فكرة طرد الفلسطينيين انبثقت مع الحركة الصهيونية وتطورت مع مشروعها وظلت أولوية للقادة الصهاينة
رغم خطط التهجير الكثيرة إلى أصقاع العالم ما زالت سيناء بنظر قادة الكيان المكان النموذجي الأقرب والأكثر استيعاباً
حادث إطلاق فلسطيني النار في قنصلية الكيان في الباراجواي أغلق خطة التهجير إلى أمريكا اللاتينية
التهجير أهم أهداف الحرب على غزة، وآلة الحرب الصهيونية تعمل على تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش
د. محمود محارب*
استغلت إسرائيل عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في السابع من أكتوبر 2023م، لشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأعلنت أن هدفها من الحرب هو القضاء على حكم حماس وعلى قوتها العسكرية في القطاع، بيد أنها سعت في الوقت نفسه لتحقيق هدف آخر هو تهجير الفلسطينيين أو معظمهم من قطاع غزة إلى سيناء المصرية وإلى دول أخرى في المنطقة والعالم، وفي هذا السياق، قام الجيش الإسرائيلي بعملية تدمير شاملة للمدن والمخيمات والبلدات الفلسطينية في القطاع، أتت على المباني السكنية ومختلف البنى التحتية التي تزود الخدمات الضرورية لحياة المواطنين المدنيين مثل الكهرباء والماء، وكذلك مختلف المؤسسات بما في ذلك المدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد والكنائس والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة والمنشآت الاقتصادية والصناعية وطرق المواصلات والحقول الزراعية … إلخ، وحتى منتصف مارس 2024م، استشهد أكثر من 31500 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى نحو 7000 مفقود، وجرح أكثر من 72000 معظمهم من النساء والأطفال، ولم تأتِ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في القطاع لتحقيق أهداف عسكرية أو لإشباع غريزة الانتقام فحسب، وإنما أيضًا، وأساسًا، لتحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش فيها، لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة منه.
جذور فكرة التهجير
انبثقت فكرة طرد الشعب الفلسطيني من أرضه من صلب الحركة الصهيونية، ورافقت تطور المشروع الصهيوني في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، ولا نكاد نجد قائدًا صهيونيًا لم ينادِ بطرد الفلسطينيين من وطنهم، وربط تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين بطرد الفلسطينيين منها، وقد تشكّل في ثلاثينيات القرن العشرين إجماع صهيوني، شمل الأحزاب والمؤسسات الصهيونية المختلفة، يدعو إلى تهجير الفلسطينيين من فلسطين. وأقامت الوكالة اليهودية وإسرائيل ثلاث لجان ترحيل (ترانسفير) لوضع الخطط العملية لتهجير الفلسطينيين من فلسطين وتوطينهم خارجها، خاصة سورية والعراق وشرق الأردن؛ الأولى في عام 1937م، والثانية في عام 1942م، والثالثة في عام 1948م، إلى جانب ذلك، وضعت منظمة الهاغاناه الصهيونية خططًا عسكرية في أربعينيات القرن العشرين طوّرتها إلى الخطة «د» (دالت) في مارس 1948م، وباشرت تنفيذها في بداية أبريل 1948م. وفي حرب 1948م، طردت المنظمات العسكرية الصهيونية والجيش الإسرائيلي نحو 800 ألف فلسطيني من مدنهم وبلداتهم وقراهم.
شكّلت قضية اللاجئين الفلسطينيين حلقة مركزية في الصراع العربي – الإسرائيلي. ففي حين طالب الفلسطينيون والدول العربية ومعظم الدول في العالم بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، رفضت إسرائيل ذلك بشدة، كما رفضت تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الذي صدر في 11 ديسمبر 1948م، والذي دعا إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وسعت إسرائيل منذ تهجيرهم في حرب 1948م إلى توطينهم في الدول العربية، لا سيما سوريا والعراق وشرق الأردن، وفي دول أخرى في العالم، وقد أيدت الولايات المتحدة الأمريكية توطين أغلبية اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، وخاصة في سوريا والعراق وشرق الأردن وسيناء، وإعادة جزء قليل منهم فقط إلى ديارهم، وطرحت قبل حرب يونيو 1967م العديد من المشاريع في هذا الخصوص.
