نعيش هذه الأيام ذكرى مؤلمة، ذكرى المصاب الجلل والحدث الكبير والمأساة المحزنة، ذكرى استشهاد الشهيد القائد مؤسس المسيرة القرآنية، شهيد الأمة، العبد الصالح، المجاهد العظيم، حليف القرآن، السيد/حسين بدرالدين الحوثي -رضوان الله عليه-.. ذلك الرجل العظيم الذي تذكرنا مأساة استشهاده بحادثة استشهاد سبط رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) الإمام الحسين، سلام الله عليه.
الشهيد القائد لم يكن رجلاً عاديا فقد أثبتت الأحداث والمنعطفات أننا أمام رجل عظيم خطى واقتفى أثر أجداده العظماء كالإمام الهادي وزيد والحسين والإمام علي -رضوان الله عليهم جميعا- والذين ضحوا في سبيل الله وفي سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من عواصف الضلال والانحراف..
شهيدنا المقدس ورجلنا العظيم لم تكن انطلاقته لأهداف عابرة أو لأغراض دنيوية أو نتيجة أحقاد متراكمة ولا حتى للانتصار لمظلوميته من قبل جلاوزة السلطة وأدواتها وتعرض هو ووالده وأسرته لاعتداءات متكررة، بل كانت انطلاقة قرآنية بهدف عظيم هو إصلاح واقع الأمة المنحرف من خلال إعادة تقديم المبادئ والقيم والمفاهيم الإسلامية كما قدمها القرآن الكريم بعد أن غيبتها الثقافات المغلوطة والأفكار المنحرفة والجماعات المتطرفة.. فكان المشروع القرآني الذي فعلا أحيا أمة ونهض بها وأصبحت تتبنى الثقافة القرآنية منهجاً لها في مسيرة الحياة وفي مواجهة التحديات والمؤامرات..
الانطلاقة المباركة
إن رجلا هو سليل النبوة عاش مع القرآن واستبصر به واهتدى بآياته لم يكن ليقعد وهو يرى جحافل اليهود والنصارى ومؤامراتهم الرهيبة تتداعى على أبناء أمته في وقت يتملكهم اليأس وتعصف بهم الفتن وتستبد بهم الحيرة ويعيشون أسوأ مراحل الاستضعاف والشتات والفرقة والتيه والضياع والحيرة، وضعا استثنائيا كان يرى فيه العدو محفزاً قوياً ومقبلاً شهياً ليأتي من خلف البحار ليسفك دماء أبناء الأمة وينهب ثرواتهم ويحتل بلدانهم مبتدأ من أفغانستان وإلى العراق ثم ما تلى ذلك..
إزاء هذا الواقع لم يكن من خيار أمام الشهيد القائد سوى أن يتحرك مستشعراً مسؤوليته أمام الله، فأنطلق متوكلاً على الله ومعتمدا عليه، ففي حوار مع شبكة الـ بي بي سي أثناء الحرب الظالمة في اتصال هاتفي كان منـه هذه الفقرة قال: (إن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، نحن نعتقد أن لدينا معرفة بالبينات والهـدى فمن واجبنا أمام الله ـ ونحن يجب أن لا نخاف إلا الله ـ أن نبين للناس فنحن بينا للنـاس أن هذه المرحلة التي نحن فيها ونقول للجميــــع إن المسلمين اليوم في مرحلة خطيرة حسبما أعتقد مرحلة مؤاخذة إلهية ونحن ننطلق من هذه المســـؤولية الإلهية في القرآن بتبليغ الناس هذا هو شيء أوجبه الله على من لديهم معرفة{وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} فهذا عملنا من البدايــة، نذكِّر الناس بالقرآن الكريم ومن منطلق قول الله سبحانه لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله){فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} فنحن نذكـــر الناس بالقرآن، فمن قبــل فلا بأس ومن لا يقبل لا نرغمه على ذلك ولا نفرض عليه أن يتوجه بتوجيهنا ولا نكفـره ولا نفسقه، والتذكير ليس مجرد أن نذكر أن هناك عدواً بل يجب أن تكون هناك رؤية تقدم للناس رؤية عملية يتحركون فيها، على هذا الأساس كان أمامنا قضيتان:-
القضية الأولى: رفع شعار: [الله أكبر / الموت لأمريكا/ الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود/ النصر للإسلام[
القضية الثانية: مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية كواجب ديني.
مشروع عظيم وعمل تتطلبه المرحلة
لقد أثبتت الأحداث التالية أن تحرك الشهيد القائد وانطلاقته بمشروعه القرآني العظيم هو ما تتطلبه المرحلة، فالأمة الإسلامية كانت مستهدفة بشكل كبير، ففي محاضرة [الصرخة في وجه المستكبرين] يؤكد الشهيد القائد أن المسلمين كلهم في قلب الاستهداف الصهيوأمريكي وأن المؤامرة الأمريكية لا تستهدف طائفة أو مذهب أو دولة إسلامية محددة، بل هم يستهدفون المسلمين بشكل عام يقول (رضوان الله عليه):
(نحن نعرف جميعاً إجمالاً أن كل المسلمين مستهدفون، أو أن الإسلام والمسلمين هم من تدور على رؤوسهم رحى هذه المؤامرات الرهيبة التي تأتي بقيادة أمريكا وإسرائيل، ولكن كأننا لا ندري من هم المسلمون.
المسلمون هم أولئك مثلي ومثلك من سكان هذه القرية وتلك القرية، وهذه المنطقة وتلك المنطقة، أو أننا نتصور المسلمين مجتمعاً وهمياً، مجتمعاً لا ندري في أي عالم هو؟ المسلمون هم نحن أبناء هذه القرى المتناثرة في سفوح الجبال، أبناء المدن المنتشرة في مختلف بقاع العالم الإسلامي، نحن المسلمين، نحن المستهدفون.. ومع هذا نبدو وكأننا غير مستعدين أن نفهم، غير مستعدين أن نصحوا، بل يبدو غريباً علينا الحديث عن هذه الأحداث، وكأنها أحداث لا تعنينا، أو كأنها أحداث جديدة لم تطرق أخبارها مسامعنا، أو كأنها أحداث وليدة يومها).
ولنأتي إلى الواقع لنرى هل استثنت المؤامرات الأمريكية أحداً من الدول العربية والإسلامية أم أن جرائمها طالت كل البلدان الإسلامية وبالأخص الشعوب العربية، فمنذ احتلت أمريكا افغانستان قتلت 100 الف أفغاني وأدخلت المنطقة برمتها في فوضى وحروب ومآسٍ وسقوط دراماتيكي في كل شيء، فقد تتابعت الأحداث المأساوية التي صنعتها أمريكا وأدواتها في المنطقة، فالعراق يسقط تحت الاحتلال الأمريكي وخلال فترة الاحتلال الأمريكي سقط أكثر من مليون وسبعمائة الف عراقي ضحايا العدوان الأمريكي وأدواته التي صنعها كداعش والقاعدة التي حصدت آلاف الأرواح بعملياتها الانتحارية التي كانت تترصد أكبر التجمعات في المساجد والأسواق وغيرها..
فيما واصل الكيان الصهيوني عربدته بحماية أمريكية، فنكل بالشعب الفلسطيني وشن عدواناً متتابعاً على لبنان ثم تأتي موجة الربيع العربي لتستغلها أمريكا في إشعال المنطقة، فرأينا سوريا تحترق ولأكثر من 12 عاماً، لتشتعل بعدها ليبيا، ثم يشن عدوان إجرامي على اليمن ما زال مستمراً منذ ثمان سنوات وبين هذه الحروب أزمات سياسية واقتصادية طاحنة وكل هذه الحروب والأزمات كان حذر قد الأمة منها الشهيد القائد وصرخ مكراً ودعا المسلمين كلهم ليكون لهم موقف يفك رقابهم من عذاب الله.
وفي محاضرة [سورة المائدة ـ الدرس الثالث] تحدث عن الخلل داخل الأمة وما يجب أن تعمل قبل أن تستحكم قبضة الأعداء وقبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم يقول: ((نحن أمة مجروحة يجب أن تبحث عن العلاج وعن سبب المرض، عن السبب الذي جعل هذا الجرح ينـزف دماً ولا نجد هناك من يلتئم الجرح على يديه، ليس عصر مجاملة، ليس عصر مداهنة، ليس زمن تغطية وتلبيس، زمن يجب أن تكشف فيه الحقائق على أرقى مستوى، وأن يتبين فيه بدءاً من هناك من مفترق الطرق من بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) من هـو السبب في كل ما نحن نعاني منه؟ حتى وإن كان علياً، حتى وإن كان عماراً، حتى وإن كانت فاطمة ناهيك عن أبي بكر وعمر وأضرابهم).
