يحيى الشامي
حتى الناجون من مجازر اليوم قد يكونون ضحايا مذبحة الغد، من يدري متى يحينُ دوره، والطائراتُ الصهيونية تلقِي عليهم آلاف القنابلَ الأمريكية، شظاياها الموزَّعة لا يُغطّيْها إلا مشهدُ الأشلاء المقطّعة أو رُكامُ الأحياءُ المخرّبة والمنازلُ المدمّرة وهي تغطي معظم مساحة القطاع المقطّع إلى شمال و وسط وجنوب، ولا شيء يوحد هذه الأجزاءَ إلا أنها كلها غير آمنة وغير قابلة للحياة و لا منجية من الموت، وهو التوصيف الذي اتفقت عليه وأطلقته معظم المنظمات الإنسانية في معرضِ توصيفها للأوضاع في غزة وغزة اليوم أعظم شاهدٍ على أن اليهود شرٌ مطلق، يستحيل العيش معهم.
تقع المجازر في غزة، بمتوسط مجزرة في الساعةِ الواحدة، لا يعرف الناجون – وهم دائماً النسبة الأقل من أي غارة – ما إذا كانوا أنفسُهم ضحايا المجزرة التالية، ويجهلون كيف لم تقتلهم القنابل رغم فتكها وشدتها وعنفها وكثافتها، كلُ ما يعرفونه أنّها وقعت عليهم مباشرة، وهم نيامٌ أو بالأحرى والعالم نائم عن غزّة، وغزة تموت باليوم مرات عدة، تموت بالقنابل الأمريكية أو بالصمت العالمي وللأسف بالحصار العربي.
في مؤتمره الصحفي يوضح ممثّلُ منظمة الصحة العالمية جانباً من هول الكارثة ومأساوية الحال الذي بلغته غزة يقول ريتشارد بيبركورن: إن طفلاً واحداً يُقتل كل 10دقائق في غزة.
وأضاف: أعتقد أننا قريبون من أحلك لحظة في تاريخ البشرية، وأعاد عبارته القديمة الشهيرة: نحن بحاجة إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة.
وأوضح أن أكثر من 60 % من ضحايا جريمة الإبادة الجماعية في غزة هم من الأطفال والنساء، وسابقاً كانت منظمات معنية وصفت ما يجري في غزة بأنه أكبر عملية إبادة للأطفال في العصر، وأخرى قالت إن غزة أكبر مقبرةً للأطفال.
من جهتها حذرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” من تفاقم مستويات الجوع في قطاع غزة وسط ارتفاع معدلات الجوع ونقص حاد في المخزون الغذائي.
وقال مدير شؤون الوكالة في غزة توماس وايت، الأحد الماضي، وفق ما نقلته وكالة وفا الفلسطينية : “إن سكان قطاع غزة يعانون من حالة جوع كارثي، و40 ٪ منهم معرضون لخطر المجاعة”.
وأضاف وايت: “إن كل يوم في غزة هو صراع من أجل البقاء، بحثاً عن الغذاء والماء”، مشيراً إلى أن هناك حاجة إلى المزيد من الإمدادات الإنسانية المنتظمة، التي تتطلب وصولاً آمناً ومستداماً لسكان القطاع.
وأرفق وايت، مقطعاً مصوراً يظهر توافد مئات الفلسطينيين على قافلة المساعدات التابعة للأونروا في مدينة غزة في ظل الاحتياجات الفائقة للأهالي للمواد الغذائية والإسعافية.
وتحتاج غزة يومياً إلى ألف شاحنة من الإمدادات والمساعدات، مثل حليب الأطفال، والإمدادات الإغاثية والتموينية، والبضائع والسلع الأساسية للأسواق، والأجهزة الطبية، وآليات الإنقاذ والدفاع المدني، بحسب المكتب الإعلامي في غزة
وهكذا تحوّل دورُ المنظماتِ والجهاتِ الحقوقية إلى مجرّد جهاتٍ مصدرية لاستقاء الأرقام واقتباس التوصيفات، بعيداً عن أي دور حقيقي قد تُشكّل ضغوطاً تسهم في التخفيف أ والحد من الكارثة فضلاً عن المطلب الأساسي وقف العدوان!!
الخراب في المشهد جانب مقتطع من واحدة من أكبر جرائم اليهود بحق البشرية لا بحق فلسطين ولا بحق غزة وقد صارت مظلوميتها اليوم الأكبر بما لا يسعها وصف الواصفين، لكن تظل أقل من أن يراها الأمريكيون جريمة أو مذبحة طالما و”إسرائيل” كما يقولون “إنما تدافع عن نفسها”.