أثار وجود اللاجئين الفلسطينيين عمومًا، واللاجئين في قطاع غزة خصوصًا، قلق القيادات الإسرائيلية؛ فانشغلت منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي بوضع الخطط لتهجيرهم من القطاع وتوطينهم في سيناء أو في دول أخرى في المنطقة والعالم، وفي الفترة القصيرة التي احتلت فيها إسرائيل قطاع غزة، في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956م، وضعت خططًا لتهجير اللاجئين الفلسطينيين من القطاع، وخصّص وزير المالية الإسرائيلي حينئذ، ليفي إشكول، مبلغًا ماليًا أوليًا قدره نصف مليون دولار لتحقيق هذا الهدف.
وقد ظل وجود اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة يُقلق القيادة الإسرائيلية، ولا سيما أن تكاثرهم الطبيعي كان مرتفعًا، فقد ذكر إشكول، حينما صار رئيس الحكومة الإسرائيلية، في اجتماع له عام 1965م مع رئيس أركان الجيش الإسرائيل إسحاق رابين، أن اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة يتكاثرون بسرعة، وأن ذلك قد يقود إلى تفجّر الوضع، وسأل إشكول رابين عمّا يحدث إذا نظّم اللاجئون الفلسطينيون في قطاع غزة مسيرة كبيرة في مقدمتها النساء والأطفال إلى داخل حدود إسرائيل. فأجابه رابين بأن ذلك لن يحدث، ولكن إن حدث، فإن الجيش الإسرائيلي سيطلق النار عليهم ويقتل أول مئة منهم، فيعود جميع من في المسيرة إلى القطاع.
التهجير بعد حرب 1967م
بعد أن احتلت إسرائيل قطاع غزة في حرب 1967م، ساد إجماع في الحكومة الإسرائيلية على أن إسرائيل لن تنسحب من القطاع في أيّ حلّ مع الدول العربية، وستضمه رسميًا إليها بعد أن تطرد سكانه، أو أغلبيتهم منه، ولم تتسرع الحكومة في ضم القطاع إلى إسرائيل، كما ضمت القدس الشرقية فور احتلالها في حرب 1967م؛ وذلك لوجود أكثر من 400 ألف فلسطينيي فيه حينئذ، كان نحو 75% منهم من اللاجئين الذين هجّرتهم إسرائيل من ديارهم إليه في حرب 1948م. فقد كان من شأن ضم القطاع مع سكانه، علاوة على ضم القدس الشرقية، إضافة إلى وجود الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، أن يشكّل «خطرًا ديموغرافيًا» على إسرائيل وفق مفهوم الحكومة الإسرائيلية.
يتضح من الوثائق الإسرائيلية، وخاصة من محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية في 18 و19 يونيو 1967م، التي كُشف النقاب عنها في السنوات الأخيرة، أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة احتل الأولوية العليا؛ حيث ساد إجماع على ضرورة تهجيرهم إلى سيناء أو إلى الأردن، وقد شكّلت الحكومة الإسرائيلية العديد من اللجان، وخصصت لها الميزانيات لتحقيق هذا الهدف، ووضعت لجنة «مديري الوزارات» التي شكّلتها الحكومة الإسرائيلية الخطط لتهجير الفلسطينيين من القطاع، بالتعاون مع كبار المسؤولين في وزارة الأمن وقادة المؤسسة العسكرية والمخابرات العامة ومكتب رئيس الحكومة، وقد صاغت هذه اللجنة وثيقة بخصوص تهجير الفلسطينيين من المناطق المحتلة، وصدّق عليها وزير الأمن موشيه ديان في 13 أكتوبر 1967م، ومنحت الوثيقة تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى الأردن الأولوية العليا، من خلال اتباع سياسة منهجية شاملة تجاه القطاع، تضيّق الخناق على اقتصاده وتمنع إقامة المشاريع الاقتصادية وتحافظ على بطالة عالية فيه، وتسهّل عملية السفر إلى الأردن عن طريق الضفة الغربية في اتجاه واحد، وتقدّم المحفزات المختلفة للهجرة، وتزيد من مختلف أشكال البطش بسكانه، وفي نوفمبر 1967م، بدأت تظهر نتائج سياسة إسرائيل في الضغط على الفلسطينيين في قطاع غزة بمختلف الوسائل للهجرة إلى الأردن؛ ففي الفترة نوفمبر 1967م- يوليو 1968م، كان معدل الهجرة الشهري من القطاع إلى الأردن نحو 2800 شخص. ولم تتوقف هذه الهجرة إلا بعد أن تنبّهت الحكومة الأردنية لها، واتخذت قرارًا بوقفها، وذلك بمنع دخول سكان القطاع إلى الأردن عن طريق الضفة الغربية منعًا باتًا.
