الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
تحدثنا من أمس على ضوء قول أمير المؤمنين عليًّا “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، عندما دخل إليه عبد الله بن عباس وهو في (ذي قار) الموضع القريب من البصرة، وهو يخصف نعله، فقال عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” مخاطباً لابن عباس: ((مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال “عَلَيْهِ السَّلَام”: وَاللهِ لَهِيَ أَحْبُّ إِليَّ مِنْ إِمْرَتِكُم، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً)).
تحدثنا عن إمرة عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” آنذاك، كونه أميراً للمؤمنين، على رأس دولة الإسلام التي تجمع البلدان الإسلامية، أو معظم البلدان الإسلامية آنذاك، هي الآن مجزأة إلى خمسين دولة، فأمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ” فيما يتعلق بهذا المنصب: أن يكون على رأس دولة الإسلام التي تجمع معظم بلدان المسلمين، ونستطيع القول: أن واقع الأُمَّة الإسلامية- آنذاك- في تلك المرحلة بالذات، أنها هي الدولة- ربما- الأقوى في الساحة العالمية، والأكثر حضوراً، وتأثيراً، وأهمية، وفاعلية على مستوى الساحة العالمية، ففي تلك المرحلة، بذلك المستوى، ليس لذلك المنصب عند أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ” قيمة تساوي قيمة النعل الذي كان يصلحه- وهو نعل بسيط لا قيمة له- فيما إذا لم تكن لهدفٍ مهمٍ ومُقدَّس، هو: إقامة الحق، ودفع الباطل.
وهذا درسٌ مهمٌ جداً، يعلمنا كيف نتحرر من العشق للسلطة والمنصب، وهو ما تحدثنا عنه بالأمس؛ لأن من أخطر الظواهر السيئة، التي يترتب عليها آفات كبيرة في مواقع المسؤولية، هو: العشق للسلطة، والعشق للمنصب.
الإنسان إذا كان في موقع من مواقع المسؤولية في أي مستوى: أنت مدير عام، أو مدير في دائرة، أو قسم… في أي مستوى من مستويات مواقع المسؤولية، في أي موقعٍ منها، إذا كان الإنسان في هذا الموقع يعيش هذه الحالة من العشق للسلطة والمنصب، سيكون أداؤه لمسؤوليته متأثراً بتلك الروحية والنفسية، سيكون خاضعاً لأطماعه الشخصية لأهدافه الشخصية، وأيضاً متأثراً بما يلحق بذلك، من العمل وفق هوى النفس، وفق الأطماع، وفق الأهداف السيئة والسلبية، ستكون ممارسات الإنسان وأداؤه دائماً محسوبةً بحساب ما يتصور هو أنه سيحفظ له منصبه ذلك، وسلطته تلك، فيضحي بكل شيءٍ في سبيل ذلك، فتكون المسألة ليس فقط أنه لا قيمة لها، بل تكون قيمتها من نوعٍ آخر، قيمة سيئة، سيكون الثمن هو: أن يضحي الإنسان بدينه، أن يضحي بكرامته، أن يضحي بشعبه، أن يضحي بأمته، أن يضحي بإنسانيته، وأن يخسر كل شيء.
وهذا ما حصل من عشاق السلطة والمناصب، كانوا هم على مرِّ تاريخ الأُمَّة مصدراً للمظالم، والمفاسد، والمصائب، والويلات التي حلَّت بالأُمَّة، كانوا هم دائماً حماةً للضلال، ومصدراً للضلال، وكان دورهم سيئاً جداً، وصفحات التاريخ سوداء بما سطَّروه هم من إجرام، من ظلم، من طغيان، من مفاسد، من نهب، من سلب، من استئثار بخيرات الأُمَّة… وغير ذلك؛ ولذلك فعلى الإنسان أن يحرص على أن يكون بعيداً عن ذلك الداء والمرض الخطير جداً على نفسية الإنسان، وألَّا يكون الإنسان ممن يعيش حالة العشق للسلطة، والعشق للمنصب.
لو نتأمل في واقعنا الحاضر، ما تعانيه البلدان الإسلامية من الكثير من زعمائها ومسؤوليها، بمختلف مواقعهم ومناصبهم، من هذه النوعية الذين يعشقون السلطة، ويعشقون المنصب، ويفعلون أي شيء يتصورون أن فيه حفاظ على مواقعهم تلك، ومناصبهم تلك، وسلطتهم تلك.
