يحتل المضيق المائي “باب المندب” المرتبة الثالثة عالمياً من حيث عبور موارد الطاقة، حيث تمر عبره معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي، التي تعبر قناة السويس أو خط أنابيب “سوميد”. ويقدر عدد السفن التي تمر عبره بأكثر من 21 ألفا سنويا، بما يعادل 57 سفينة يومياً.
وتمتاز خصوصية هذا المضيق المائي كونه يعد شرياناً أساسياً للتجارة العالمية نظراً لموقعه الاستراتيجي الهام الذي يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، ويصله بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، ويشكل حلقة مهمة في الطريق التجاري البحري الأقصر والأقل تكلفة، الذي يربط شرق آسيا بأوروبا .اثورة / مصطفى المنتصر
ولا تقتصر أهميته الاستراتيجية على الجانب التجاري فقط بل يتمتع مضيق باب المندب بأهمية استراتيجية واقتصادية وعسكرية، جعلته ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وهو ما اغرى القوى الخارجية الطامعة لتعزيز نفوذها فيه بإنشاء قواعد عسكرية بالجزر والدول المشاطئة، واستغلال التحكم بالمضيق وإغلاقه في وجه الخصوم عند الحاجة، فأصبح ورقة رابحة في الحروب والنزاعات ولكنه اليوم بات في قبضة يمنية خالصة استخدمت لقضية إنسانية وأخلاقية بحتة دفاعا عن المقدسات الإسلامية ودماء المدنيين الأبرياء في غزة.
موقع جغرافي استراتيجي
يقع مضيق “باب المندب” في أقصى جنوب البحر الأحمر، بين الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، ويحده من الجانب الآسيوي اليمن، ومن الجانب الأفريقي جيبوتي.
ولطالما كان هذا الممر المائي الطبيعي الذي يصل بين البحر الأحمر وخليج عدن بعيدا عن السيادة اليمنية نتيجة الهيمنة الخارجية والأجنبية في السيطرة على إدارته خلال الفترة الماضية ولم تحظ اليمن بالسيادة الكاملة عليه نظرا للتجاذبات الخارجية والمصالح الشخصية التي جعلت منه سلعة رخيصة في متناول أعداء الأمة إلا أنه عاد إلى أصله وأهله واستطاعت اليمن بقيادتها الوطنية المخلصة في فرض كلمتها وهيمنتها عليه وضرب الأهداف والسفن الإسرائيلية والأمريكية التي تشن عدوانها الظالم على أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم.
تاريخ النشأة والتسمية
وترجع نشأة مضيق باب المندب -بحسب المصادر الجيولوجية- إلى قبل 2.58 مليون سنة مضت، فيما سمي بالحركة التكتونية التباعدية التي حدثت في الحقبة الجيولوجية الثالثة والتي نجم عنها انفصال شبه الجزيرة العربية عن قارة أفريقيا، وتكون على إثرها البحر الأحمر، بما فيه باب المندب.
تعود تسمية مضيق باب المندب بهذا الاسم إلى ما قيل عنه الدموع التي سكبتها اليمنيات على البحارة الذين فقدوا أثناء عبورها المضيق أي اللفظ العربي “الندب” ويعني البكاء على الموتى، فالمراد به “باب الدموع”.
اليمن ومكانته العروبية والإسلامية العريقة استطاع بفضل الله تطويع كل تلك التحديات وصنع المعجزات من ابسط الإمكانيات وتغلب بحنكة قيادة وبسالة شعبه العظيم على فرض قراره والانتقال من الجبهات الدفاعية الى الفعل والهجوم وانتزاع حقه ومكانته التاريخية ويضعها في المكانة التي تستحقها ويعيد للأذهان التي حاولت نسيان تاريخ هذا البلد وعراقته المكانة التاريخية والأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها وحقه في استخدام تلك الإمكانيات في الزمان والمكان الذي يريد.
مساعٍ أمريكية حثيثة للهيمنة على المضيق
منذ عقود طويلة تكثف الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من وجودها العسكري على مضيق باب المندب وتضاعف وجودها خلال الأعوام الماضية من خلال التحالف مع بعض الدول تحت مسمى «قوة المهام المشتركة 153 الدولية» والتي أعلنت عنه في ابريل العام الماضي 2022 عبر تشكيل فريق أمني تابع للقوات البحرية الدولية المشتركة، ويضم دولا عربية وأجنبية، عقب عمليات عسكرية بحرية نفذتها القوات البحرية اليمنية ضد سفن تابعة لدول تحالف العدوان على اليمن.
