تتحرك إيران بتأن شديد ووفق مفهوم «الصبر الاستراتيجي»، في مسألة الرد على استهداف الكيان الصهيوني للقنصلية الإيرانية في دمشق، وإذا كان مرد ذلك هو إدراك طهران أهمية حساب الوقت والكيفية المناسبة للأخذ بالثأر لشهدائها، إلا أن المفروغ منه أن الرد قادم، وهو ما يؤمن به أيضا الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي أكد للـ (سي ان ان) أن هجمات إيران ستأتي “عاجلًا وليس آجلًا”.
ولا يبدو قيام مروحية إيرانية تابعة للحرس الثوري ظهر أمس بعملية إنزال لعدد من المسلحين على ظهر سفينة إسرائيلية قرب مضيق هرمز كانت في طريقها من الإمارات إلى الهند وسحبها إلى المياه الإقليمية الإيرانية، إلا مؤشراً على رد إيراني استراتيجي سيُلقي بظلال قاتمة ليس فقط على الوجود الأمريكي الذي زاد في العربدة، وإنما على الدول المتحالفة معه غربية وعربية، بشاهد مضيق هرمز.
اعتادت إيران في سياسة المواجهة والرد على اعتداءات الكيان الصهيوني أو أمريكا أو أي من الدول المتحالفة مع الغرب إلى مرحلة الفعل، منطلقة من إثارة القلق في نفسية العدو ومن ثم إيصاله إلى مرحلة الركون، أو توجيهه إلى نواحٍ معينة لتأتيه الضربة بغتة في وقت غير متوقع ومكان غير محسوب، بما يجعل من كل ذاك الاستنفار بالعديد والعتاد حسابات فاشلة.
الولايات المتحدة أصدرت تحذيرا من السفر إلى الأراضي المحتلة، والكيان يستعد لأسوأ السيناريوهات، والاشتغال الاستخباراتي في ذروته لتخمين موعد الرد، حدّ تحديد بعض المواقيت كانت كلها تكشف عن كذبة قوة هذه الاستخبارات، وهو ربما ما دفع «يديعوت أحرنوت» العبرية- حفظا لماء وجه الاستخبارات الصهيونية- لزعم أن إيران «أجلت في اللحظة الأخيرة تنفيذ الرد أو أنها قررت تغيير طبيعة العملية نتيجة لتحذير صريح من كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية”.
إنما بهذا الاستنفار يقف العالم أمام مُعطى آخر على هذا الصف الأمريكي الصهيوني، ففضلا عن الفعل العدواني الإسرائيلي الذي تجاوز الخطوط الحمر للعالم بكسره القواعد الدولية التي تجرم مثل هذا الفعل، تحاول واشنطن تصوير الرد الإيراني كحالة عدائية وليس دفاعاً عن النفس ورد اعتبار، فترفع حالة الجهوزية للدفاع عن الإجرام الإسرائيلي فيما يلتزم العالم الصمت رعبا وهلعا.
للأسف الشديد، المنطق الأعوج يتسيّد حسابات الانتهاكات بين ما هو أصيل لا يندرج ضمن الانتهاكات، وما هو خارج إطار القانون، وفي هذا الوقت تلتزم حتى الأمم المتحدة الصمت، بينما من مسؤوليتها الانتصار للقانون الدولي التي وُجدت لرعايته وملاحقة منتهكيه.
وحتى يأتي الرد الذي توقعته المصادر الأمريكية خلال ساعات مضت، ستحاول واشنطن، فتح خطوط للضغط على طهران باستعادة بعض الأوراق من الارشيف وإحياء أحداث، تدفع إيران لتوجيه جهدها للتخلص من تبعاتها، منصرفة بذلك عن الانتقام، ولا أظن إلا أن تجربة إيران الطويلة مع الأساليب الأمريكية قد أعطتها الخبرة الكافية للتقدير والتوقع ووضع الحسابات المناسبة.
وربما تباشير هذه المنهجية الأمريكية قد ظهرت الجمعة، حين قضت أعلى محكمة جنائية في الأرجنتين بأن إيران هي من خططت لتفجير مبنى الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية (آميا) عام 1994 في بوينس آيرس، وحمّلت محكمة الاستئناف الأرجنتينية إيران وحزب الله اللبناني، مسؤولية التفجير زاعمة أن الهجوم نُفذ ردا على انسحاب الأرجنتين من اتفاق التعاون النووي مع طهران.
وعلى ذات السياق زعمت صحيفة التايمز البريطانية قبل يومين اكتشاف مراسلات خطية سرية، تُظهر تحويلات مالية من إيران إلى حماس وباقي حركات المقاومة، في محاولة متزامنة للإرباك بالتمهيد لاتهام مباشر ورسمي لطهران بضلوعها في عملية «طوفان الأقصى» وهو ما كان نفاه المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، أما الدعم العسكري الطبيعي لحماس فيتحدث عنه قادة حماس علانية في إطار العلاقات بين محور المقاومة.
وربما ستلجأ واشنطن أيضا إلى إزعاج العالم من جديد بشأن ملف الاتفاق النووي مع إيران.
وهذا ما اعتمدت عليه أمريكا طويلا، صُنع أوراق ضغط أو العمل عليها في الخفاء وتأجيل الإعلان عنها ثم الظهور بها في الوقت الذي يخدم مصالحها أو يرد عنها وعن الكيان أي هجوم.