على سبيل المثال: في ظل ما يعانيه الشعب الفلسطيني، في الهجوم الإجرامي، والإبادة الجماعية، التي يرتكبها العدو الإسرائيلي الصهيوني ضده في قطاع غزة، جرائم رهيبة جداً جداً جداً، من العار على المجتمع البشر أن يكون ساكتاً عنها، ومن العار أكثر، من العار المضاعف على المسلمين، على زعمائهم، وحكوماتهم، وجيوشهم، بكل إمكاناتهم ونفوذهم، أن يكونوا ساكتين ومتفرجين، نجد أن البعض متواطئ بكل ما تعنيه الكلمة مع العدو الإسرائيلي، ويتخذ مواقف مساندة للعدو الإسرائيلي؛ من أجل أمريكا، وتودداً إلى أمريكا، فَيُسخِّر إعلامه لخدمة العدو الإسرائيلي، البعض هناك- أيضاً- أخبار أنهم يُقدِّمون الدعم المالي للعدو الإسرائيلي، هناك كلام عن النظام السعودي أنه بمثل ما هو يُسخِّر إعلامه لخدمة العدو الإسرائيلي، أنه يُقدِّم الدعم المالي، أنه أيضاً بشكلٍ واضح يتخذ خطوات معادية لشعبنا اليمني؛ لأن شعبنا وقف مع الشعب الفلسطيني في موقف متميز، فيقوم النظام السعودي باتخاذ خطوات عدائية داعمة للعدو الإسرائيلي ضد شعبنا اليمني؛ استجابة لأمريكا، وطاعة لأمريكا، فهناك من هو متواطئ مع العدو الإسرائيلي، وداعم بأشكال معينة من الدعم، وهناك من هو متخاذل ومتفرج؛ كي لا يغضب الأمريكي، والمشكلة واضحة أنها في المسؤولين، في الزعماء، في منهم في موقع المناصب والسلطة؛ لأن الشعوب معروفةٌ برغبتها أن تكون في الموقف المشرِّف، المناصر للشعب الفلسطيني، وأنها تتألم لما يعانيه الشعب الفلسطيني، فما هي المشكلة؟ لأن الكثير من أولئك هم ممن يعشقون السلطة، ويعشقون المناصب، ويتصورون أنهم لو وقفوا الموقف المسؤول، الذي يمليه عليهم دينهم وإنسانيتهم وضميرهم، والمسؤولية الدينية، والإنسانية، والأخلاقية.. وغير ذلك، أنهم يخافون على مناصبهم وسلطتهم من أمريكا، من الأمريكي؛ بالتالي ظهروا في إمَّا موقف المتخاذل المتفرج، أو موقف المتواطئ الذي يُقدِّم الدعم بشكل أو بآخر للعدو الإسرائيلي، هذا شيء مؤسف جداً!
لو نتأمل فيما يفعله المرتزقة من أبناء شعبنا اليمني، تجندوا مع أمريكا بالواضح، وتجندوا تحت إمرة السعودي لأمريكا؛ لأن السعودي هو أميرهم، لكن تحت القيادة الأمريكية، ويظهرون ولاءهم للأمريكي، إلى درجة أنه يكفي الأمريكي أن يرسل بعضاً من منتسبي مخابراته، ليجمعوهم في إطار يسمونه على أنه إطار يتحدون فيه لمعاداة الشعب اليمني، ويتحركون فيه ضد الشعب اليمني في الوقت الذي تبنى شعبنا فيه الموقف المشرِّف لنصرة الشعب الفلسطيني، والعمل الواضح والصريح ضد العدو الإسرائيلي، هكذا يفعل أولئك عشاق السلطة، يخون وطنه، يخون شعبه، يعادي أمته، يعادي شعبه، يعادي دينه، يفعل أي شيء من أجل عشق السلطة والمنصب؛ لأنه يتصور أنه سيحصل على سلطة ومنصب تحت حماية أولئك، تحت حماية الأمريكي، يرى في الأمريكي آلهةً من دون الله، ويتصور أنه سيضمن معه مستقبله، مستقبله السياسي، أنه سيكون له منصب، في إطار حمايته، واعترافه، ومساندته، هذه مشكلة خطيرة جداً، مرض خطير للغاية! ما حصل على الشعب اليمني على مدى سنوات هو لهذا السبب، من ورائه أولئك، تلك النوعية، الذين يخونون الدين، والأُمَّة، والشعب، ويعادون حتى أهاليهم، وحتى قبائلهم ومناطقهم؛ من أجل العشق للسلطة والمنصب، وهي حالة خطيرة جداً عن الإنسان.
أيضاً من الحالات الخطيرة الناتجة عن ذلك: أن الإنسان إذا عشق السلطة والمنصب، حتى ولو طرأت هذه الحالة عليه، فيما لو كان تحرك ما قبل ذلك من أجل إقامة الحق ودفع الباطل، وعندما وصل إلى موقع معيَّن من مواقع المسؤولية، أصبح له منصبٌ معيَّن، أصبح عاشقاً لذلك الموقع، وشيئاً فشيئاً بدأت تلك الحالة وتلك المشاعر الإيجابية، التي كان يحملها فيما سبق، تتلاشى وتتضاءل، ويحلُّ بدلاً عنها العشق للسلطة والمنصب، والارتياح للاعتبار الشخصي والأهمية الشخصية، التي يتصورها في ذلك الموقع.
