيف إذا كانت هذه القضية هي فلسطين؟ وقد رأينا كيف أن المقاومة في لبنان وفلسطين زاحمت الموت وذابت في الأرض. وهنا نستذكر كلام المتحدث باسم المقاومة الفلسطينية في غزّة، حينما توجّه للعدو الإسرائيلي قائلاً: أنتم أتيتم بأهمّ الأسلحة العسكرية والتكنولوجية، ونحن صنعنا أقوى الرجال في العالم قبل أن نصنع العتاد.
وفي معركة “طوفان الأقصى” التي مثلّت أكبر إخفاق عسكري في تاريخ الكيان الإسرائيلي، مما دفع بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى التحدث عن مستقبل “إسرائيل” في المنطقة، وخصوصاً مع التحديات الوجودية التي فرضها محور المقاومة. على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها المحور في دعمه لغزة، والتي تجسدت في استشهاد السيد حسن نصر الله وعدد كبير من القادة، فإنّ الهدف كان أن تنتصر غزة، وها هي اليوم تحرر أسراها من سجون العدو بعدما أجبرته على التفاوض وتبادل الأسرى.
صحيح أنّ “إسرائيل” اغتالت أهم قائد للمقاومة في المنطقة، إلا أن هذا الاغتيال لن يزيد المقاومة إلاّ عزمًا وزخمًا وصلابة في مواجهة المحتلين. فالمقاومة في جوهرها فكرة، ولا يمكن اغتيال الفكرة، بل على العكس من ذلك، تزداد المقاومة قوة بقدر ما تزداد حجم التضحيات. لذلك، فإننا على المسار السليم والمستقيم ولو كانت التضحيات جِساماً.
لقد كان شهيدنا الأعزّ، أمة في رجل، ومخلصاً في نصرته لفلسطين ودفاعه عن لبنان حتى فناء الذات في سبيل الله، والذي يُمثل ذروة العطاء. كان ضنيناً على فلسطين كضنين الأب على أبنائه، لذا فمن حقه علينا أن نحمل أهدافه ومشروعه لنصرة المستضعفين والمقهورين في هذا العالم البائس الذي لا مكان فيه إلاّ للأقوياء. وفي محضر طيفه، لا يسعنا إلاّ أن نقول” ألا إنّ نصر الله قريب”.