حرص الشهيد القائد على التحرك من خلال النص القرآني
حرص السيد حسين بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه – في إطار المشروع القرآني على أن يتحرك من خلال القرآن الكريم، وأتى فعلا من خلال النص القرآني ليتحرك بهذا النص القرآني في الساحة الإسلامية، وينطلق وفق أفق هذا النص القرآني، هذا الأفق الواسع والرحب، لا مكبلا بقيود مذهبية، ولا طائفية، ولا جغرافية، ولا سياسية، كان المطلوب حركة تتجه بأوساط الأمة الإسلامية وهي غير مكبلة؛ لأن الأمريكي أتى ليعمل في ساحتنا ولم يكبل نفسه، لا بالاعتبارات الجغرافية، ولا السياسية، ولا الدينية، ولا بأي عنوان يؤطر نفسه فيه.
أتى ليكتسح الساحة بكلها، أتى ليقدم نفسه أنه المعني الأول في كل بلد، فهو مثلا في اليمن يقدم نفسه على أنه المعني الأول بالشؤون اليمنية، المعني الأول بالشؤون السورية، المعني الأول بالشؤون الخليجية، المعني الأول بالشؤون في الشام، سواء في سوريا أو في فلسطين أو في لبنان أو في الأردن، المعني الأول في شؤون دول المغرب العربي.
الشهيد القائد تحرك بالهوية الجامعة
السيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- تحرك من خلال النص القرآني، من خلال المشروع القرآني، الذي هو مشروع يمكن أن يتسع لكل الأمة، لكل المسلمين، لكل أبناء الأمة، وهو المشروع الحق، والكلمة السواء، الذي لا يمكن أن يرتقي أي مشروع آخر ليكون بمستوى القرآن، لو بحثنا عن أي طريقة أخرى، عن أي مشروع آخر، عن أي فكرة أخرى، مهما كانت، لا يمكن لأي مشروع ولا لأي فكرة أن ترتقي لتكون بمستوى القرآن الكريم.
ثم إنه برز سؤال كبير وعلامة استفهام كبيرة جدا، نحن كمسلمين ننتمي للإسلام، وأعظم ما نعتمد عليه في إسلامنا كمرجعية ثقافية ودينية ومرجعية تنويرية، هو القرآن الكريم، ألا يوجد في القرآن الكريم ما يمكن أن نستفيد منه؟ وأن نعتمد عليه في مواجهة هذه التحديات والأخطار؟ ألا يوجد فيما يمكن أن يكون بالنسبة لنا نور وأن نستفيد منه الوعي اللازم الذي نحن في أمس الحاجة إليه تجاه هذه التحديات والأخطار؟
علامة استفهام كبيرة، لماذا غُيِّب القرآن بشكل تام، عن الرجوع إليه في ظل هذه العواصف والأخطار والتحديات الكبيرة؟.
المشروع القرآني أرقى رؤية
المشروع القرآني الذي قدمه الشهيد القائد يتصف بأنه أرقى رؤية، وأدق رؤية، تتناول هذا الواقع، وتحصن الساحة الإسلامية من الداخل، لأن أكبر وأهم وأعظم ما تحتاج إليه أمتنا في هذه المواجهة، هو تحصين الساحة الداخلية، كيف تتحصن الساحة الداخلية للأمة، وما هو أعظم ما يمكن أن يحصنها؟ كثير من العناوين يمكن أن يستغلها العدو بدلا من أن تحصن الساحة الداخلية، يستفيد منها كعناوين مجزأة، ومبعثرة، وكعناوين أيضاً يمكن أن يوظف البعض منها لإحداث صراع، ما بالك أن تحمي الأمة في واقع ساحتها الداخلية.
المشروع القرآني يلامس هذه الأحداث ويتجه من خلال القرآن إلى هذا الواقع في ساحتنا الداخلية وتجاه العدو، على قاعدة (عين على القرآن وعين على الأحداث) هذه القاعدة المهمة جداً تصنع وعياً عالياً في واقع الأمة، تساعد على صناعة حصانة كبيرة في الساحة الداخلية للأمة، وعلى إيجاد دافع وحافز كبير نحو تحمل المسؤولية، وهذان الجانبان أهم ما تحتاج إليهما الأمة: وعي ومسؤولية.