إلى جانب محاولات التهجير إلى الأردن، بذلت إسرائيل في تلك الفترة جهودًا أخرى لتهجير سكان القطاع إلى دول في أمريكا الجنوبية عن طريق محاولة الاتفاق مع أكثر من دولة هناك لقبول هجرة السكان إليها مقابل مبلغ مالي تدفعه إسرائيل عن كل مهاجر تستقبله الدولة، وفي مايو 1969م، اتفق جهاز الموساد مع حكومة البارغواي على أن تقبل هجرة 60 ألف فلسطيني من قطاع غزة إليها خلال أربع سنوات، وأن تمنحهم تأشيرة دخول للعمل فيها؛ ما يمكّنهم من الحصول على المواطنة فيها خلال خمس سنوات، وقد تمكنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بالترهيب والترغيب، من إرغام عدة مئات من سكان القطاع إلى الهجرة إلى البارغواي، وقدّمت لكل عائلة تذاكر سفر في اتجاه واحد ومبلغًا ماليًا ووعودًا كثيرة، ويبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية قد أخلفت وعودها التي قطعتها لضحاياها الفلسطينيين، فقد دخل اثنان من المهجّرين من قطاع غزة القنصلية الإسرائيلية في البارغواي وطلبا مقابلة القنصل، وحينما تلكّأ في الاستجابة لطلبهما، أطلق أحدهما النار، فقتل شخصًا وأصاب آخر؛ ما وضع حدًّا لخطة التهجير الطموحة.
ظل تهجير الفلسطينيين في العقود الماضية يحتل أولوية عليا في ذهنية القادة الإسرائيليين، فوضعوا التصورات والخطط لتهجيرهم بطرائق شتى، فمثلًا، صرّح رابين في بداية عام 1973م بأن مشكلة اللاجئين في قطاع غزة يجب ألّا تُحلّ فيه، وإنما في شرق الأردن، وأن على إسرائيل توفير الظروف الملائمة، وخاصة الاقتصادية التي تحقق ذلك.
وفي عام 2010م، طرح الجنرال غيورا آيلاند، الذي ترأس في الفترة 2004 – 2006م مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مشروعًا لتوطين أكثر من مليون فلسطيني من قطاع غزة في سيناء في إطار اتفاق تبادل أراضٍ بين مصر وإسرائيل وفلسطين كالتالي:
أولًا: تعطي مصر قطاع غزة أرضًا من سيناء مساحتها 720 كيلومترًا مربعًا في المنطقة المحاذية للقطاع، تمتد 24 كيلومترًا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، و34 كيلومترًا على الحدود المصرية مع قطاع غزة وإسرائيل.
ثانيًا: يتنازل الفلسطينيون، في مقابل حصولهم على 720 كيلومترًا مربعًا من سيناء، عن 720 كيلومترًا مربعًا من مساحة الضفة الغربية المحتلة لفائدة إسرائيل، في المناطق المقام عليها الكتل الاستيطانية اليهودية التي تعادل 12 % من مساحتها.
ثالثًا: في مقابل المساحة التي تعطيها مصر لقطاع غزة، تحصل مصر من إسرائيل على مساحة في جنوب غرب صحراء النقب قد تصل إلى 720 كيلومترًا مربعًا، ولكن قد تكون أصغر من ذلك، في حال قبلت مصر الإغراءات والامتيازات التي تحصل عليها من إسرائيل.