ما جدوى الأحضان والمشهدُ كلُه أحزان لا تنتهي فُرادى إلا وتجتمع عليهم الرزايا من جديد، ما جدوى أحضانِ الأمهات إن كنّ لا يجدنَ ملجأً يأوينَ إليه ولا يهتدين لأمان أطفالهن سبيلاً، ما نفع الأحضان وقد فُصلت غزة عن حضنها الإنساني وتُركت وحيدةً بين فكي وحش الصهونية!!.
أينما ذهب السُكان قُتلوا وأينما ولى الأهالي قصفوا، في البدء كان القتل حكراً على الطائراتِ من الجو وكلما ضاق الخناق على غزة تعددت أساليب الموت، من الجو والبحر ومن الدبابات والمدفعية.
( صورة دموية أخرى لمشهد صلاة على جثامين أو مقبرة جماعية)
يومياً يهربُ الناس من القتل بالغارات الجوية إلى الموتِ بالقذائف المدفعية، يشتدُ حصارُ النار على المحاصَرين من الغذاء والدواء، ويطلقُ الموتُ عنانه من أين شاء شرب.
جرائم خارج التغطية :
في سياق متصل قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن الجيش الإسرائيلي يطلق العنان لجنوده في قطاع غزة للإقدام على ممارسات غير أخلاقية بحق المدنيين الفلسطينيين خلال مداهمة منازلهم، تشمل سرقة الممتلكات وأعمال النهب.
ووثق المرصد سلسلة حالات تكشف عن تورط جنود إسرائيليين في سرقات ممنهجة لأموال ومتعلقات الفلسطينيين، بما يشمل الذهب ومبالغ مالية وهواتف نقالة وأجهزة كمبيوتر محمولة.
وتظهر شهادات جمعها الأورومتوسطي أن مداهمات الجيش الإسرائيلي تتجاوز الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والإعدام الميداني إلى تخريب متعمد للمتملكات وسرقة المقتنيات الشخصية، ومن ثم حرق المنازل بعد نهبها في إطار نهج يقوم فيما يبدو على الانتقام الجماعي من السكان الفلسطينيين.
وقال المرصد إن تقديراته الأولية بناء على ما وثقه من إفادات -ما يزال يواصل جمعها حتى تاريخ البيان- بأن سرقة متعلقات شخصية لمدنيين فلسطينيين وأعمال نهب واسعة لمقتنيات ثمينة قام بها الجيش الإسرائيلي قد تتجاوز حصيلتها عشرات الملايين من الدولارات.
كذبة المناطق الآمنة :
أيُ السبلِ في غزّةَ تلك التي لا تؤدّي إلى الموت؟ حيث كل الطرقاتِ نفسِها أضحت مسرحاً للقتل والجرائم الصهيونية ، والعابرون عليها من كل الاعمار والأجناس يُساقون قسراً إلى الموت وهم ينظرون، ولا ناظرَ إليهم ، تقول الشهادات التي وثّقتها وكالات الانباء أن الاحتلال اعتقل حتى الأطفال يتحدّث عدد من الغزّيين أن طفلاً بسنِّ الخامسة وآخر بعمر الثامنة اعتقلوا في نقطة عسكرية الأول لمدة يوم والآخر ليومين!!.
أو أكثر، وتبدو الروايات أشبه بحكايا الرعب وكوابيس الأحلام لكنها الحقيقة التي يكابدها يومياً أهالي غزة، والحقيقة التي لا يتورّع جيش العدو الصهيوني عن نشر الصور و المشاهد التي تحاكي جانباً من فصولها، ومنها مشاهد وصور المواطنين العزّل وقد نزع منهم ملابسهم وسار بهم في صفوف عراة إلى مناطق مجهولة ، ويحذّر المرصد الاورومتوسطي من عمليات إعدام يُنفّذُها جنود العدو بحق المئات من المختطفين، فيما تشير تقارير أخرى إلى سرقة أعضاء بعد ملاحظة عشرات الجثث المشوهة في الأسبوع الأخير.
وقال المرصد إنه تلقّى معلومات عن اعتقال جيش العدو الإسرائيلي مئات الفلسطينيين خلال الأيام الماضي، من حي الشيخ رضوان في مدينة في غزة، من ضمنهم عشرات النساء اللواتي تم اقتيادهم إلى ملعب اليرموك وجرى نزع الحجاب عن رؤوسهن، وتفتيشهن من الجنود، وتعرضت العديد منهم للتحرش الصريح والضرب والتنكيل.
كما جرى إجبار الذكور بمن فيهم أطفال قصر لا تتجاوز أعمارهم 10 سنوات على التعري الكامل، باستثناء اللباس الداخلي السفلي (البوكسر)، وضمنهم أيضًا مسنون تتجاوز أعمارهم 70 عامًا، وأجبروا على الاصطفاف بشكل مهين أمام النساء اللواتي احتجزن بمنطقة قريبة داخل ساحة الملعب.
