الهجوم السيبراني الواسع الذي شنته أجهزة مخابرات الكيان على لبنان، تجاوز في الواقع كل قواعد الاشتباك التي ظلت تحكم مسار المواجهات المسلحة بين الكيان والمقاومة اللبنانية، بما جعل حالة التوتر الراهنة مفتوحة على كل الاحتمالات خصوصا بعد التحركات الإسرائيلية العسكرية الواسعة النطاق على الحدود اللبنانية وتنفيذها غارات استباقية هي الأوسع منذ حرب 2006م.
الثورة / أبو بكر عبدالله
لا يزال العالم يعيش وقع أصداء الهجوم السيبراني الذي شنه مؤخرا جيش الاحتلال الإسرائيلي على حزب الله بجنوب لبنان، وسط تفاعل دولي غير مسبوق حيال هذه العملية التي أثارت انتقادات دولية وأممية من مخاطر تحويل الأجهزة ذات الاستخدام المدني إلى أسلحة قد تجر المنطقة إلى حرب شاملة.
في الجولة الأولى للهجوم أفاق اللبنانيون صبيحة الثلاثاء الـ 17 من سبتمبر على انفجارات متزامنة ومتتالية للكثير من أجهزة البيجر التي يستخدمها عناصر حزب الله للتخفي عن برامج التجسس الإسرائيلية في عملية أوقعت الكثير من القتلى والجرحى، قبل أن يعاود الكيان جولة هجوم ثانية استهدفت تفجير البيجرات وأجهزة الاتصالات وفحص بصمات الأصابع، لترفع عديد الضحايا إلى 26 قتيلا وأكثر من 3 آلاف جريح.
العملية التي وصفت بأنها اختراق أمني غير مسبوق لحزب الله، سجلت انفجار أجهزة الاتصالات بصورة فردية على الضحايا وأدت إلى اشتعال النيران في 60 منزلا ومتجرا وحوالي 15 سيارة وعشرات الدراجات النارية، في حين انفجرت مئات الأجهزة في الطرقات بعد أن تخلص أصحابها منها على وقع هذه الانفجارات.
ورغم عدم إعلان دولة الكيان مسؤوليتها عن هذه الهجمات إلا أن كل المعطيات المتوفرة أكدت أن الهجمات من تخطيط وتنفيذ الموساد الإسرائيلي، وكانت بمثابة مرحلة ثانية من عملية استخباراتية إسرائيلية واسعة استهدفت شبكة اتصالات حزب الله وسعت إلى ضرب منظومة القيادة والسيطرة، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها.
أهداف إسرائيلية
حتى اليوم بدا أن الأهداف الرئيسية لإسرائيل من هذه العملية قد فشلت، فهي استهدفت ضرب مراكز القيادة والسيطرة للمقاومة وخلق حالة ارتباك وانعدام للتواصل والتنسيق بين قيادات الحزب ومقاتليه في حال اندلعت حرب شاملة، غير أن شكوك بعض مقاتلي حزب الله من هذه الأجهزة وخطورتها دفعها للتسريع بتنفيذ الجولتين الأولى والثانية قبل أن تبدأ الحرب.
وهدم المعنويات وإثارة الشكوك بشأن قدرة المقاومة على خوض حرب طويلة مع العدو الإسرائيلي، والتأثير على الحاضنة الشعبية لحزب الله وإثارة المخاوف من خطورة خوض المقاومة حرب شاملة مع العدو، كان هدفا رئيسيا للهجمات بعد أن راهن الاحتلال أنها ستقود إلى ضغوطات على القيادات العليا لتقديم تنازلات للوصول إلى اتفاق سياسي مع حكومة الكيان يفصل جبهتي لبنان وغزة وينهي الحرب الدائرة مع إسرائيل على الحدود اللبنانية.
هذا الأمر عبر عنه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله الذي أكد أن الهجمات الإسرائيلية استهدفت فصل جبهتي لبنان وغزة ووقف جبهة الإسناد اللبنانية باعتبارها إحدى أهم أدوات التفاوض التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية.
غير بعيد عن ذلك أن حكومة الكيان استهدفت من الهجمات إشاعة حالة من الارتياب والقلق في صفوف مقاتلي حزب الله قبل اندلاع الحرب الواسعة المحتملة وتسجيل خسائر كبيرة في صفوفهم تؤثر على الروح المعنوية للمقاتلين وتمكن دولة الكيان من تحقيق انتصار شكلي يقودها إلى استعادة توازن الردع الذي فقدته خلال شهور حربها الوحشية في قطاع غزة.
وعلى المستوى السياسي فإن المؤكد أن رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو لم يرد بهذه العمليات تحقيق انتصار عسكري بل أراد تحقيق انتصار سياسي بعد أن جعل من هذه التفجيرات رسائل تطمين إلى الداخل الإسرائيلي بمدى عزم الجيش الإسرائيلي على حماية المستوطنين وقدرته على خوض حرب على أكثر من جبهة.