التهجير بعد السابع من أكتوبر 2023م
ما إن شنت إسرائيل حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة، حتى ظهرت الدعوات الإسرائيلية لتهجيرهم إلى سيناء ودول أخرى في المنطقة والعالم، وقد ازدادت هذه الدعوات يومًا بعد آخر من قادة إسرائيليين داخل أحزاب الائتلاف الحكومي، وفي صفوف المعارضة السياسية، وفي وسائل الإعلام، وقادة الرأي العام، وفي العديد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية، وفي هذا السياق، دعا الجيش الإسرائيلي علنًا، في المرحلة الأولى من الحرب، جميع الفلسطينيين في محافظتَي غزة والشمال إلى مغادرة بيوتهم والتوجه إلى جنوب وادي غزة وجنوب القطاع، وفي المرحلة الثانية من الحرب، دعا جميع سكان محافظتي الوسطى وخانيونس إلى التوجه إلى رفح المحاذية للحدود مع سيناء.
وقد برز في الدعوة إلى التهجير رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي دعا علنًا، ونشط سرًا أيضًا منذ بداية الحرب، إلى تهجير فلسطينيي القطاع إلى سيناء. وطرح في بداية الحرب، إضافة إلى مسؤولين إسرائيليين آخرين، على العديد من قادة الدول الغربية تأييد سعي إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وفي هذا السياق، طلب نتنياهو من الرئيس الأميركي جو بايدن، ومن رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك، ومن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أثناء زيارتهم إسرائيل في بداية الحرب، الضغط على رئيس مصر عبد الفتاح السيسي لقبول تهجير مئات آلاف المدنيين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء.
وثيقة رسمية إسرائيلية تدعو إلى التهجير
بعد مرور أقل من أسبوع على بدء حرب الإبادة الإسرائيلية، وضعت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية وثيقة رسمية دعت فيها إلى تهجير سكان القطاع إلى سيناء، ورأت أنه ينبغي للحكومة الإسرائيلية أن تحدد الهدف السياسي للحرب الذي تسعى لتحقيقه بخصوص المدنيين، وذلك إلى جانب تحقيق هدف الحرب العسكري المتمثل في القضاء على حكم حماس وقوتها العسكرية في القطاع، وذكرت الوثيقة أنه توجد أمام الحكومة الإسرائيلية ثلاثة خيارات، هي: أولًا: بقاء السكان في القطاع وعودة السلطة الفلسطينية إليه، ثانيًا: بقاء السكان في القطاع تحت حكم محلي جديد برعاية إسرائيل. ثالثًا، تهجير السكان من القطاع إلى سيناء.
رفضت الوثيقة الخيارين الأول والثاني، ورأت أن الخيار الأول يشكّل أكبر هزيمة لإسرائيل وانتصارًا للحركة الوطنية الفلسطينية؛ لأنه يُنهي الانقسام الفلسطيني بين الضفة والقطاع، ويقود إلى إنشاء دولة فلسطينية، وأكدت أن الخيار الثاني لا يوفّر أيّ مكسب استراتيجي لإسرائيل، بل إنه يشكّل عبئًا عليها بعد مرور عدة سنوات، وأوصت بتبنّي الخيار الثالث وهو تهجير السكان إلى سيناء وإلى دول أخرى في المنطقة والعالم، ورأت أن على إسرائيل دعوة السكان المدنيين إلى الهجرة إلى جنوب القطاع في رفح تمهيدًا لتهجيرهم إلى سيناء، وأن على إسرائيل إبقاء المحاور المرورية في اتجاه الجنوب مفتوحة عند قصفها القطاع، لإتاحة الفرصة لتهجير المدنيين إلى رفح.
وحثت الوثيقة الحكومة الإسرائيلية على تكثيف العمل على الصعيد الدولي، وخاصة لدى الولايات المتحدة والدول الغربية، لتوفير الشرعية الدولية لعملية التهجير إلى سيناء، وأن تبذل هذه الدول الجهود للضغط على القيادة المصرية لقبول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مقابل تقديم الدعم الاقتصادي لمصر لحل أزمتها الاقتصادية، وكذلك التأثير في الولايات المتحدة لكي تضغط على العديد من الدول في الشرق الأوسط ودول غربية لاستيعاب جزء من سكان القطاع، وأشارت الوثيقة إلى أهمية الترويج إعلاميًا لمخطط التهجير، إقليميًا ودوليًا وفي صفوف الفلسطينيين أنفسهم في القطاع، وإلى ضرورة التشديد على الترويج الموجّه إلى الفلسطينيين بفقدان ديارهم واستحالة العودة إليها.