من ظواهر هذه الحالة: أن يصبح الإنسان له تعلقٌ واضح بذلك المنصب، يعني: لا يريد أن يبرح منه، ولا أن يفارقه، ولا أن ينتقل عنه، ولو إلى أي عملٍ آخر، مهما كان ذلك العمل الآخر عملاً مقدساً، أو مهماً، أو عظيماً؛ لأنه يرى في ذلك الموقع أنه يعطيه أهمية معينة، وأنه يحقق له مصالح معينة، معنوية، أو معنوية ومادية، فهذه الحالة أيضاً حالة خطيرة على الإنسان؛ ولهذا تعتبر مسألة التدوير الوظيفي، ومسألة التغيير، ومسألة الانتقال من منصب معيَّن إلى مسؤولية أخرى، أو إلى عمل آخر، وفهم الإنسان بأنه إذا كان منطلقاً على أساس إقامة الحق، أنه يستطيع أن يسهم هذا الإسهام من أي موقع، في الساحة، في أي مجال، ولو كجندي، ولو كشخص ينطلق في إطار أمة تتحرك في إطار هذا التحرك، همه أن يرضى الله عنه، وأن يتقبل الله منه، وأن يؤدي ما يستطيع أداءه من جهد، وأن يُقدِّم ما يستطيع أن يُقدِّمه من عمل، دون أن يكون ذلك مرتبط بمنصب معيَّن يُصِرُّ عليه، ويريد أن يكون فيه للأبد، لا يخرجه منه، أو لا ينقله عنه إلا ملك الموت، عندما يأتي في آخر عمره ونهاية أجله، الإنسان عليه أن يحذر من حالة عشق السلطة والمنصب، وأن تبقى أهدافه ودوافعه في إطار الإقامة للحق، والدفع للباطل؛ فظاهرة وطريقة التغيير والتدوير الوظيفي هي ظاهرة وطريقة صحية، تربوياً: على المستوى التربوي للإنسان نفسه، وعملياً، مع ترسيخ الارتباط الدائم بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانشداد إلى الله، والارتباط بالحق من أي موقعٍ كان الإنسان، الإنسان يستطيع أن يكون له إسهامه، وأن يتخلص الإنسان من التصور أنه لا قيمة له، ولا أهمية له إلَّا إذا كان في منصب معيَّن، وعادةً ما يكون لدى الكثير من الناس في ذهنيتهم تعلُّق بمناصب محددة، يريد منصب كذا، يرى فيه أنه الأكثر أهمية، وأنه من خلاله يحظى بالاعتبار والقيمة… وهكذا، القيمة الأهم هي عند الله، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يمنح عباده المؤمنين من عِزَّتِه، وهي أهم من كل منصب، يمكن أن يعطيك الله من عِزَّته ما يجعل لك قيمةً، وأهميًة، واعتباراً، أكثر من أي منصب آخر، وهذه مسألة مهمة، والله وعد بذلك، هو “جَلَّ شَأنُه” القائل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: من الآية10]، و”سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” القائل أيضاً في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم: الآية96]، محبةً في قلوب عباده، احتراماً وتقديراً.
ولذلك فمن المهم أن يتخلص الإنسان من نظرة: أن القيمة، والأهمية، والاعتبار للإنسان، هو متعلق بمنصب معيَّن، قيمتك في إيمانك، في أخلاقك، في قيمك، في ارتباطك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيما يمنحك الله من عِزَّتِه، وفيما يجعل لك من الود في قلوب عباده، والأهم من كل ذلك: أن تحظى بالمكانة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لهذا يقول الشاعر:
إن الأمير هو الذي أمسى أميراً يوم عزله إن زال سلطان الولاية كان في سلطان فضله
يعني: حتى لو لم يكن في منصب معيَّن، هو ذلك الذي له احترامه، له تقديره، بما يمتلكه من إيمان، وأخلاق، وقيم، وعلاقة طيِّبة مع الناس، واهتمام بالناس، وإحسان إلى الناس. فالتحرك الإيماني يجب أن يكون قائماً على أساس الارتباط بالحق وإقامته، ودفع الباطل.
النص الذي نتحدث على ضوئه اليوم من كلامٍ له “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، من كلام أمير المؤمنين عليًّا “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، قال “عَلَيْهِ السَّلَامُ”:
((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلطَان، وَلَا التِمَاسَ شِيءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإِصَلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ. اللَّهُمَّ إِنّي أَوَّلَ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللهِ “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ” بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ– يخاطب الناس- أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ، وَالْدِّمَاءِ، وَالْمَغَانِمِ، وَالأَحْكَامِ، وَإِمَامَةِ المُسْلِمِينَ، البَخِيلُ؛ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلَا الجَاهِلُ؛ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلَا الجَافِي؛ فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلَا الحَائِفُ لِلدُّولِ؛ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلَا المُرْتَشِي فِي الحُكْمِ؛ فَيَذْهَبَ بِالحُقُوقِ، وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلَا المُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّة)).
هذا النص فيه حقائق مهمة جداً، ودروس كثيرة، نتحدث عنها باختصار.
في بدايتها يوجِّه دعائه ونداءه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي هو العليم بذات الصدور، والذي في بداية ما يجب على الإنسان في موقع مسؤولية معينة، أن يستشعر المسؤولية ما بينه وبينه، إذا الإنسان في أي موقع من مواقع المسؤولية هو مسؤولٌ أولاً أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فالله سيحاسبه، وهو الرقيب عليه، وسيجازيه، ولذلك فالإنسان إذا وصل إلى منصب معيَّن، أو أصبح في منصبٍ معيَّن، تَكُونُ المسألة بالنسبة له في حسابه، يُفتح له ملف في مسؤوليته عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حسابه بقدر مسؤوليته، حسابه بقدر ومستوى مسؤوليته، فالمسألة مهمة جداً.