أما على المستوى الخارجي فقد كان واضحا أن الهجمات استهدفت الحاق أضرار كبيرة بالمقاومة لدفعها لخوض حرب شاملة توفر لدولة الكيان الذرائع لجر الولايات المتحدة إلى حرب ضد إيران.
نذر الحرب الشاملة
أكثر ما يمكن ملاحظته في نتائج الهجوم السيبراني الإسرائيلي على حزب الله، هو التحركات العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق على الحدود اللبنانية والتي قدمت مؤشرات كافية بأن جيش الاحتلال أراد بهذا الهجوم توفير الغطاء الملائم لقواته في الانتشار والتموضع على الحدود الشمالية ولا سيما القوات العسكرية التي قرر الاحتلال سحبها من قطاع غزة والتي كان يمكن أن تتعرض لهجمات في طريقها إلى الحدود الشمالية.
ما يؤكد ذلك إعلان الكيان بعد مضي ساعات قليلة من الهجوم أن معظم قواته النظامية صارت متمركزة في الجبهة الشمالية على الحدود اللبنانية، وبينها فرقة الكوماندوس رقم 98 التي انتقلت بكل عتادها وجنودها من قطاع غزة إلى الحدود الشمالية مع لبنان بعد أن لعبت دورا مركزيا في الحرب الصهيونية الوحشية على قطاع غزة.
زد على ذلك تسارع الخطوات العسكرية الإسرائيلية، فخلال ساعات قليلة أيضا أعطى مجلس الحرب الإسرائيلي رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه الصلاحيات الكاملة لشن عمليات هجومية شاملة ضد حزب الله دون الحاجة إلى التشاور مع الحكومة أو مجلس الأمن القومي، واللذين بدورهما أوصيا جيش الاحتلال بالاستعداد لإطلاق عملية برية جنوبي لبنان لإنشاء منطقة أمنية على الحدود بين لبنان وإسرائيل، على حد زعمهم.
تلى ذلك مصادقة جيش الاحتلال على الخطط الهجومية والدفاعية في الجبهة الشمالية، بالتزامن مع إبلاغ حكومة الكيان واشنطن استعدادها لتنفيذ عملية عسكرية برية في جنوب لبنان تستهدف إنشاء منطقة أمنية على الحدود من خلال تصعيد متدرج يتلوه إعلان الكيان المناطق الحدودية مع لبنان جبهة حرب رئيسية.
وبدت نذر الحرب الواسعة بصورة أكثر وضوحا في التصريحات التي أطلقها قائد لواء الشمال بجيش الاحتلال الذي أكد أن قواته جاهزة لاحتلال شريط أمني على الجانب اللبناني، بالتزامن مع ألقاء الطائرات الحربية للاحتلال منشورات ورقية تدعو سكان المناطق الحدودية في جنوب لبنان بالإخلاء حتى نهاية الحرب.
هذه التداعيات عززت اليقين لدى الأطراف العربية والدولية باحتمالات النشوب الوشيك للحرب الشاملة على الحدود اللبنانية، ما دعا واشنطن إلى مباشرة تنفيذ خطط لإجلاء مواطنيها من لبنان بالتزامن مع خطط لإجلاء نحو 50 ألف أميركي يقيمون في قبرص.
خيارات استراتيجية
الهجمات السيبرانية الإسرائيلية على حزب الله، وضعت قيادة الحزب التي طالما التزمت بقواعد اشتباك صارمة طوال الشهور الماضية أمام خيارات صعبة للغاية، بأن يتجه إلى التصعيد الكامل ويخوض حرب انتقامية واسعة على دولة الكيان أو أن يُرتب لرد محدود لن يكون مرضيا لقواعده ولا لأنصاره في لبنان وفي محور المقاومة بصورة عامة.
ويبدو أن حزب الله قد حسم خياراته بالرد على الهجوم الإسرائيلي بهجوم مماثل، وهو خيار استراتيجي مهم للغاية في هذا التوقيت كونه قلب التحضيرات والاستعدادات الإسرائيلية في جبهات الشمال رأسا على عقب وفوّت على حكومة الكيان فرصة تحقيق انتصار وهمي تحتاجه لمواجهة مشكلاتها الداخلية الخارجية.
لكن التقديرات تشير إلى أن رد المقاومة على الهجمات الأخيرة لن يجعل إسرائيل ولبنان في معزل عن الحرب الشاملة ففي حال كان الرد واسعا وعنيفا فهو سيعني كسرا كاملا لقواعد الاشتباك خصوصا بعد الخطوات التي شرعت فيها حكومة الكيان بنقل مركز الثقل لقوات جيش الاحتلال من قطاع غزة إلى الجبهة الشمالية.
وفي حال كان الرد محدودا فالمرجح أن الجانبين سيدخلان مرحلة جديدة من الترقب والمناوشات الكبيرة خصوصا بعد التعهدات التي أطلقها السيد حسن نصر الله بأن المستوطنين الذين يقطنون المناطق الحدودية لن يعودا إلى قراهم السابقة كما تخطط حكومة الاحتلال.
