أكثر من ثمانية أشهر مضت وأفعال جريمة الإبادة الجماعية مستمرة ومتتابعة، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أطفالا ونساء وشيوخا، يوميا وعلى مدار الساعة، ودمار شامل لكل ما له علاقة بحياة الإنسان، كل ذلك بفعل آلة الإجرام الصهيوغربية المنحطة، التي لا يحمل مستخدمها أي قيمة إنسانية أو أخلاقية، لم يراعِ المجرمون لا شهر ولا عيد الفطر ولا عيد الأضحى، وكانت وما زالت كل ساعات وكل أيام الأشهر الثمانية، وما زاد عليها من ليال وأيام كلها شاهد على تتابع واستمرار جريمة القرن ومأساة كربلاء العصر.
وانطلقت بالتزامن مع ما مضى من زمن على تتابع أفعال جريمة الإبادة الجماعية، جولات مكوكية ظاهرها وساطة، وهدفها المعلن وقف ما يسمونه بالحرب على غزة، لكن الحقيقة أن باطن تلك الجولات مد زمن الجريمة، ليتمكن المجرم من استكمال فصولها، وهدفها تضليل الرأي العام وصرفه عما يرتكبه جيش الاحتلال الصهيوني مسنودا بالقوى الاستعمارية الغربية من فضائع يندى لها تاريخ البشرية.
تلك الجولات المكوكية بطلها الوسيط الأمريكي اليهودي الصهيوني بلينكن، الذي أعلن في أول زيارة له إلى دولة كيان الاحتلال الصهيوني، عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، أنه يهودي صهيوني قبل أن يكون وزيرا لخارجية أكبر قوة إرهابية على وجه الأرض، هذا الإرهابي (بلينكن) في كل زيارة للعواصم العربية يستقبله حكامها بحفاوة بالغة، وابتسامات عريضة، لا تنم أبدا عن توافر نسبة ولو ضئيلة من الإحساس بالمسؤولية، تجاه إخوة لهم تربطهم بهم روابط الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك، يتعرضون لأبشع محرقة في تاريخ الإنسانية، والأبعد من ذلك أنهم يطلقون لألسنتهم العنان للتعبير والتوصيف، وفقا لما تنضح به قرائحهم ومخيلاتهم، فنجدهم يتحدثون بكل أريحية عن طرفي النزاع المسلح! وعن الجهود المبذولة من جانبهم لردم الهوة بين الطرفين، للوصول لوقف دائم لإطلاق النار! وضرورة أن يتنازل كل منهما للآخر! وعدم التمسك بمواقف حادة من شأنها أن تحبط الجهود الكبيرة! للوسطاء وللشركاء الهادفة إلى وقف الحرب!
ولعمري أن ما يصفون وبه يتحدثون، يتجاوز في الإثم ما يقترفه الصهاينة المجرمون! فكيف يسوغ عربي مسلم لنفسه أن يلتقي الصهيوني بلينكن بكل تلك الابتسامات العريضة؟ في مقابل إعراضه عن تلك الصرخات المدوية للطفولة المخذولة المذبوحة في قطاع غزة، وتلك الاستغاثات المستمرة المزلزلة للأمهات الثكالى بفقد أحبائهن!
وكيف يسوغ عربي مسلم لنفسه أن يتحدث بكل جرأة عن طرفي الصراع المسلح في غزة؟ وكيف لعربي مسلم يسوغ لنفسه أن يجعل من غزة المحاصرة المدمرة وأهلها المسفوكة دماؤهم والممزقة أشلاؤهم على قارعة الطريق، طرفا في النزاع المسلح؟ كيف لعربي مسلم أن يسوغ لنفسه القول بفخر واعتزاز، ومنذ أكثر من ثمانية أشهر، أن الوسطاء جادون، وأن الوساطة مستمرة في مقابل إعراضه عن الحديث بجد وبحرقة عن أفعال الإبادة الجماعية المستمرة والمتتابعة بحق الأطفال والنساء والشيوخ في قطاع غزة؟
كيف لعربي مسلم أن يسوغ لنفسه القول أن جهودا حثيثة ومستمرة تُبذل لردم الهوة بين الطرفين؟
إنها لأغرب وساطة في التاريخ، صفة، وإنهم لأشد الوسطاء مكراً وتضليلاً وخداعاً منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها! كيف يمكن أن يوصف المجرم بلينكن الأمريكي اليهودي الصهيوني بأنه وسيط؟ وهو وإدارته المجرمة يشتركان بشكل علني واضح ومكشوف في ارتكاب أفعال جريمة الإبادة الجماعية جنبا إلى جنب مع فاعلها المباشر جيش الكيان الصهيوني في كامل النطاق الجغرافي لقطاع غزة انتهاء بمخيم النصيرات، أما ابتداء فالحديث يطول ولا يتسع المقام أبدا لسرد جهود هذا الوسيط المجرم وإدارته في إمداد الفاعل المباشر بكافة القنابل والصواريخ والمعدات الحربية المتطورة والفتاكة، التي لولاها ما سفك الصهيوني قطرة دم طفل فلسطيني!
ويطول الحديث أيضا ولا يتسع المقام عن المليارات من الدولارات والمنح المالية من إدارة الإجرام والإرهاب الدولي إلى الكيان المجرم، ليعزز بها موقفه الإجرامي ووضعه الداخلي، ويطول الحديث كذلك ولا يتسع المقام لتقصي مضمار الغطاء السياسي، الذي وفره الوسيط المجرم بلينكن وإدارته للكيان الصهيوني، والاستماتة في ما سمي بحقه في الدفاع عن النفس، الذي لا يتحقق من وجهة نظر أكابر المجرمين إلا بنزع الحق في الحياة عن كل حي في قطاع غزة صغيرا أو كبير! واقتلاع كل شجرة، وتسوية كل بناء قائم بالأرض!
فأي مستوى من والسخف والانحطاط وصل إليه الحكام العرب؟ وأي مستوى من الذل والخنوع وصلت له الشعوب العربية، التي تشاهد بأم العين ما تعرض له ويتعرض له إخوانهم من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟ مؤسف جدا أن في الجوار شعب عربي مسلم كبير يزعم حاكمه أنه وسيط موثوق! وما أدراك ما هذا الوسيط؟ هذا الوسيط سبق أن أعلن موقفه صراحة، ومنذ بداية الجريمة مؤيدا ما يسمى بحق الكيان المجرم في الدفاع عن النفس!
فكيف يمكن لمن هذا موقفه أن يكون وسيطا؟ وكيف للوسيط الأمريكي بموقفه المكشوف والمفضوح أن يكون وسيطا؟ وكيف للوسيط العربي الآخر المتواطئ والمتعاون مع أكابر المجرمين في الأرض أن يكون وسيطا؟ لا غرابة أبدا والحال هذه أن تستمر أفعال الإبادة مع استمرار الوساطة.