غزة ونشيج القوافل

رويدا البعداني

 

على جادةِ الطرقات تمتدُ قوافل من النزوح بخطٍ أعرج لا يكادُ ينتهي، يمشون على قلوبهم المحطمة حاملين غربتهم معهم، والقليل من الحقائب الفارغة من الحياة الممتلئة بالخيبة، كل الاتجاهات تؤدي بهم إلى الموت، لا سبيل للنجاة، يلوذون شمالًا وجنوبًا، فيلاقون حتفهم بأبشع الطرق دموية على الإطلاق، يفترشون الطرقات مأوى لهم فيقصفون، يتخذون من بقايا منازلهم شبه أسقفٌ تُقيهم من هجير الشمس وجور النيران وتعسف العدو، ولكن سُرعان ما توأدُ الحكاية ويلاقون مصرعهم.
في غزة تُبنى البيوت للهدم ليس إلا، وتُعمر المنشآت للسحق والدمار الشامل، يُنجبُ الأطفال للمقابر لا للحياة، تُزف البنات ليصبحن أرامل، الناجي من غزة يرجو الموت، كونه أهون من الاستيقاظ على عتمة الجوع والنوم على أزيز القذائف والصواريخ وحشرجات الأنين، في غزة يجثو الفقد على أرائك القطاع، فلا يغادره منذُ الفلق وحتى الغسق، ويحوم شبح الموت حول المخيمات على مدار الساعة، في غزة يتسكعُ الضيم في الأزقة والشوارع والممرات ومن يُجابهه يُسفك دمه، وتنتهي قصته، في غزة يصرخُ الركن المنسي مناديا للنازحين قسريًا: عودوا فلازلتُ أحتضن الكثير من رفات فلذات أكبادكم.
كم نحتاجُ عمرًا من التجلد لنترجم وقع اللحظة الأليمة ليدٍ بعمر الخمسين تنزفُ وجعًا تُشير نحو عدسة الكاميرا “السبعة مع أمهم” سبعة لم يكن رقمًا مجردًا، بل حدث دامٍ سيظل في ذاكرة غزة للأبد، “هاي روح الروح” قالها بأنفاس مضطربة بلا روح وهو يلملمُ أطراف جسدها المغلفُ بالدم، لم يُسعفه الوقت ليبكي حينها، ولربما لم يُذعن للحقيقة المبرحة بعد، وسيكمل عمرهُ حاملا لها من مكان إلى مكان ليعيد لها الروح، وعن الطفلة هند التي ظلت لساعات طويلة ترزح تحت وطأة الحصار داخل السيارة بجانب خمسة جثث هامدة، كم استهلكت من العمر وهي تنتظر بخوف وجزع سيارة الإسعاف التي استقبلتها رشاقات الاحتلال قبل أن تصل، ماذا عن يوسف وحذيفة وكمال؟ وحمزة وتطول قائمة المُصاب وتطول، كم نحتاج لأيادٍ نمسح بها يتامى غزة، ونربتُ على الثكالى والمعطوبة أحلامهم؟.
وعلى الضفة المجهولة ثمة مشاهد فيها الحياة قاب قوسين أو أدنى، أحداث تحكي عن الموت المؤجل والاحتضار ببطء غابت عنها شمس الإعلام ولم يتسن للعدسة توثيقها، لحظات الوداع الأخير والنهاية المُرة والتلويحة المخضبة بالدم، إنها تلك الآلام العظيمة التي تكبدها أهالي غزة الأعزة في خضم خذلان عربي مقيت، وستبقى هناك حقارة خلدت نفسها بأحرف الدناءة على مرِّ العصور، لتكون تلك الجرائم هي من أحلك الصور والأكثر دموية ووحشية في تاريخ البشرية على الإطلاق. فليس هناك شعب قد رزح تحت وطأة المعاناة، وعاش تحت ظلال الضيم والإجحاف طيلة القرن العشرين على يد المشروع الصهيوني كما الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من هذا فإنه قاوم، وجاهد، وقاتل، وثبُتَ، ولازال واقع اليوم كفيلًا بأن يتحدث.

قد يعجبك ايضا