وبعد كشف النقاب عن الوثيقة، ظلت وزيرة الاستخبارات غيلا غمليئيل متمسكة بالتهجير، ففي مقال لها، نادت باستغلال الحرب على القطاع لتهجير الفلسطينيين منه إلى سيناء ودول أخرى في العالم، وأكدت أن إحدى المهمات التي تعمل عليها وزارتها هي الوضع في اليوم التالي للقضاء على حماس وحكمها في القطاع، وأن بقاء أكثر من مليونَي فلسطيني فيه أمر غير مقبول مهما كانت طبيعة السلطة التي ستحكمه، وأن الحل الوحيد هو تهجيرهم إلى سيناء ودول أخرى في المنطقة والعالم، لقد امتدت الدعوة إلى التهجير إلى فئات أخرى في المجتمع الإسرائيلي، من ضمنها مراكز الأبحاث.
فبعد مرور عشرة أيام على بدء الحرب، نشر رفائيل بن ليفي، الباحث في معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، مقالًا دعا فيه إلى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء ودول أخرى في العالم، ورفض بشدّة أيّ حل آخر يبقى فيه الفلسطينيون في القطاع، سواء تحت الاحتلال الإسرائيلي أو تحت حكم أيّ سلطة فلسطينية، وعبّر عن قناعته بأنه يجب أن تهجّر إسرائيل سكان القطاع إلى سيناء، وأن تدفع أيضًا إلى بلورة مبادرة دولية لاستيعاب المهجّرين في دول أخرى، وأن تضمّ قطاع غزة إليها بعد تهجير سكانه الفلسطينيين، وأضاف أنه من الطبيعي أن يعارض أعداء إسرائيل ومؤيدوهم في العالم تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، لأنهم يدركون أن ذلك سيكون انتصارًا ملموسًا لإسرائيل ونكبة جديدة للفلسطينيين، ولكن على الرغم من هذه المعارضة، فإنه ينبغي لإسرائيل أن تتمسك بهدف طرد الفلسطينيين من القطاع.
ونشر أمير فايتمن، أحد ناشطي حزب الليكود، ورقةً طرح فيها خطة مفصّلة لتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر، ادّعى فيها أن اقتصاد مصر يعاني أزمة اقتصادية عميقة تهدد استقرار النظام المصري ومصالح العديد من الدول، وخاصة التي أعطت مصر قروضًا كبيرة، وأشار إلى أن النظام المصري يعارض حتى الآن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، ولكن في الإمكان التغلب على هذه المعارضة بوساطة تقديم إسرائيل المال لمصر بسخاء، المُرافق بالضغط الأمريكي، واقترح أن تكون إسرائيل سخية مع مصر، وتدفع لها نحو 30 – 40 مليار دولار لشراء بضع مئات آلاف الشقق في مصر في العديد من المدن التي تتوافر فيها الشقق، مثل مدينتي السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان، لتوطين الفلسطينيين الذين سيهجّرون من القطاع فيها، واستخلص أن الوقت الآن مناسب لتحقيق هذه الخطة الطموحة، وأنه «في إمكان قوة إسرائيل الاقتصادية التفاعل مع الضائقة الاقتصادية المصرية للدفع في تحقيق تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر».