وهو هنا أيضاً يشهد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أمام الآخرين؛ حتى تكون لديهم فكرة صحيحة؛ لأن البعض من الناس يتصور أن الهدف لأهل الحق عندما يتحركون وينطلقون، أن الهدف لهم هو مجرد طمع في السلطة، أو رغبة في السلطة، أو منافسة في السلطة، أو حرص على نيل الدنيا؛ بينما أولياء الله، أهل الحق عندما يتحركون، هم يتحركون وفق تلك الأهداف، السلطة ليس لها عندهم أي قيمة، أي اعتبار لوحدها، بدون أن تكون وسيلةً للهدف المقدَّس، الذي هو: إقامة الحق، والدفع للباطل؛ فلذلك كان يقول: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلطَان، وَلَا التِمَاسَ شِيءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ))، وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يأخذ الدرس منه؛ فلا يكون لديه تحرك من أجل المنافسة في السلطة، الحصول على المنصب، الطمع في المنصب؛ لأهداف شخصية، لرغبة شخصية… وغير ذلك.
((وَلَكِنْ))، التحرك كان لأهداف مقدَّسة، وأهداف عظيمة ومهمة، في أطار المسؤولية الدينية، ((وَلَكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ))، هكذا تأتي في بعض نسخ نهج البلاغة: ((لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ))، البعض يقرأها بعبارة: ((لِنَرُدَّ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ))، بمعنى: لِنُرجِعَ المعالم من دينك، سواءً كانت: ((لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ))، الذي هو من (الورود) الورود إلى المعالم، الذهاب إليها، والإتيان بها، أو بعبارة (ردها) بمعنى: إرجاعها بعد أن غُيِّبَت عن الساحة، المؤدَّى- في نهاية المطاف- واحد، ((وَلَكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ))، هذا هو في بداية الأهداف المقدَّسة العظيمة، وهو ينطبق تماماً مع مبدأ إقامة الحق؛ لأن إقامة الحق تتحقق بماذا؟ من خلال المبادئ الإلهية، مبادئ الدين الإلهي، الدين الإسلامي الحق، المبادئ العظيمة، التي إذا أُتي بها إلى واقع الحياة، من موقع المسؤولية، من موقع إدارة شؤون الأُمَّة، فأُديرت شؤون الأُمَّة على أساسها، على أساس تلك المبادئ الإلهية العظيمة:
في مقدمتها: تحرير الأُمَّة من العبودية للطواغيت والمستكبرين.
في مقدمتها: إقامة القسط والعدل.
في مقدمتها: التربية الإيمانية للمجتمع؛ ليكون مجتمعاً مؤمناً صالحاً مستقيماً.
بناء حضارةٍ إسلامية تُقَدِّم نموذجاً للمجتمع البشري.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مختلف المجالات، وفق المفهوم الواسع الصحيح لهما.
العدالة الاجتماعية
وغير ذلك.
المبادئ الإلهية الدينية العظيمة، إذا أُديرت شؤون الأُمَّة على أساسها؛ يكون لها أثر كبير في واقع الأُمَّة؛ لأنها معالم لحياة الناس، تقوم بها حياة المجتمع، تصلح بها حياة المجتمع، تستقيم بها حياة الناس وواقعهم؛ ولذلك فالهدف أن تكون معالم الدين تُقدَّم إلى ميدان الحياة وواقع الحياة من موقع المسؤولية، وتُدار على أساسها شؤون الأُمَّة، كما قلنا في مسألة إقامة الحق: ألَّا تكون مسألة وَعْظِيَّة إرشادية محصورة في داخل المساجد وزوايا المدارس الدينية، حينئذٍ لا تحضر إلى واقع الحياة كما ينبغي، يأتي الطغاة، والجبابرة، والظالمون المضلون، فيملؤون حياة الناس وواقعهم جوراً، وظلماً، وظلالاً، وظلاماً، وطغياناً، وفساداً، وتبقى تلك الحالة الوعظية الإرشادية محصورة ومحاصرة، ومُغلقة في نطاق محدود، لا تظهر في واقع الحياة.
بينما أراد الله لدينه ونهجه الحق أن يكون في واقع الحياة، أن يكون منهجاً ونظاماً، أن يكون أساساً لحياة الناس، تدار شؤونهم به وعلى أساسه وبمقتضاه؛ ولذلك (ورود المعالم من دين الله): المبادئ العظيمة التي بها حياة الأُمَّة، وعِزَّة الأُمَّة، وكرامة الأُمَّة، ونهضة الأُمَّة، واستقامة الأُمَّة؛ الأُمَّة الإسلامية التي لها رسالة عالمية، رسالة عظيمة في إطار قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: من الآية110].
((وَنُظْهِرَ الإِصَلَاحَ فِي بِلَادِكَ))؛ لأن البلاد بلاد الله، أرض الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن الحق أن يكون منهجه هو نظام هذه الحياة، نظام هذا المجتمع في أرض الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
يظهر الصلاح في بلاد الله في حياة الناس، في واقعهم، لن يكون بمعزل عن حياتهم وواقعهم، ليس ظهوراً- مثلاً- في السحاري النائية، منعزلاً عن حياة الناس وشؤونهم، الصلاح يظهر في المجتمع، وفي حياته، وفي شؤونه، في مختلف المجالات: المجال السياسي، المجال الاقتصادي، المجال الاجتماعي، تُدرأ المفاسد، وتحارب المفاسد، تُقَلَّص المفاسد والمظالم، وتتعزز القيم العظيمة والعدالة، وتستقر حياة الناس وتصلح حياة الناس، وهذا شيءٌ مهمٌ جداً.
