الأمة العربية ومأساة فلسطين

طاهر محمد الجنيد

 

إن استعراض بعض المحطات الهامة التي مرت بها مأساة فلسطين، يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك عملاً متناسقاً ومخططاً له، ولم يكن وليد أفكار لحظية، أو مغامرة عابرة، بل تم تنفيذه عبر مراحل مترابطة، وحلقات متسلسلة بدأت بتحطيم أواصر الالتقاء بين الإسلام والعروبة، وتكاملت جهود صهاينة النصارى مع صهاينة اليهود، وصهاينة العرب جنباً إلى جنب حتى تم تسليم فلسطين كهدية وثمرة لهذا التعاون، كانت الحركات الجهادية هي الخاسر الأكبر في هذه المعادلة؛ لأنها هي المعول عليها في مواجهة المخططات الإجرامية وتحرير فلسطين، الشهيد عبدالقادر الحسيني –قائد معركة القسطل وجه رسالة إلى الجامعة العربية مستنجداً بها طالباً إمداده والمجاهدين معه بالسلاح، أما الرجال فلديه الكثير “جئتكم أطلب سلاحاً لأدافع به عن فلسطين، أما وقد خذلت، فأبلغكم أننا لن نرمي السلاح حتى النصر أو الشهادة، أنا ذاهب إلى القسطل، ولن أسأل أحدكم أن يرافقني؛ لأنني أعرف حقيقة مواقفكم، ولكني أحذركم بأن التاريخ سيكتب أنكم خذلتم الأمة، وبعتم فلسطين، وأن التاريخ لن يرحم أحداً”، فلسطين لم يبعها أهلها، وإنما باعها العرب بخذلانهم وعمالتهم للغرب بريطانيا وأمريكا وفرنسا وغيرها من الدول التي أنشأت الكيانات السياسية –آنذاك-، استشهد عبدالقادر الحسيني، وتمت إبادة كل أو معظم المجاهدين معه، ومثل ذلك حدث أيضاً مع الشهيد القائد عزالدين القسام، وتحوَّلت المقاومة بعد سيطرة الجماعات الإرهابية اليهودية إلى لاجئين في الأردن وسوريا ولبنان وغيرها من دول الطوق.
انتشى اليهود والمتحالفون معهم وركزوا جهودهم على تصفية المجاهدين المتبقين على أرض فلسطين، واستعانوا بأعوانهم على إبادة المقاومة ورجالها سواء بتسهيل عمليات الاغتيالات لهم (قيادتها)، أو ببث المؤامرات والقضاء عليهم، فتم تدبير محرقة أيلول الأسود بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية لأنها تشكل أقرب نقاط التماس مع حدود فلسطين، وذلك بعد أن أثبت الواقع أن تلاحم الجيش الأردني مع المقاومة حطم وأباد الجيش الصهيوني في معركة الكرامة.
حينما أراد أن يوسع نفوذه إلى أراضي الضفة الشرقية التي تسيطر عليها الأردن، وفي لبنان تم تدبير مذبحة لا تقل عن سابقتها من قبل المليشيات الموالية لإسرائيل، ولم يتم إيقاف الحرب على لبنان إلا بشرط إجلاء المقاومة الفلسطينية وإخراجها من لبنان، ولكن بعد مذابح إجرامية، منها مذابح مخيم صبرا وشاتيلا، وبعد أن تم تحطيم والقضاء على جيش المقاومة الفلسطينية تم ترحيل البقية إلى الدول العربية ومنها اليمن، وفي الاتجاه المقابل تم إشعال الحرب الأهلية، وإفساح المجال لإسرائيل للتمدد في الأراضي اللبنانية، وساعدته على ذلك المليشيات المتعاملة معه والعميلة له حتى أنها غادرت إلى عمق الأراضي الفلسطينية بعد انسحابها من جنوب لبنان خوفاً من انتقام الشعب اللبناني منها لما ارتكبته من جرائم لمساندة الاحتلال.
سوريا احتضنت المقاومة للمراهنة على نشاطها في استعادة أرض الجولان المحتلة، وليكون لها دور أساسي في التسوية وأي مفاوضات في المستقبل، ولذلك لم تسمح لها بممارسة نشاطها انطلاقاً من أراضيها واقتصر نشاط المقاومة على التصريحات الصحفية لقياداتها، وحينما يزداد الضغط على الحكومة السورية فإنها تقوم بتقليم أظافرها واتخاذ إجراءات قمعية ضدها.