ونشر يوآف سوريك، محرر مجلة هشيلواح، ورقة حاجّ فيها بأنه يجب أن تتخلص إسرائيل من الفرضيات السابقة التي قادت إلى السابع من أكتوبر، وأن يكون لديها «وضوح أخلاقي» بشأن الأهداف التي تسعى لتحقيقها، ويتضح من ورقته أن الأخلاق التي يدعو إليها ما هي إلا أخلاق القتلة وكبار المجرمين في التاريخ الإنساني؛ فقد ذكر أن هذه الأهداف يجب أن تستند إلى المبادئ التالية: أولًا: يجب أن يكون القتل الجماعي جزءًا من تحقيق الانتصار على العدو، أما القتل الجماعي الذي لا يكون كذلك فهو ليس أخلاقيًا؛ أي إنه يحقّ لإسرائيل أن ترتكب جرائم القتل الجماعي ضد الفلسطينيين، ما دام ذلك يخدم تحقيق الانتصار، ثانيًا: إبقاء سكان قطاع غزة فيه سياسة غير أخلاقية، ثالثًا: ترحيل سكان القطاع المدنيين غير المتورطين في الحرب إلى دول في المنطقة والعالم عمل أخلاقي، وينبغي توطينهم في العديد من الدول في المنطقة والعالم وإلغاء منظمة غوث وتشغيل لاجئين فلسطين في الشرق الأدنى «الأونروا»، وأكد أنه ينبغي عدم السماح للفلسطينيين الذين هجّرهم الجيش الإسرائيلي من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بالعودة إلى بيوتهم، وأضاف أن «العدل والانتقام» هما ضرورة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل؛ فقد تلقّى الردع الإسرائيلي في السابع من أكتوبر ضربة قوية، ولن يُسترد إلا بدفع الفلسطينيين ثمنًا باهظًا جدًا يغيّر الواقع، وإذا لم تستعِد إسرائيل الردع فإنها ستبدأ في الانحدار أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، ورأى أنه يجب إعادة بناء غزة بعد تهجير الفلسطينيين كمدينة إسرائيلية.
ولم يكن مؤسس حركة «إم ترتسو» (إذا أردتم)، رونين شوفال، أقل تطرفًا من سوريك. فقد أكّد في مقال له أنه يجب أن يكون واضحًا للغرب عمومًا، ولإسرائيل خصوصًا، أن بقاء السكان الفلسطينيين وبقاء «نظام قاتل» في قطاع غزة عمل غير أخلاقي، وأن نقل السكان الفلسطينيين غير المنخرطين في الحرب إلى خارج القطاع عمل أخلاقي، وأضاف أنه يجب «محو القتلة من الوجود» بوساطة حرب شاملة على القطاع، وفي هذه الحرب، يُمنح السكان المدنيون غير المنخرطين في الحرب ممرًا آمنًا في اتجاه مصر، ويجب أن يقتل الجيش الإسرائيلي كل من يبقى في القطاع بعد أن يوجّه إليهم إنذارًا بالاستسلام ومغادرته.
ولم تقتصر الدعوة إلى التهجير على اليمين المتطرف واليمين الفاشي في إسرائيل، ولا على أحزاب الائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو، وإنما امتدت إلى أعضاء كنيست في قيادة المعارضة الإسرائيلية، فقد طالب عضو الكنيست القيادي في حزب «يوجد مستقبل»، رام بن باراك، الذي يعدّ الرجل الثاني في هذا الحزب، وكان قد أعلن عن نيته الترشح لمنافسة يائير لبيد على رئاسة الحزب، في مقال مشترك له ولعضو الكنيست داني دانون القيادي في حزب الليكود، نشراه في صحيفة «وول ستريت جورنال»، بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الدول الغربية ودول أخرى في العالم.
وناشدا الدول الغربية والمنظمات الدولية، ذات الخبرة في معالجة قضايا اللاجئين، بوضع مشروع دولي يجري من خلاله تهجير واسع النطاق للفلسطينيين من قطاع غزة إلى الدول الغربية ومختلف الدول الأخرى في العالم التي تقبل استقبالهم.
وكشف دانون النقاب عن أن إسرائيل بذلت جهدًا على الصعيد الدولي لتهجير سكان القطاع، وادّعى أن العديد من الدول في أمريكا الجنوبية وأفريقيا أعربت عن استعدادها لاستيعاب لاجئين منه، وأن بعضها «طلب مالًا وأمورًا أخرى» مقابل الموافقة على استيعابهم، وحاول دانون تبرير تهجير الفلسطينيين من القطاع بأنه أمر طبيعي يحدث في الحروب، وأنه ليس مخططًا إسرائيليًا أصيلًا سعت إسرائيل دومًا لتحقيقه، فقد ذكر أنه «في كل حرب تحدث هجرة، انظر إلى ما حدث في سوريا، مليون ونصف المليون انتقلوا إلى الأردن، وثلاثة ملايين انتقلوا إلى تركيا، وانتقل كذلك عدة ملايين إلى أوروبا»، وأضاف أن إسرائيل ستتواصل مع دول في المنطقة والعالم لحضّها على قبول هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة إليها، وأنها لن تتحدث معها عن أرقام عالية «كي لا تخيفها، وحتى إذا قبلت كل دولة عشرة آلاف إلى عشرين ألفًا من قطاع غزة، فإن هذا رقم معتبر»، وطرح دانون مسألة التهجير في اجتماع كتلة حزب الليكود في الكنيست، وقال نتنياهو فيه إنه يشجع تهجير الفلسطينيين من القطاع، ولكن المشكلة تكمن في إيجاد دول توافق على قبولهم فيها.