آلاف المصابين بلا مشافٍ:
يظل كل ما سبق جزءاً من يسيراً من حكاية الموت في غزة، أما الناجون منه بجراحهم فهم في طريقهم اليه بعد أن دمّرَ المحتلُ اليهوديُ المشافي، فالأطباء أعجزُ والجراح أفتكُ، لا يقفُ النزف ، ولا يتوقف القصف.
السلطات المحلية في غزة تحدّث يومياً أرقام الضحايا من الشهداء والمصابين وتطلق نداءات استغاثة لكنها لا تتجاوز المعابر المغلقة في وجه الغزيين، الذين يواجهون مصيرهم لوحدهم، وإلا ماذا بعد أن يتكلم الأطباءُ مُحاطون بأكوام جثثِ الشهداء؟ كما حصل في مجزرة مشفى المعمداني ، هل ثمة منبرٌ أصدق!! إنها الكارثةٌ المتفاقمة والمتوالدة والتي يعيد مديرُ مكتب الصحةِ في غزةَ وضعها في رسم العالم يومياً، وهو يعلم أن موت الضمير المستتر صارَ ظاهرةً تكتسح العالم.
يوميات المجازر.. انتشال وداع وصلاة ودفن
بين مشاهدَ المجازر ولحظات الوداع تمضي يوميات غزة، حتى اعتاد العالم روتينَ رؤيتِها يومياً دون أن يُغيّر شيئاً.
في غزة مَن يُشيع اليوم قد يُقتلُ غدا، لا يدري أهالي القطاع أيهم التالي ، ومن منهم تقع عليه الغارة القادمة ، حيث نسبةُ الموت بأسبابه المتعددة ترتفع على حساب تضاؤل فرصِ الحياة.
أمام مشهد طوابيرِ الشهداء المزدحمة بالجثامين يتكرر مشهد الوداع يومياً، لحظاتٌ قصيرة لكنّها تمتدُ لتصبح يوماً بأكمله ويمتدُ اليومَ ليغدوَ شهراً ثم شهرين ثم ثمانين يوماً ونيف، روزنامة مجازر يهودية متكاملة الجرائم ومتنوعة الانتهاكات، أخشى ما يُخشى من أن تتحوّل الى صور معتادة وأرقام مقروءة!.
ينتشلُ الغزّيون الأشلاءَ والجثثَ من تحت أنقاض مدينتهم المدمّرة ثم يلفّونها بالأكفان ويُصلّى عليها صلاة الاحزان، ثم تدفن من جديد في مقابر جماعية تشبه حفر الغارات والقنابل الأمريكية، وعلى هذا الحال يُعيدُ القاتلُ الصهيوني إخراجَ المشهد يوميّاً ويعاود العالم حديثَه اليومي.
في هذا السياق أعلن المكتب الإعلامي في قطاع غزة أن العدو الإسرائيلي اعتقل خلال عدوانه المتواصل على القطاع أكثر من 2600 فلسطيني بينهم 101 من الطواقم الطبية و10 من الصحفيين.
وقال المكتب في بيان السبت إن عدد الوحدات السكنية التي دمرها العدو بلغ 65 ألف وحدة سكنية بشكل كلي و290 ألف وحدة تعرضت للهدم الجزئي، كما استهدف العدو خلال عدوانه الوحشي 126 مقراً حكومياً، و92 مدرسة وجامعة خرجت من الخدمة بشكل تام، و285 مدرسة وجامعة تضررت جزئياً.
على أمل استفاقة الضمير إن لم يكن قد مات:
يقول الغزّاويون إن قوانين الحماية تموت مع كل مجزرة بحقهم، وتغدو الحقوق والقوانين الدولية والقانون الدولي الإنساني مجرّد كذبة ٍ مُجردةٍ على مذبح المعايير المزدوجة وقد فضحت كما لم تُفضح من قبل وانكشفت كما لم تتبد من سابق.
هذه غزة وقد محاها اليهود من خارطة الإنسانية تشهدُ على واحدة من أكبر جرائم اليهود بحق البشرية وموبقاتهم بحق الإنسانية.
على غزةّ أن تحدِّث أرقام المجازر، وعلى اليهود أن يضاعفوها يومياً، وللعالم أن يستمع ويرى وأن يعتادَ عليها، أيُّ دمٍ بعد غزة يمكنُه أن يوقظ هذا السبات وأن يُحييَ هذا الموات، وتبقى الحقيقة المرّة أن في غزة: صمودُ أهل الأرض مقابل صمتِ كلِ من في الأرض إلا من رحم نفسَه بموقفٍ عملي يبرئ ذمته أمام الله والتاريخ ، لا بحديث شاجب أو إدانات باردة وإلا فالفتنة عميمة واللعنة عامة والعاقبةُ وخيمة والله المستعان!!.