المجتمع نفسه يحظى بالتربية الإيمانية على القيم والأخلاق ويسمو، تتحقق للناس إنسانيتهم، يصل الخير إلى الناس، تصلح شؤون المجتمع، يتَّجه المجتمع لصلاحه وصلاح حياته إلى بناء حضارة إسلامية راقية ومميزة، وتكون الثمرة هي هذه: ((فَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ))، المظلمون، الفئات المحرومة، والمضطهدة والمظلومة من أبناء المجتمع، الذين تكون الدولة عندما يكون القائمون على المسؤولية فيها ظهراً وسنداً لهم، سيمثلون حمايةً لهم، هذا يحقق الاستقرار الاجتماعي، عندما يشعر المظلوم في المجتمع أن ظهره وسنده هي دولته، هم المسؤولون في بلده، هم ظهرٌ له ونصيرٌ له ليصل إلى حقه المستحق، المجتمع بنفسه يتحقق الاستقرار فيه، المجتمع الكل يطمئن إلى أنه فيما لو تعرض لتعسُّف، أو ظلم؛ فالدولة سنده، وهي ظهرٌ له، تُشَكِّل حمايةً له، وسيستطيع من خلالها أن يصل إلى حقه، هذا يساعد على الاستقرار بين أبناء المجتمع، وتكون النتيجة والثمرة في حياة الناس: الاستقرار الكبير والاطمئنان، والتخلص من كثير من المشاكل التي ينشغلون بها دائماً، إذا غاب هذا الدور الذي يشكِّل حماية للمجتمع من التظالم فيما بينه، ومن أن يطغى بعضه على بعض، إذا غاب هذا الدور؛ كَثُرت المظالم، وتعقدت المشاكل، وانشغل الناس ببعضهم البعض دائماً وأبداً، تبقى مشكلة، أو جزئية في قضية معينة شاغلةً للناس، مستغرقةً لجهودهم، مع أيضاً ضياع كثير من الحقوق، وطغيان كثير من المظالم، فأن تكون الدولة سنداً للمجتمع، وأن يشعر المجتمع أن الدولة حماية له، من أن يتظالم فيما بينه، من أن يطغى بعضه على بعض، من أن تُصادر الحقوق من البعض على البعض الآخر، وأنها شوكة ميزان عادل، تأخذ للمظلوم حقه من الظالم، وتحمي المظلوم من أبناء المجتمع، وتحمي المجتمع بنفسه من التظالم فيما بينه؛ يكون لهذا أثر كبير، وتُعزز حالة الطمأنينة، والعلاقة الإيجابية بين أبناء المجتمع، ويسلمون أساساً من كثير من المشاكل فلا تحصل، ويتخلصون مما يحصل من دون تعقيد كبير للأمور، هذه مسألة مهمة جداً، ((وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ))؛ بينما الحالة الأخرى، الحالة السلبية: إذا كان من في مواقع المسؤولية ممن همهم المناصب وعشق السلطة، في الأخير يقف البعض منهم مع الظالم؛ لأنه يرى له نفوذاً في المجتمع، وتأثيراً في المجتمع، ويكون هو ظالم مع ظالم، والحالة خطيرة والسلبية كبيرة.
((وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ))، الحدود والعقوبات في النظام الإسلامي هي للحدِّ من الجريمة، لمعاقبة المجرمين، والحدِّ من الجريمة، والسعي للوقاية منها، وهي ضرورية، وتأتي في إطار تكامل النهج الإسلامي الحق، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جعل نهجه وشريعته وهديه متكاملاً، يأتي إلى الإنسان بالجانب التربوي؛ لتزكية النفس، للارتقاء بالإنسان في أخلاقه وقيمه ومعرفته، يأتي في بقية المجالات بما يساعد على الاستقامة في هذه الحياة، ويبعد الإنسان عن الانحراف، والظلم، والفساد، ولكن مع ذلك لابدَّ أن يكون إلى جانب كل ما هناك من جوانب تربوية، من جوانب تصلح حياة الإنسان وشؤون المجتمع في مختلف المجالات، أن يكون هناك أيضاً نظام ردعٍ وزجرٍ وعقوبة؛ لأن هناك فئة من الناس لا ينفع معهم لا جانب تربوي، ولا ينفع معهم حتى صلاح حياتهم- مثلاً- في بقية المجالات:
البعض– مثلاً- من الناس قد يطغى ويظلم، ويصادر حقوق الآخرين، مع أنه متمكن ومرتاح في واقعه المعيشة، وقد يظلم حتى الفقراء، ويأخذ عليهم حقوقهم.
البعض من الناس أيضاً يتجه ابتداءً وينحرف في طريق الانحراف، مع أنه يمكنه أن يهتم بشؤون حياته بالسبل المشروعة، والنزيهة، والصالحة، ولكنَّه يختار طريقةً أخرى: إمَّا السرقة، وإمَّا النهب، وإمَّا النصب والاحتيال، وإمَّا المتاجرة بالمحرمات والمفاسد… أو غير ذلك.
البعض من الناس أيضاً يحمل نفسية الطغيان، والاستكبار، والإجرام؛ فيقتل بدون حق، بغياً، وعدواناً، وظلماً.
هكذا البعض من الناس، لابدَّ من أن يكون هناك نظام العقوبات؛ ولهذا جعل الله نظام عقوبات، وإجراءات تجاه المجرمين، الذين يشكلون خطورة على أمن المجتمع، واستقرار حياته، وصلاح حياته، فإذا عُطِّلت الحدود الإلهية والعقوبات الإلهية، اطمأن المجرمون، وتفشت وانتشرت وتوسعت الجرائم، بأنواعها المختلفة:
جرائم القتل بالجبروت، عدواناً، وبغياً، وظلماً، واستهتاراً.