وفي سياق السعي الإسرائيلي للتهجير، قدّم عضو الكنيست عن حزب الليكود، موشيه بسال، في 4 ديسمبر 2023م، اقتراح قانون في الكنيست لتشجيع تهجير الفلسطينيين من القطاع. وجاء في نص القانون المقترح أن حكومة إسرائيل تتصل بدول في العالم لحثّها على استيعاب مهاجرين فلسطينيين من القطاع، وأنها ستدفع لكل مهاجر من القطاع ستة آلاف دولار، وتدفع عشرة آلاف دولار للدولة المستقبلة عن كل مهاجر تستوعبه فيها.
اجتماع شعبي يدعو إلى التهجير
في سياق الدعوة إلى التهجير ووضعها على قمة أجندة الرأي العام الإسرائيلي، بادرت أحزاب اليمين المتطرف واليمين الفاشي الحاكم في إسرائيل إلى عقد اجتماع شعبي كبير في أواخر يناير 2024م، في مباني الأمة في القدس الغربية، شارك فيه آلاف الإسرائيليين، ودعا قادة أحزاب الائتلاف الحكومي الذين شاركوا في الاجتماع إلى طرد الفلسطينيين من قطاع غزة وتجديد الاستيطان اليهودي فيه، وقد شارك في الاجتماع 15عضو كنيست، و12 وزيرًا من أحزاب الليكود والقوة اليهودية والصهيونية الدينية و»يهدوت هتوراه» الحريدي، إلى جانب قادة حركات الاستيطان اليهودي، وقّعوا فيه على ميثاق للاستيطان في قطاع غزة.
لقد هيمنت دعوة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة على هذا الاجتماع؛ فقد طالب الوزراء وأعضاء الكنيست الذين تحدثوا فيه، وسط هتافات الجمهور «ترانسفير ترانسفير»، بتهجير الفلسطينيين من القطاع وإعادة الاستيطان في مدنه وتحويلها إلى مدن يهودية بعد طرد الفلسطينيين منها، ولم يتميّز هذا الاجتماع الشعبي بمشاركة العديد من وزراء وأعضاء كنيست من قادة حزب الليكود فحسب، الذين نادوا في خطاباتهم بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، تمامًا كما نادى قادة الحزبَين الفاشيين الشريكين في الائتلاف الحكومي، القوة اليهودية بقيادة إيتمار بن غفير والصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموتريتش، وإنما أيضًا بمشاركة رئيس حزب يهدوت هتوراه، يتسحاك غولدنوف، الذي ألقى خطابًا ذكّر فيه بأنه يقف ضد التنازل عن أيّ جزء من «أرض إسرائيل» وأنه يدعم تجديد الاستيطان اليهودي في جميع أراضي قطاع غزة.
خاتمة
إلى جانب تحقيق هدف الحرب المعلن وهو القضاء على حكم حماس وعلى قوتها العسكرية في قطاع غزة، تحاول إسرائيل في هذه الحرب تهجير الفلسطينيين أو معظمهم من قطاع غزة إلى سيناء، وجاءت حرب الإبادة وتدمير القطاع وتحويله إلى منطقة غير صالحة للعيش فيها، لتخدم على نحو مباشر استراتيجية إسرائيل في التهجير، ولتحقيق ذلك، تعمل علنًا وسرًا للاتفاق مع العديد من الدول في العالم لاستقبال أكبر عدد من الفلسطينيين للهجرة إليها مقابل تقديم المال لها، سواء عن طريق رفح أو بوساطة ميناء يجري إنشاؤه أو عن طريق إسرائيل نفسها.
دراسة نشرت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات