تحدثوا كثيرا عن حروب الجيل الخامس، وعن استراتيجية الصدمة والرعب، واستراتيجية الفوضى الخلاقة، والعديد من استراتيجيات الردع التي ظلت محل اهتمام وتداول الوسائط الإعلامية العربية والدولية وقضية شغلت المحللين الاستراتيجيين والمتوسطين، وانهمكت في دراستها مراكز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية على مدى عقدين من الزمن.
كان الكيان الصهيوني خلال هذه الفترة يمثل (صدى البنتاجون الأمريكي) وما تصدر عنه من دراسات ونظريات ذات صلة بديمومة الردع والتفوق من أجل الهيمنة، اختبرت واشنطن وحلفاؤها نجاعة هذه النظريات (الردعية) خلال حربها ضد (الإرهاب) كذريعة اتخذتها على إثر أحداث 11سبتمبر 2001م، حين أعلن الرئيس الأمريكي (بوش -الابن) تلك الحرب، مطلقا التهديدات لكل دول العالم من الاعتراض عليها بقوله (من لم يكن معنا فهوا ضدنا) وقال (إنها حرب صليبية) قبل أن تصرح البيت الأبيض رسميا وتؤكد أن (العبارة كانت زلة لسان)..!
استباحت واشنطن سيادة دول العالم وخاصة الدول العربية والإسلامية تحت زعم (مكافحة الإرهاب) ومارست تحت هذه الذريعة والشعار (إرهاب دولة) منظماً ضد شعوب العالم التي قالت أنظمتها ومنذ اللحظة الأولى (لا قبل لنا ببوش وبجنوده وبأمريكا وقواتها وقدراتها)، ومن أفغانستان التي دمرت مدنها وقراها التي غالبيتها مبنية من (الطين) ومع ذلك ألقت واشنطن صواريخها الاستراتيجية وقنابلها الذكية على تلك المنازل الطينية وخصصت صاروخا استراتيجيا وعدة قنابل ذكية لكل منزل طيني مع أن كلفة الصاروخ أو القنبلة الذكية تساوي تكاليف بناء مدينة بكاملها من البيوت الطينية، لكنها غطرسة الردع ونزعة الإمبريالية المتوحشة التي اتخذت من دمار أفغانستان رسالة للعراق الذي رغم إدراكه بأنه مستهدف لا محالة، رفض القبول بمطالب وشروط أمريكا ولندن وهما الثنائي الاستعماري الأكثر قبحا وبشاعة وانحطاطاً..!
جاء دور العراق وتم تدميره وغزوه واحتلاله بـ(كذبة) روجتها أعظم واكبر دولة في العالم وهي أمريكا، لكنها لم تخجل، لأن العقلية الأمريكية التي سيطرت على البيت منذ عام 1990م تحديدا هي ذات العقلية التي تشكل بها ومنها عقلية القادة الصهاينة أمثال نتنياهو وبن جفير، وسمويتريش، وبيل جانس، وكل ترويكا القادة الصهاينة، الذين لا يختلف تفكيرهم المتغطرس عن تفكير أولئك الذين يديرون البيت الأبيض منذ عام 1990م وقد يختلف عنهم (ترامب) القادم من (مواخير الدعارة) كرجل أعمال لا ينتمي لترويكا الدولة العميقة في أمريكا ولهذا يواجه الرجل سواءً خلال رئاسته أو بعد مغادرته البيت الأبيض، تحديات وصعوبات بهدف تشويه سمعته وقطع الطريق أمامه من إمكانية العودة للبيت الأبيض مرة أخرى في سياق صراع داخلي متصل بأزمة مفصلية تعيشها أمريكا كدولة ومؤسسات ومجتمع يفتقد للهوية الجامعة..!
عربدت أمريكا وعربد معها الكيان الصهيوني، فسقطت كل الاتفاقيات التي رعتها أمريكا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وبضمانة بريطانيا التي فرضت عددا من مسؤوليها في إدارة ملف الصراع العربي الصهيوني ثم حولته إلى صراع فلسطيني صهيوني، قبل أن يصبح هذا الصراع مختزلاً بصراع قطاع غزة وحماس والمقاومة مع الصهاينة، واستغلالا لضجيج الحرب ضد الإرهاب، تم إدراج المقاومة الفلسطينية ضمن (المنظمات الإرهابية) وهذا كان الإنجاز الوحيد الذي حققته واشنطن خلال حملتها ضد الإرهاب..!
والمؤسف أن بعض الأنظمة العربية وفي سياق خلافاتها مع الجماعة الإسلامية لم تفرق بين جماعة تناصب هذه الأنظمة العداء وهي تنتمي لنسيجها الاجتماعي والوطني وبين جماعة إسلامية تقاتل ضد العدو الصهيوني، أنظمة عربية وإسلامية تعايشت لعقود مع جماعة ( الإخوان المسلمين) سواءً تعلق الأمر بالنظام المصري منذ تولي السادات الحكم بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر عام 1970م وقد استعان السادات بالاخوان وأخرجهم من السجون لقاء أن يدعموه في مواجهة التيار القومي واليساري وبدعم مالي خليجي ورعاية أمريكية -بريطانية تشكلت روابط من علاقة مقدسة بين الجماعة وهذه الأنظمة والدول الكبرى..!!