ولعبت مصر دوراً محورياً في مساندة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين بالمال والسلاح، وحققت نجاحات ملموسة في بداية الأمر، لكن مسار الأمر هو ما سجله الشهيد عبدالقادر الحسيني من خذلان الجامعة العربية فيما بعد للقضية الفلسطينية، وتفاقم الخذلان عقب إبرام معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والتي كان من بنودها تصفية القضية الفلسطينية بموجب الاتفاق الذي أعطى الصهاينة أكثر مما يطلبون، وكان نص الفقرة (2): “يتعهد كل طرف بأن يكفل عدم صدور فعل من أفعال الحرب، أو الأفعال العدوانية، أو أفعال العنف، أو التهديد بها من داخل أراضيه، أو بواسطة قوات خاضعة لسيطرته، أو مرابطة على أراضيه ضد السكان أو المواطنين أو الممتلكات..
كما يتعهد كل طرف بالامتناع عن التنظيم أو التحريض أو الإثارة أو المساعدة أو الاشتراك في فعل من أفعال الحرب العدوانية، أو النشاط الهدام، أو أفعال العنف..”()، وهي تعهدات صريحة بحماية إسرائيل والمصالح الإسرائيلية، ومنع المقاومة ومساعدة الصهاينة في الحد من نشاط المقاومة على أرض مصر ومعاقبتها إذا تم أي فعل من أفعال التخطيط هناك.
وهكذا أمَّن الكيان الصهيوني آخر جبهة يمكن أن تشكل عامل دعم وإسناد للمقاومة، فمارس أبشع أنواع الإجرام في حق الأشقاء داخل الأراضي المحتلة، وهنا جاءت اتفاقيات السلام لتحاصر الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية وبأسلوب ماكر خبيث أرادوا أن يستخدموا السلطة لضرب الشعب الفلسطيني، وضرب الحركات المقاومة التي لم تعترف بالكيان، الجمعية العامة أكدت بطلان اتفاقيات السلام التي تصادر حقوق الشعب الفلسطيني، ومنها اتفاقية كامب ديفيد للآتي():-
أنها عقدت خارج إطار الأمم وبدون إشراك منظمة التحرير ممثلة الشعب الفلسطيني.
ترفض أحكام هذه الاتفاقيات التي تتجاهل أو تخالف أو تنتهك أو تنكر حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما في ذلك حق العودة، وحق تقرير المصير، والحق في الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية في فلسطين وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، والتي تتوخى استمرار احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية التي تحتلها منذ عام 1967م وتتغاضى عنه.
تدين بشدة جميع الاتفاقيات الجزئية والمعاهدات المنفصلة التي تشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الشعب الفلسطيني، ومبادئ الميثاق.
تعلن أن اتفاقية كامب ديفيد وغيرها من الاتفاقيات باطلة من حيث ادعائها البت في مستقبل الشعب والأراضي الفلسطينية.
مارس الكيان الصهيوني جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية من حصار ومصادرة للأراضي وكسر أيادي أطفال ورجال الحجارة، بالإضافة إلى التمييز العنصري والأسلاك والأسوار العازلة وحاصر السلطة الفلسطينية وقام بعمليات الاغتيال لقيادات الجهاد والنضال الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها وساعده على ذلك التنسيق الأمني مع السلطة وغيرها من الأنظمة العربية، فهو يرى أن استخدام القوة والتنكيل بالأعداء يحقق أفضل النتائج، كما جاء في بروتوكولات صهيون “يجب أن يلاحظ أن ذوي الطبائع الفاسدة من الناس أكثر عدداً من ذوي الطبائع النبيلة، وإذن فخير النتائج في حكم العالم ما ينزع بالعنف والإرهاب، لا بالمناقشات الأكاديمية”- البروتوكول الأول.
ولم تتوقف آلة القتل والإبادة الصهيونية عن هذا الأسلوب، وميدان غزة وساحتها خير دليل وشاهد على عقليات الإجرام الصهيونية، فهي ليست حرب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية الأولى، ولن تكون الأخيرة؛ لأن الإجرام الصهيوني طبع لا تطبع وعقيدة تدرس ودين يتبع.

قد يعجبك ايضا