رمضان.. وطوفان الأقصى

د. محمد البحيصي

 

 

لشهر رمضان مكانة عظيمة في نفوس المؤمنين، فهو شهر الله المعظّم، وعلى قدر ما هو شهر الله فهو شهر الناس كما هو المسجد الحرام والمساجد بيوت لله وبيوت للناس في قوامهم وروحهم وريحانهم، فشهر الله الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وقد تحققت في واقع المسلمين كل هذه المعاني، ليظلّ أيةً للناس تدلّهم على الله، وترشدهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم، ومن علامات الفرقان في رمضان أنّه الشهر الذي أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، وهدم فيه أركان الشرك وأهله، في بدر والفتح، وما لا يُحصى من انتصارات لهذه الأمة يوم أن جعلت من هذا الشهر محطة للتّقوى، ورافعة للعمل الصالح.
في هذا العام يجيء رمضان، والشعب الفلسطيني ومعه أحرار الأمّة في مواجهة محتدمة مع قوى الشر وأولياء الشيطان، فها نحن في الشهر السادس من حرب الإبادة المفروضة على الأهل في غزة، وقد برح الخفاء وانكشف الغطاء، وتغربل الناس، وزال الالتباس، واتّضح الطريق، وبان العدو من الصديق، ويوسف عاد من جديد، والكيد عاد هو الكيد، وغزّة كما قال القائل:
قد أوسعتنا عتاباً وهي صامتةٌ
بلاغة الجرح أغنتها عن الخُطبِ
رمضان الطوفان يهلّ هلاله في سماء فلسطين هذا العام صاعداً بعد مولده من تراب غزّة المجبول بالدم الطّهور، وقد نسج من أنواره أكفان الشهداء، وها هو يعلو شاهداً على أمّة وقفت عاجزةً تتفرّج على جيادها تُنحر، وتنهشها كلاب (العصر الأمريكي)، وهي في لهوها ومجونها غارقة، ومنها ما هو سعيد بمشاهد القتل الذريع، والتدمير الفظيع، ويستعجل الوقت الذي تلفظ فيه الضحية أنفاسها الأخيرة ليقرأ (بيان اليوم التالي) حسبما خطّه وتوهمه مشغّلوه الأمريكان الصهاينة، وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم.
رمضان الطوفان ملوّن صيامه بالدّم الجاري من أوردة الأطفال، وساعاته تنبض على دقّات الصمت لقلوب الأجساد المحشورة تحت ركام منازل كانت بالأمس تجلجل بالضحك وبالصلوات.
رمضان الطوفان يلملم أشلاء الشعب المزروع المتجذّر حتى الأرض السابعة في وطن ليس له غيره، وليس لأول مرّة ينهض هذا الشعب وقد ظنّ الأعداء بأنّهم قد دفنوه مراراً، لكنه يباغتهم بمجيئه كاليوم الموعود، حاملاً يقينه، وقد لقّنه الله حجّته وهو على درب الأقصى ماضٍ.
في رمضان الطوفان، رمضان القرآن، لا أدري كيف سيحتمل المسلمون كل هذا الوجع الفلسطيني، وكل هذا الظلم والخذلان؟
كيف سيصومون، وعن أي صيام يتحدّثون، وغزّة صائمة ستة أشهر تفطر قذائف وغباراً؟
وفي صلواتهم ماذا يقرأون، وقد نبذوا القرآن الذي يأمرهم أن ينصروا غزة المسلمة؟
وبأي دعاء لله يدعون، وغزّة تدعوهم فلا يسمعون، ودعاء غزة هو دعاء المستضعفين الذي هو دعاء الله.
في رمضان الطوفان، سرجت غزة قناديلها التي أشعلتها بدمائها، كي توقظ أمة أدمنت النوم والتيه، وصاحت في أمتها مثل ديك الصباح، حيّ على الجهاد، حيّ على الفلاح، حيّ على القدس، فانتضى القوم خناجرهم ليذبحوا هذا الديك الذي أراد بعثهم من مرقدهم..
رمضان الطوفان يجيء وقد رسمت الأيدي المتطهّرة مشهد نهاية الاحتلال وزوال مشروعه، بعد أن انكشف على حقيقته أمام كل العالم، وسقط القناع الذي كان يتخفّى وراءه، أعني قناع الضحيّة المتسلّحة باضطهاد الآخرين لها، والمحرقة، والمعاداة لمخترع (السامية)، وسرديّة الحق التاريخي والبكاء على الحيطان، وواحة الديمقراطية، والجيش الذي لا يُقهر، وإمكانية التعايش، والديانة (الإبراهيمية)،… الخ.
كل هذا سقط تحت إرادة المجاهدين، وعرفت كل شعوب الأرض أنّ الذي يستحق الحياة في فلسطين، هو شعبها الذي تعجنه الدبابات وتشظّيه الصواريخ وهو صابر مصابر مرابط لا يتزحزح عن حقّه، ولا يتراجع عن جهاده ومقاومته، راضٍ بقدره ومقامه في الخندق الأول مدافعاً عن أرضه ومقدّساته وأمّته التي آن لها أن تستفيق.
في رمضان الطوفان.. سلامٌ على غزّة.. سلامٌ على الضفة.. سلامٌ على فلسطين.. سلامٌ على المجاهدين في جبهات الجهاد والمقاومة في اليمن ولبنان وسورية والعراق وإيران.. وسلامٌ على الشهداء.
رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية

قد يعجبك ايضا