جرائم النهب، والسطو، والسرقة.
جرائم المفاسد الأخلاقية.
جرائم المتاجرة بالمحرمات.
جرائم الربا، التي تضرب الاقتصاد.
جرائم بأشكالها وأنواعها في مختلف المجالات؛ فإقامة الحدود يحافظ على أمن المجتمع، على استقراره، بقدر ما يكون هناك من الحد من الجريمة، وتقليص من الجريمة؛ بقدر ما لذلك أثر في حياة الناس على مستوى الاستقرار الأمني، واستقرار حياتهم، واطمئنانهم في حياتهم، وإلَّا يصبح الناس يعيشون حالةً صعبةً جداً: حالة خوف، وعدم اطمئنان، يخاف الإنسان على حياته، على ممتلكاته، على عرضه… خائف على كل شيء، وهذه مسألة خطيرة جداً.
ولذلك من ثمرة ورود المعالم الدينية، الإتيان بمعالم الدين، والتحرك على أساسها، وإدارة شؤون الأُمَّة على أساسها، من ثمرة ذلك هو: إقامة الحدود، والإجراءات والعقوبات، إلى جانب بقية ما يأتي في الدين الإلهي لإصلاح حياة الناس.
ثم قال: ((اللَّهُمَّ إِنّي أَوَّلَ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللهِ “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ”))، أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هو قدَّم النموذج في اتِّباعه لرسول الله، واقتدائه برسول الله، والتزامه بدين الله، وتحركه على أساس المبادئ الإلهية؛ ولذلك قدَّم مدرسة عظيمة جداً للذين هم في موقع المسؤولية، في موقع سلطة وقرار، كيف يجب أن تكون اهتماماتهم، روحيتهم، أهدافهم، ممارساتهم… إلى غير ذلك.
((وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ، وَالْدِّمَاءِ، وَالْمَغَانِمِ، وَالأَحْكَامِ، وَإِمَامَةِ المُسْلِمِينَ، البَخِيلُ))، يعني: الإنسان الذي هو في موقع المسؤولية، والمسؤولية ليست لعبة، أنت عندما تكون في منصب معيَّن، منصب أنت فيه مؤتمن، موقع السلطة هو يتعلق بشؤون الناس، بإدارة شؤونهم، إدارة شؤونهم مرتبطة بمختلف أمور حياتهم؛ ولذلك يجب أن يكون من هو في موقع مسؤولية مؤتمناً، مؤتمناً وموثوقاً على أعراض الناس، على حياتهم، على ممتلكاتهم، على حقوقهم، أميناً على كل ذلك؛ ولذلك لابدَّ من المعيار الأخلاقي؛ حتى يكون هناك اطمئنان إلى أن هذا الإنسان الذي هو في موقع مسؤولية مؤتمنٌ على أعراض الناس، على حياتهم، على ممتلكاتهم، على حقوقهم، على دينهم ودنياهم، لابدَّ أن يكون هناك التزام واهتمام بالمعيار الأخلاقي، الأخلاق والقيم، وإلَّا كيف يكون مؤتمناً على كل ذلك، إذا غابت الأخلاق والقيم، حلَّت نقائضها بديلاً عنها، بدلاً عن مكارم الأخلاق، وعن القيم الإيمانية والأخلاقية، القيم الإنسانية والدينية، يكون البديل عنها نقائضها، ونقائضها تشكِّل خطورة على المجتمع؛ فيكون من هو في منصب معيَّن وسلطة معيَّنة، بحسب مستويات المناصب والمسؤوليات، وبحسب مستوى السلطة التي هو فيها، يكون له تأثيره الخطير على الناس، بقدر ما فقد من تلك المعايير، التي في مقدِّمتها: المعيار الأخلاقي.
ولذلك يقول: لا ينبغي أن يكون من هو في موقع مسؤولية، ويفترض منه أن يكون مؤتمناً على الناس في ممتلكاتهم، في أعراضهم، في حقوقهم، في دينهم ودنياهم، أن يكون إنساناً بخيلاً؛ لأنه يفقد المعيار الأخلاقي، وهو هنا قدَّم نماذج مما يدل على أهمية المعيار الأخلاقي، ليس الكلام على سبيل الحصر والاستقصاء؛ إنما هو على سبيل المثال، لو كان بخيلاً؛ هو فقد مكارم الأخلاق، وغابت عنه من مكارم الأخلاق ما يتعلق بجانب مهم.