القرآن الكريم لا يضاهيه ولا يساويه أي شيء آخر في صناعة الوعي، ولا يساويه ولا يضاهيه أي شيء آخر في صناعة المسؤولية، في ترسيخ الإحساس بالمسؤولية، وفي إيجاد دافع كبير لتحمل المسؤولية والتحرك في التصدي لهذه الأخطار والتحديات، وإذا توفر الوعي الكبير للأمة، وتحلت بهذا الوعي، وحملت الإحساس الكبير بالمسؤولية، وتوفر الدافع الكبير للتحرك في مواجهة هذه التحديات والأخطار، توفرت للأمة أهم عوامل القوة التي تحتاج إليها للتصدي لهذا الخطر الكبير، وهذا ما نحتاج إليه بشكل كبير، وهذا من أهم الإيجابيات في المشروع القرآني.
المشروع القرآني انطلق من قراءة واعية عن العدو
المشروع القرآني الذي تحرك به السيد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- هو مشروعٌ عظيم، انطلق من قراءة واعية عن العدو، عن الأحداث، عن مسارات هذه الأحداث، عن المجالات التي يتحرك فيها العدو: سياسياً، إعلامياً، اقتصادياً، بالتضليل الثقافي والفكري، بالاستغلال لمشاكل هذه الأمة التي تكاثرت عبر قرونٍ من الزمن، بالتوظيف والاستغلال لكثيرٍ من الأحداث والأزمات والمشاكل… وعي بالعدو، بأساليبه، بمكائده، بمخططاته، بطبيعة هذا الصراع، وطبيعة هذه المعركة، ويعتمد على القرآن الكريم، وعلى النظرة الواعية إلى الواقع، والفهم الصحيح لهذا الواقع على مبدأ (عينٌ على القرآن، وعينٌ على الأحداث).
هذا المشروع القرآني أيضاً يركز على الساحة الداخلية في تحصينها؛ لأن القرآن الكريم كلما تحدث لنا عنهم كأعداء يركز على أن يصيغ لنا رؤية صحيحة، نظرة صحيحة، فهماً صحيحاً عن هذا العدو كعدو، عن أساليبه، عن مكائده، عن النقاط الخطيرة التي ينفذ من خلالها في معركته معنا كأمةٍ مسلمة؛ فيتجه المشروع القرآني إلى تحصين الأمة من الداخل، وفق الهداية القرآنية التي تركز على هذه النقطة بشكلٍ جوهري.
ويركز القرآن الكريم على رؤية واسعة وكاملة، وفي نفس الوقت تعبئة معنوية عالية، وتربية على الشعور بالمسؤولية بشكلٍ كبير، وإيجاد طاقة معنوية هائلة لتحمل المسؤولية، والانطلاقة كما ينبغي في مواجهة هذه التحديات.
بعض ما حققه المشروع القرآني
المشروع القرآني بدأ بحركة صحيحة طبيعية سليمة يقدم الثقافة القرآنية بطريقة توعوية، وهتاف بشعار يحصن الساحة من الداخل من العمالة لأمريكا وإسرائيل، ويعلن عن موقف حيوي فاعل في البراءة من أمريكا وإسرائيل، ويعبر عن نبض، عن حياة، عن وجود، عن حضور، عن موقف تجاه ما تفعله أمريكا وإسرائيل، يُجذر الوعي بالخطر الأمريكي والإسرائيلي والموقف والتحمل للمسؤولية، يربط الأمة بقضاياها الكبرى التي يسعى الآخرون إلى إبعادها عنها مثلما هو الحال بالنسبة للقضية الفلسطينية والمقدسات… إلى آخره.
ولكن وجه بحروب شرسة جداً، حروب تلو حروب، عداوة شديدة، حملات رهيبة من التضليل الإعلامي والكيد السياسي، عملية تشويه غير مسبوقة، ولا أعرف مشروعا في الساحة الإسلامية وفي المنطقة العربية وجه بعداوة شديدة وبحملات رهيبة وبعداء كبير وباستهداف عسكري واستهداف بكل أشكال الاستهداف مثلما واجهته هذه المسيرة القرآنية، وبالرغم من مستوى الاستضعاف إلا أن هذا المشروع حمل أسباب البقاء والنماء فتعاظم وتنامى وقَوِيَ واشتد بقدر ما حورب وبقدر ما ووجه.
وها هو اليوم حاضر في الساحة الإسلامية: حضوره القوي، حضوره المميز، يحمل إرادة الخير تجاه أبناء كل الأمة، يرتبط بقضايا الأمة الكبرى، يمد يد الخير وينادي بوحدة أبناء هذه الأمة كلها واعتصامها بحبل الله جميعا، يتحرك من خلال الكلمة السواء والمحقة وساعد في تشكيل نواة صلبة في ساحتنا الداخلية في اليمن.