لقد كشف المستعمر عن قناعه، وأصبح مكشوفاً وواضحاً، ولذلك يتوجب على أحرار العالم الوقوف مع قضايا التحرر في العالم حتى تنال الشعوب كامل حريتها في تقرير مصيرها، واستغلال ثرواتها، بما يحقق الرفاه والعيش الكريم للشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، وقد جاء موقف اليمن من قضية فلسطين منسجما مع مبدأ حرية الشعوب في تقرير مصيرها، وبسط سيطرتها على كامل ترابها الوطني، ومع سيادتها واستقلالها، لأن اليمن تخوض معركة الحرية والاستقلال منذ عقد من الزمن، وربما كانت معركتها وثورتها ملهمة للشعوب حتى تنال الحرية والاستقلال .
العالم اليوم يموج مضطرباً، وقد بدأت الثورات التحررية تجتاح الشعوب، وبدأت الصحوة تعم البلدان وبدأ النظام الرأسمالي ينحسر شيئا فشيئا، وبدأت الشعوب تعرف عدوها من صديقها، ولذلك يتوجب على أحرار العالم الضرب بيد من حديد لحلم عودة المستعمر إلى البلدان ليعيث فيها فسادا، فالله لا يحب المفسدين .
فالعالم اليوم يتحرك من تحت أقدام النظام الرأسمالي الذي يمارس الغبن والاستغلال للشعوب، بعد أن ربض هذا النظام ردحا من الزمن، لم تجن الشعوب منه سوى الحروب والصراعات والانقسامات وتفشي روح الاستغلال والغبن للمقدرات، والتحكم بأقدار الناس وحيواتهم ورفاهيتهم وسعادتهم من خلال صناعة الأزمات، والفيروسات، والانتهاكات لقيم المحبة والسلام والتعايش السلمي والآمن بين الثقافات والحضارات، ومن خلال سعي الرأسمالية إلى العولمة، وتشكيل نظم اجتماعية لما بعد الحداثة يكون الفرد فيها حرا حرية مطلقة، لا تحكمه سوى المصالح المتبادلة، أو ما يؤمل من المصالح والمنافع دون أي اعتبار للقيم والمبادئ، ولا للقوانين والعهود الدولية، هذا العالم المتخيل بدأ يتشكل اليوم من خلال القفز على مبادئ وعهود الإنسان الدولية، وما حدث في اليمن وما يحدث اليوم في غزة دلائل واضحة على هذا التوجه، والسعي إلى هدم التطبيقات الاجتماعية، وتفكيك النظم العامة في القانون العام والطبيعي، وعدم احترام النظم الثقافية والاجتماعية والعقائدية، وتشجيع الأفراد والجماعات على الثورة عليها من خلال حالة الانفلات التي عليها المجتمع الافتراضي في شبكات التواصل الاجتماعي والتي بالضرورة سوف تعكس نفسها في الواقع المعيش للإنسان، فردا كان أو مجتمعا .
ويسعى النظام الرأسمالي إلى الاشتغال على مفردات القوة الناعمة بكل تفاصيلها في التفاعل مع قضايا الشعوب التي يدير صراعها ويتحكم في مصائرها ويرى في القوة الناعمة الأكثر تأثيرا والأقل كلفة من القوة الصلبة، وهي في الواقع الأكثر خطرا على هويات البلدان والشعوب وثقافتها ومستقبلها، وقد رأينا أثر ذلك في العدوان على اليمن ومن ثم نراه اليوم في حقائق الموقف مما يحدث في فلسطين، وبالتحديد في غزة من حرب إبادة شاملة تجرف الإنسان والحجر والشجر دون أن يتحرك للضمير الإنساني نبض أو يرف له جفن .
اليوم أمريكا شكلت تحالفا دوليا لحماية الملاحة في البحر الأحمر “باسم حارس الرفاه “، حماية لمصالح إسرائيل، وهي تدرك – وفق الكثير من المؤشرات والرموز التي يبعثها الواقع – أنها غير قادرة على الحرب الصلبة، فاضطراب البحر يهدد مصالح العالم كله، وهي في السياق لا تتوقع حسم معركتها مع اليمن في ظرف زمني وجيز، وفي نفس الوقت تعمل على حماية مصالح إسرائيل، وكانت تتوقع أن تتداعى دول الإقليم لخوض المعركة بالنيابة عنها، ويبدو من ظاهر الأمر أن تجربة السنوات الماضية كانت كافية لبعض دول الجوار في التحالف العربي الذي شن حربا عدوانية ضروسا على اليمن – في عدم التفاعل مع الحلف الجديد الذي لم يكن فكرة ملائمة سوى لبعض أذيال الإمارات في اليمن .
ما قامت به اليمن من نصرة لفلسطين كان موقفا معلنا وواضحا، ونشاطها في البحر لا يهدد إلا إسرائيل وما يمت لإسرائيل بصلة، وليس تهديدا للملاحة الدولية، فاليمن تعامل إسرائيل بالمثل من حيث قطع الإمدادات وحصارها بحريا حتى تكف عن عدوانها على غزة، وتفتح المنافذ لشعب غزة، وهذا موقف إنساني يفرضه الضمير الجمعي ويمليه على اليمن الضمير الديني، وقد وافق هذا الموقف تطلعات كل أحرار العالم الذين رأوا في موقف اليمن موقفا مشرفا يعلي من القيم العليا للعهود ومواثيق حقوق الإنسان ويعيد للضمير الإنساني الجمعي .
اليمن – التي تحالف العالم عليها على مدى عقد من الزمان وشن عدوانا غاشما عليها – خرجت منه أكثر قوة وصلابة وأصبحت من خلال تفاعلها مع القضية الفلسطينية تقدم نفسها كقوة إقليمية لا يستهان بها في المنطقة، ولذلك لا أرى أن التحالف الدولي الجديد سيخوض حربا صلبة على اليمن، ووفق منهج السياسة الأمريكية، فهي سوف تذهب إلى خيار القوة الناعمة .
ولعل البعد الاقتصادي يلعب دورا محوريا في القوة الناعمة، فأمريكا تحتل المرتبة الأولى عالميا فهي تشكل عامل جذب لستة أضعاف من المهاجرين الأجانب، وهي في السياق نفسه أول وأكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية، وتتحكم بالتطبيقات لمصادر الوعي العالمي، ومن خلال التحكم بمصادر الوعي استطاعت أمريكا أن تقنع العالم بخطورة الأنظمة التحررية التي استطاعت الصمود، والاشتغال على تفكيكها، ولنا في العراق مثالا حيا في ذلك، فالقارئ لما وصل اليه المجتمع العراقي يدرك – بما لا يدع مجالا للشك – أن أمريكا استطاعت اختراق المجتمع العراقي واشتغلت على إفساده إلى درجة الميوعة وانهيار القيم، ومثل ذلك مدرك من خلال حفلات الأعراس في المجتمع العراقي التي تبثها شبكات التواصل الاجتماعي .
ولذلك نرى أن تفعيل الجبهة الثقافية في كل المستويات الحضارية والثقافية المعاصرة أصبح ضرورة قصوى، وهي ضرورة لا تقل شأنا عن الاستعداد العسكري .