البخيل إذا كان في منصب وفي موقع مسؤولية، كيف ستكون النتيجة؟ ((فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ))، البخيل عادةً ما يحرص على جمع الأموال، وعلى السيطرة عليها والاستحواذ عليها، والبخل عن إخراجها، والمال العام الذي يجمع من إيرادات بلدٍ معيَّن، أو دولة معيَّنة، هو عندما يُحصَّل، ليس ليجمع للادِّخار والإخفاء والتعامل معه بالبخل، ترتبط به مسؤوليات وحقوق؛ ولذلك عملية التحصيل حتى يتوفر ذلك المال ليصرف في حقوقه المشروعة، فإذا كان من هو في منصبٍ معيَّن وموقع مسؤولية معيَّنة بخيلاً؛ فهو سيحجز تلك الأموال، ولا يدعها لتكون في سبيل ما حُصِّلت له، في خدمة الأُمَّة، في ما تصرف فيه على الوجه المشروع، كل إيراد بحسب ما هو مقررٌ له شرعاً، وبحسب ما يمثل مصلحةً حقيقيةً للأمة، ويلبي احتياجاً ضرورياً لها؛ لأنها أموال تجمع لخدمة الأُمَّة ولمصالحها المشروعة، ووفق أهداف مشروعة ومقررة، فعندما يُفقد المعيار الأخلاقي تكون المسألة خطيرة، سيحرص من هو بخيل على الجمع بأكثر من الحق المشروع، ثم المنع عن أن تصرف تلك الأموال في سُبُلِها المشروعة لها.
((وَلَا الجَاهِلُ))، كذلك الجهل. الجهل معناه: أن يفقد معياراً مهماً، هو معيار المعرفة، كما هو المعيار الأخلاقي ضروريٌ جداً ولابدَّ منه، فمعيار المعرفة ضروريٌ، لابدَّ منه، للأداء الصحيح والأداء السليم، الأداء الذي تتحرك فيه وفق مبادئ دين الله ومعالم دينه، لابدَّ من المعرفة، وبحسب ومستوى الموقع والمسؤولية، في مستوى المسؤولية التي أنت فيها تحتاج إلى مستوى معيَّن من المعرفة، المعرفة الدينية بحسب تلك المسؤولية ومستوها، والمعرفة ذات الصلة بالمجال الذي تحملت فيه مسؤولية؛ لأن هناك من المسؤوليات ما يحتاج أيضاً إلى معرفة إدارية، ومعرفة تخصصية، أنت تعمل في مجال اقتصادي؛ تحتاج إلى معرفة في المجال الاقتصادي، أنت تعمل في المجال الصحي؛ تحتاج إلى معرفة في المجال الصحي… أنت تعمل في أي مجالٍ من مجالات الحياة، لابدَّ أيضاً فيه من المعرفة، مع المعرفة الدينية، التي تحتاج إليها في مستوى مسؤوليتك، كلما كانت المسؤولية أكبر؛ كلما كانت الحاجة المعرفية، والمعيار المعرفي يتعلق بمستوى وطبيعة ودور الموقع الذي أنت فيه.
الجاهل إذا كان جاهلاً وهو في موقع مسؤولية يُضِلُّ الناس، يُضِلهم على مستوى الدين، في انحرافه عن معالم الدين التي يجهل بها، ويضيعهم على مستوى المجال الذي يعمل فيه؛ لأنه يتحرك على غير هدى، على غير معرفة؛ فيضيع الناس، تكون النتيجة سلبية جداً.
((وَلَا الجَافِي))، فيقطعهم بجفائه، الجاهل يضلهم، والجافي يقطعهم بجفائه. الذي هو في موقع المسؤولية، من المعايير المهمة أن يكون: رحب الصدر، حسن التعامل مع الناس، يتعامل مع الناس بمبدأ الكرامة والاحترام، عندما تكون في منصب معيَّن، وأنت تتعامل مع الناس فيما له صلة بمسؤوليتك تجاههم، بحسب منصبك، وسلطتك، وموقعك، فأنت تتعامل معهم بالجفاء والغظاظة، أنت فظٌ غليظ، تتعامل معهم بالغلظة، والفظاظة، والجفاء، وسوء الخلق، وضيق النفس، فهي حالة سلبية جداً، فظاظتك، وغلظتك، وجفاؤك، وقسوتك، وقلة احترامك، لها عُمق في جذورك، لها خلل كبير في أعماق نفسك، على مستوى الشعور بالكرامة تجاه الآخرين، والإيمان بكرامة الآخرين، والاحترام لهم، ومعنى ذلك: أن الإنسان يفقد حتى من مكارم الأخلاق، يفقد ما هو مهم، يساعده على أن يكون حَسن الخلق، يتعامل مع الناس بالاحترام، يتعامل مع مسؤوليته باحترام، يحترم نفسه، يحترم مسؤوليته، ويحترم الناس، ويؤدي مسؤوليته بشكل سليم من التعامل السيء والفظ والغليظ.
الجافي، الفظ الغليظ، الضيق النفس، يتعامل مع الناس بناءً على ذلك، يكون لذلك تأثير على قراراته، على مواقفه، قد يكون بعض القرارات من شأنها غلظته، جفوته، قسوته، ضيق نفسه، يتخذ قراراً ناشئاً عن ضيق نفسه، يمارس ممارسات معيَّنة من موقع المسؤولية، ناتجة عن ذلك، لا تليق أبداً ولا تنسجم مع المسؤولية، وليست بمقتضى الحق؛ إنما ناتجة عن طبعه السيء، وسوء خلقه، وجفوته، وفظاظته وغلظته، يصعب على الناس التعامل معه، يصعب عليهم أن يقدِّموا له معطيات عن مواضيع معيَّنة، أو قضايا معيَّنة، أو تظلمات معيَّنة، أو شكاوى معيَّنة، أو أن يراجعوه في مسألة معيَّنة؛ لأنه يتعامل معهم بطريقة مسيئة، وفظة، وغليظة، وبضيق نفسه، ولا يتسع لشيء، ولا يتحمل؛ هذا له تأثير سيء جداً على أداء الإنسان لمسؤوليته بشكل صحيح، فهو يُنَفِّر الناس، ويقطعهم، ويصرفهم، ولا يتحملهم، ولا يطيقهم، ولا يفتح لهم المجال معه في أمورهم وشؤونهم.
((وَلَا الحَائِفُ لِلدُّولِ)): الجائر في التعامل مع المال العام. المال العام المسؤولية فيه كبيرة جداً، والإنسان إذا كان في منصب، ويرتبط بمنصبه مسؤوليات تتعلق بالمال العام، أو صلاحيات تتعلق بالمال العام، أو يتمكن من خلال موقعه للتعامل مع هذه المسألة، فالموضوع حساس وخطير جداً في المسؤولية الدينية؛ لأن الإنسان إذا كان سيستخدم المال العام خارج ما هو مشروعٌ له في دين الله، وتعاليم الله، وشرع الله، ومنهج الله، فيما يعود إلى الأُمَّة، في خدمتها ومصالحها، وما شرعه الله فيه، فإذا كان سيستغل المال لأهداف شخصية، أو فئوية، أو حتى حزبية، بعد ظهور الحزبية في هذا الزمن، ممن لا يهمه إلا حزبه على حساب مصلحة الشعب بكله، أو فئته، أو جماعته، أو أصحابه، أو أصدقاؤه، أو من تربطه بهم أي روابط خاصة، إذا كان سيتعامل مع المال العام من هذا المنطلق، فهذه حالة خطيرة جداً.
((فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ))، يُسَخِّر المال العام الذي هو لخدمة الناس، خدمة المصالح العامة، ترتبط به مسؤوليات عامة، في نطاق شخصي، أو مصالح ضيقة، فئوية، أو حزبية، أو لمصلحة قومٍ دون قوم: إمَّا لشراء الولاءات والذمم، وإمَّا لاعتبارات تعود بالنظرة المصلحية (الفئوية، أو الحزبية، أو المناطقية)، الحالة خطيرة جداً، ((فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ)).
((وَلَا المُرْتَشِي فِي الحُكْمِ؛ فَيَذْهَبَ بِالحُقُوقِ، وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ))، المرتشي هو سيتعامل بما فيه ظلم ومصادرة لحقوق الآخرين، في القضاء المسألة واضحة، وخارج القضاء في العمل الإداري، الأعمال الإدارية والمسؤوليات الأخرى، إذا كان هناك مجال للرشوة، كم تضرب من الحقوق للناس، كيف يحصل التعامل مع مواضيع الناس وقضاياهم وشؤونهم، بالحيف، والجور، والظلم، وبدون حق؛ لذلك تمثل مشكلة خطيرة جداً.
ويلحق بذلك الابتزاز المالي، من يستغل سلطته وموقعه ومنصبه لابتزاز الآخرين مالياً: إمَّا في مقابل أن يعطيهم حقوقهم المشروعة، أو يُنجز لهم معاملاتهم، التي ينبغي أن ينجزها لهم بحكم مسؤوليته، فلا ينجزها إلا مقابل ابتزاز مالي، أو في سبيل أن يظلمهم ويغالطهم، أو يُضَيِّع حقوقاً، حق هذا من أجل هذا… أو غير ذلك، المسألة خطيرة جداً.
الرشوة تضرب الحقوق، تصادر الحقوق، وتذهب بالحقوق، وتسبب لظلم كبير جداً، والابتزاز المالي كذلك، ((فَيَذْهَبَ بِالحُقُوقِ، وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ))، لا يدع الحقوق لتصل إلى حيث ينبغي أن تصل، إلى أهلها، إلى حيث هي مشروعة.
((وَلَا المُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّة))، المُعَطِّل لمنهجية الله، المُعَطِّل لمسألة الاقتداء برسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، والتَّمسُّك بالشرع الإلهي والنهج الإلهي الحق. البعض من الناس- مثلاً- يتصور: أنه لا يمكننا أن نكون أمة لها حضارة، وتتطور في حياتها، إلَّا إذا تنكرنا للدين الإلهي، وخالفنا رسول الله ومنهجيته في تطبيق دين الله، ومعالم دين الله، ومبادئ دين الله، فيتصور أن هذه هي الطريقة للتحضُّر والتطور، وهو فهمٌ سقيم، ومعلول، ومخلول، يعني: ليس مبنياً على معرفة صحيحة.
عندما ننطلق من أصالة المبادئ الإلهية، ونقتدي برسول الله، ونتحرك وفق طريقته، في إقامة دين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فالدين الإسلامي دينٌ حضاري، يفتح الله بتوجهاته وتعليماته فيه الآفاق الواسعة، في إطار مسؤولية الاستخلاف في الأرض، ولكن على أساسٍ من القيم والمبادئ، بما يتيح لنا أن نبني حضارة متميزة، منضبطة بالضوابط والمبادئ الإلهية والقيمية والأخلاقية، نعمر الأرض، نتجه إلى تطوير شؤون حياتنا، لكن من دون مفاسد، من دون رذائل، من دون مظالم، من دون تنكرٍ للدين الإلهي، والتعليمات الإلهية، التي هي لمصلحتنا، وهي تواكب كل زمن، ومتطلبات كل عصر، ولا مبرر للناس أن يتنكروا لها.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