وهذا الوضع بلا شك لن يساعد حكومة الاحتلال بتحقيق أهدافها بحمل حزب الله على الانخراط بتسوية سياسية تخمد النيران في هذه الجبهة، بعد أن وضعت المقاومة اللبنانية شرطا وحيدا لوقف إسنادها العسكري لجبهة غزة، وهو وقف الحرب الإسرائيلية على الضفة والقطاع.
حسابات ورهانات
رغم تعهد حزب الله بالرد على الهجمات الإسرائيلية “بحساب عسير وقصاص عادل من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون” إلا أن المُرجح عدم مسارعة الحزب للرد في المدى القريب إذ أن أمامه اليوم الكثير من الخطوات ليفعلها قبل الرد وتشمل إجراءات احتواء الهجمات وتقدير الأضرار على المستويات العملياتية والأمنية واللوجيستية وجهود إعادة البناء التنظيمي وملأ الفراغات قبل الشروع بعملية الرد.
بالمقابل فإن الاستفزازات الإسرائيلية لن تتوقف خلال الفترة القادمة، بعد أن أطلق رئيس حكومة الاحتلال وعودا بإعادة المستوطنين إلى قراهم في الحدود الشمالية، خصوصا وأن خطوة كهذه لن تمضي بالسهولة التي يتوقعها نتنياهو بل ستواجه بقوة من المقاومة اللبنانية التي ستعمل ما بوسعها لإفشال هذا الهدف.
وهذه المعطيات ليست الوحيدة في صياغة المشهد القادم، فعلى المستوى الإسرائيلي لا يزال الجدل محتدما بين اليمين المتطرف الذي يقول إن حالة الارتباك التي خلفها الهجمات على حزب الله تتيح فرصة ثمينة لشن عملية عسكرية عليه وقطع الطريق أمام حزب الله للتعافي وبناء أنظمة اتصالات جديدة وتجديد مقاتليه، وبين القوى الأخرى التي ترى أن الوقت التوقيت لن يكون ملائما لجيش الاحتلال الذي لا يزال غارقا في حربه الوحشية بقطاع غزة.
وإعلان وزير الدفاع الإسرائيلي بجهوزية الجيش للتصعيد مع لبنان لا يعني ان هناك قرارا نهائيا بالحرب، حيث وهناك مخاوف واسعة من أن التصعيد في الجبهة الشمالية قد يؤثر على مستوى الضغط العسكري لجيش الاحتلال في قطاع غزة.
طبقا لذلك تذهب التقديرات إلى أن رئيس وزراء حكومة الكيان بنيامين نتنياهو لا يريد خوض حرب شاملة مع حزب الله ومحور المقاومة، والمرجح أنه يأمل بحرب متوسطة لا تستهلك الجيش الإسرائيلي كون قواته لا تزال منهكة من جراء حرب غزة التي تدخل قريبا عامها الثاني.
ما يرجح ذلك أن حكومة الكيان لم تستدع حتى اليوم قوات الاحتياط التي يفترض استدعائها في حال الترتيب لحرب واسعة، وهو معطى يقلل من احتمالات أن تشن إسرائيل حرب واسعة على لبنان خلال الأيام القادمة، وقد تكتفي لذلك بعملية عسكرية محدودة لإبعاد حزب الله عن المناطق الحدودية.
نهايات غير سعيدة
مع الإقرار بالخسائر الكبيرة التي أحدثتها الهجمات السيبرانية الإسرائيلية في جنوب لبنان، إلا أنه يصعب القول إن ما حدث قد منح الكيان الإسرائيلي انتصارا ولو شكليا.
ذلك أن سلطة الاحتلال استخدمت في هذه الهجمات آخر ما لديها من أوراق، في حين أنها أيقظت بالمقابل المقاومة والدولة اللبنانية ورفعت مستوى الاحتياطات الأمنية لدى المقاومة بصورة غير مسبوقة.
وقد صار معلوما أن مخطط الهجمات الإسرائيلية بتفجير أجهزة الاتصالات في جنوب لبنان لم يكن جديدا، بل كان ضمن الاحتياط التعبوي الاستراتيجي الذي ادخره جيش الاحتلال للاستخدام في حال نشوب حرب واسعة مع حزب الله، ولذلك لم يستخدموه طيلة الشهور الماضية من المواجهات الحدودية، ليكون ورقة الحسم في حال تطور المواجهات المحدودة إلى حرب واسعة.
ومع أن احتمالات استعداد الكيان بأسلحة استخباراتية وتقنية أخرى يبقى أمرا واردا إلا أن الكشف عن هذا السلاح قلل وسيقلل من خطورة أي أسلحة أخرى لا يزال تخفيها، خصوصا بعد أن وضعت هذه الهجمات المقاومة والدولة اللبنانية وأكثر دول العالم في حالة طوارئ تجاه أدوات الحرب الاستخباراتية..