السياسة – كما يقال – صناعة نستطيع توفير خاماتها من الفرص التي تتركها بين أيدينا، ونحن فيها أمام خيارين: إما الاقتناص واستغلال اللحظات، أو التفويت، ومن فاتته الفرص ولم يستغلها ترمد في ميدان السياسة .
فالذي حدث ويحدث كان تحولاً كبيراً في المسارات، وتلك التحولات سوف تترك آثاراً عميقة في البناءات وفي مسارات اللحظة والمستقبل، تترك آثاراً على اللحظة من خلال ما تتركه من ظلال على النظام العام والطبيعي، وتترك ظلالاً على المستقبل من خلال ما تقوم به اللحظة من تأسيس لقضايا ستكون هي ملامح المستقبل، ولذلك فالصناعة تبدأ من اللحظة التي نعيش ونشهد تبدلاتها وتحولاتها العميقة سواء في المسار اليمني أم في المسار الدولي فكلا المسارين يتكاملان ويتركان أثراً واضحاً على الصناعة وعلى المستقبل .
وأمام مثل ذلك تصبح حاجتنا إلى المعرفة في البناء المتناغم مع الجذر التكويني والمتفاعل مع المتغيرات العصرية أكثر ضرورة وأشد إلحاحاً في ظل ما شهدناه من حالات جدل واسع حول بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني، فالقوالب الجاهزة والنماذج العالمية في شكل الحكم ونمطه لم تتأثر بها الدولة اليمنية التاريخية، بل ابتكرت نموذجها الخاص وشكلها المعبّر عن تكوينها وأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولذلك رأينا التناقض بين النماذج والأشكال التي خضنا تجربتها في تاريخنا المعاصر وبين حاجات المجتمع الذي نسوس ضروراته التحديثية، إذ نشأت حالات تصادمية بين مكونات المجتمع والتعبيرات السياسية مثل حالات الصدام بين المؤسسة الدينية والقوى الطلائعية، والصدام بين الرموز الاجتماعية والدولة، فالصدام مع المؤسسة الدينية أوقعنا في حفرة الفراغ الحضاري والثقافي، الذي عمل على إنتاج ازدواج الشخصية، وتنافر السلوك الذي شكل تعارضاً بين الفكر والممارسة، والصدام مع الرموز الاجتماعية عمل على تعطيل سلطة القانون وغياب الدولة واغتراب المجتمع، وسيادة الثقافة التقليدية، وبسبب ذلك ظلت كل العمليات التحويلية في ذات المربع الذي بدأته إذ كانت مظهراً شكلياً لم يلامس الأسس البنيوية للمجتمع، فالوحدة اليمنية مثلاً حملت مشروعاً نهضوياً وتحولياً كاد أن يصل إلى كل البنى المجتمعية بيد أن حرب 1994م حولت ذلك المشروع إلى ظاهرة شكلية، فالثقافة التقليدية تجلت ملامحها من خلال مشروع الشيخ الذي بدأ بعد 7 – 7 -1994م وعلى أثره كانت منظومة الحكم كلها ذات بُعد معياري واحد، فالسلطة التشريعية كان جلّ قوامها من الرموز الاجتماعية، والجهاز التنفيذي والأمني والعسكري خضع للمعيارية الاجتماعية وغاب القانون والاستحقاق الوظيفي فالعرف كان اقوى من القانون حتى في معيارية الوظيفة العامة، تلك المقدمات كانت سبباً مباشراً وغير مباشر في شعار الحراكين باستعادة الدولة، كرمزية على غيابها وطغيان مشروع الشيخ الاجتماعي الذي تماهى مع مشروع الشيخ الديني وكان مثل ذلك من العوامل المهمة في غياب الدولة واغتراب إنسان المحافظات الجنوبية، واغتراب إنسان المحافظات الجنوبية أكثر من اغتراب إنسان المحافظات الشمالية بسبب الحضور المكثف للدولة في الجنوب إبان فترة حكم الحزب الاشتراكي في حين كان حضورها حضوراً جزئياً في المحافظات الشمالية وأيضاً متفاوتاً بين الفينة والأخرى .
ما نخلص إليه هو القول، أن ثمة خصوصية يمنية يجب أن تجد تعبيراً عنها في رؤى وتجليات التغيير الجذري بحيث تمتد بصيغة تفاعلية مع الماضي لتبدع الحاضر والمستقبل، فالشعور بالقيمة الثقافية والحضارية هو الامتلاء الذي يبحث عن الأجد والأروع ويحض على الابتكار والإبداع ويعمق من قيمة الانتماء للفرد والجماعة ويوثق من عرى الآصرة الوطنية ويعزز من يمنية اليمن.
اليمن ذات عمق تاريخي ولذلك يستحيل عليها أن تتقبل قوالب الأنظمة التي ابتكرها الإنسان ولا القانون الذي تنافر مع منظومتها التشريعية الحضارية والتاريخية، وقد فشلت تجارب الماضي في صوغ دولة حديثة متناغمة ومستقرة لأنها تجارب لم تبتكر ولم تمتد بل جاءت من تجارب الغير فالأنظمة قوالب جاهزة ابتكرها الإنسان في بيئة غير بيئتنا، والقانون لم يكن متناغما مع التشريع الوطني والحضاري ” العرف ” بل نقلناه عن مصر ومصر نقلته من فرنسا ولذلك كان مغترباً ولم يلامس الواقع اليمني .
ومن هنا تتجلى حاجتنا إلى معرفة ثقافة اليمن الحضارية والتاريخية والاشتغال على تراثنا اللامادي لصوغ واقعنا المتناغم والمستقر منطلقين من خصائصنا وثقافتنا لا من ثقافة وتجارب غيرنا وتلك مهمة سهلة لو أخلصنا النوايا وأدركنا أهمية المعرفة في البناء وفي مساندة رؤية القائد في التغيير الجذري.