لكن الأمر اختلف مع حركتي (حماس والجهاد) اللتين وجدتا لمواجهة الكيان الصهيوني وفرضت أمريكا منطقها على الأنظمة العربية وبعض الأنظمة الإسلامية على اعتبار المقاومة الفلسطينية (جماعات إرهابية)، التهمة طالت أيضا (حزب الله) في لبنان وفصائل مقاومة، بل أصبح كل معارض للكيان الصهيوني والمشروع الأمريكي الاستعماري يصنف في قائمة ( الإرهاب)..!
بيد أن معركة ( طوفان الأقصى) معركة استثنائية غير مسبوقة وغير متوقعة ولذا نرى هذا الجنون الدولي ضد المقاومة في قطاع غزة التي أسقطت كل النظريات والأدبيات الاستراتيجية وأسقطت كل استراتيجيات الردع الصهيونية، كما أسقطت أساطير الكيان الصهيوني بكل مزاعمها، ولم يتوقف الأمر هنا بل استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تتفوق بأدائها العسكري والاستخباري والإعلامي، واستراتيجية الحرب النفسية، تفوقت بكل هذه الجوانب عن العدو وعن استراتيجية البنتاجون الأمريكي، إضافة لهذا الصمود الأسطوري أمام حرب أو بالأصح عدوان إبادة تشارك فيه غالبية دول العالم العظمى، ومع ذلك استطاعت المقاومة بقدراتها الذاتية أن تتفوق وتدير المعركة بعقلية تفوق تلك التي ابتكرت استراتيجية الصدمة والرعب والتي طورتها المقاومة وبها واجهت الاحتلال وأفقدته تماسكه صباح 7 أكتوبر من العام الماضي، والمفاجأة طالت أمريكا ومخططاتها بالمنطقة، ولهذا هرولت واشنطن ولندن بأساطيلهما على أمل ردع أي طرف من التدخل لصالح الشعب الفلسطيني ولم تكن واشنطن تتوقع الموقف إليمني ولا تتخيله وليس له أثر في حساباتها ومع حدوث الموقف اليمني من حيث لا تتوقعه أمريكا، لم تحتمل واشنطن هذه الإهانة المضافة إليها بعد إهانة المقاومة لها وإرباك مخططها وخاصة فيما يتصل بعملية (التطبيع) الذي كانت واشنطن ترسم مساره ومخرجاته، وأيضا فيما يتعلق بقطار الهند -حيفا الذي حاولت واشنطن به قطع المسار أمام مشروع الحزام والطريق الصيني في سياق حرب جيوسياسية مستعرة بين واشنطن ولندن من جهة وبين موسكو وبكين من جهة أخرى وبينهما أطراف مناصرة لهذا التكتل أو ذاك، صراع يتمحور حول ميلاد نظام دولي جديد متعدد الأقطاب صارت اليوم ملامحه أكثر وضوحا، وصارت غزة بصمودها وأبطالها نقطة تحول في ولادة هذا النظام الدولي الجديد، الأمر الآخر يمكن مشاهدته في الصراعات الداخلية المتصاعدة داخل الكيان وداخل الإدارة الأمريكية وكل هذه المؤشرات تؤكد تفاقم الأزمة الوجودية داخل المجتمع الأمريكي والتي ألقت بظلالها على الكيان الصهيوني مجتمعاً وإدارة..!
إن (غزة) تتعرض لحرب إبادة منظمة وممنهجة، حرب يراد من خلالها طمس قضية وتصفية حقوق والأهم من ذلك ضرب فكر وثقافة المقاومة، إلى جانب استعادة هيبة مفقودة للكيان ومؤسساته، وأمريكيا تحاول واشنطن فرض وجودها وتذكير العالم بأنها لا تزل القوى العظمى وسيدة العالم وهذا ما جرده منها الموقف اليمني، ليأتي عدوانها الأخير على اليمن وعلى سوريا والعراق والتهديد المبطن لحزب الله في لبنان، كشكل من أشكال الردع واستعادة الهيبة المفقودة، دون أن تتجاهل الغمز من قناة إيران والزعم بأنها تستهدف وكلاء إيران بالمنطقة ويأتي هذا في سياق مساعي واشنطن لما تصفه (عزل إيران) عن المنطقة والعزف عن طريق إيران هو سلوك أمريكي -صهيوني -ويردده كالببغاوات اتباعهم في المنطقة، غير أن هذا الأمر لم يعد بعد معركة طوفان الأقصى ذا تأثير بعد أن كشفت واشنطن والغرب عن كل ما كانوا يحاولون إخفاءه خلف المفردات الدبلوماسية المنمقة هذه المفردات التي تجعل واشنطن تشارك في إبادة قطاع غزة، فيما نراها تنتقد بعض المستوطنين في الضفة وتزعم أنها تفرض عقوبات عليهم ومثلها سلكت بريطانيا والغرب..!
وهذا هو النفاق والتدليس والقبح بكل صوره وبشاعته..!
إن غزة تتعرض لحرب إبادة.. نعم، وان هناك أكثر من مائة ألف عربي فلسطيني بين شهيد وجريح غالبيتهم من النساء والأطفال.. نعم، لكن بالمقابل قدمت غزة ببطولاتها وصمودها ما عجزت عنه كل جيوش الأمة، وقدمت المقاومة الفلسطينية استراتيجية نضالية أذهلت العالم وحطمت كل نظريات حروب الجيل الخامس والسادس عشر..!
وعلى العرب وخاصة أولئك المنبطحين والمرتهنين وأقصد الأنظمة، عليهم أن يدركوا أن غدا سيدفعون ثمنا باهظا جراء انبطاحهم وارتهانهم وثمن تبعيتهم لأمريكا.
Prev Post