ورغم أن هذا الإعلان لم يمر عليه وقت طويل إلا أنه لم يتمكن من تحقيق أي من أهدافه واستمرت القوات البحرية اليمنية من تنفيذ مهامها طيلة تلك الفترة واستمرت إلى حين إعلان اليمن مشاركتها في عملية طوفان الأقصى ورد السفن الإسرائيلية والمتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر ومضيق باب المندب .
الردع اليمني متواصل
عقب انطلاق معركة «طوفان الأقصى» في أكتوبر 2023 بين فصائل المقاومة الإسلامية والاحتلال الإسرائيلي، أعلنت القوات المسلحة اليمنية تنفيذ عدد من العمليات العسكرية وإطلاق العديد من الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه الكيان الصهيوني، وما تلاه من إعلان آخر في 16 نوفمبر الماضي أن «باب المندب» والمياه المحيطة به سيتم إغلاقها في وجه السفن الإسرائيلية وأي سفن حربية تحميها بشكل مباشر أو غير مباشر .
واستمر الحضور اليمني الكبير خلال تلك الفترة وتضاعفت عملياته بشكل كبير وتوجت بإعلان القوات المسلحة اليمنية باحتجاز السفينة الإسرائيلية «غالاكسي ليدر» المملوكة لإسرائيل وطاقمها، وتوالت الضربات اليمنية التي استهدفت السفن الإسرائيلية والتي شهدت وتيرة عالية ونجاحات كبيرة ألحقت بالعدو الصهيوني خسائر فادحة.
ومع استمرار العدوان الإسرائيلي، في ارتكاب المجازر الدموية وفرض حصار ظالم على الشعب الفلسطيني المقاوم أعلنت القوات المسلحة اليمنية ، في 9 ديسمبر من الشهر الحالي ، منع مرور جميع السفن من جميع الجنسيات، المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية، ونفذت العديد من الضربات الموجعة التي استهدفت عددا من السفن الإسرائيلية والأجنبية أثناء عبورها بالمنطقة بالصواريخ والطائرات المسيرة الأمر الذي دفع بالعديد من شركات الشحن الدولية لتوقيف عمليات مرور سفنها عبر «باب المندب» والبحر الأحمر، من ضمنها شركات تعد الأكبر بمجال الشحن الدولي كـ «ميرسك» الدنماركية، ومجموعة الشحن الفرنسية «سي إم إيه، سي جي إم» و«إم إس سي» الإيطالية السويسرية، وشركة النفط والغاز العملاقة «بريتش بتروليوم» ،وهو ما تسبب بارتفاع سعر الغاز الطبيعي الرئيسي في أوروبا بنسبة وصلت إلى 7.9 %، وسط مخاوف من انقطاع تدفق الطاقة، كما غيرت مجموعة من السفن مسار رحلاتها لتفادي المرور عن طريق البحر الأحمر عبر الالتفاف حول جنوب أفريقيا مرورا برأس الرجاء الصالح.
وتسببت العمليات العسكرية للقوات المسلحة اليمنية بضربة اقتصادية لإسرائيل، إذ أصيب ميناء إيلات على البحر الأحمر بالشلل، وزاد وقت الإبحار في المسار البديل إلى إسرائيل بين 17 و22 يوما على أقل تقدير، وهو ما يرفع من تكلفة الشحن وأسعار البضائع، ويؤدي إلى عرقلة الصفقات وعمليات التبادل التجاري بين كيان العدوان الصهيوني والدول المتعاونة معها .
وعلى إثر تلك الضربات اليمنية وفي مساعي أمريكية بريطانية لإنقاذ كيان العدوان من السقوط، أعلنت أمريكا في 18 من الشهر الجاري إطلاق ما اسمتها بعملية «حارس الازدهار» وهي تحالف عسكري غربي يتكون من قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات، تحت مظلة القوات البحرية الدولية المشتركة، و»قوة المهام 153 التابعة لها بالتحالف مع دول غربية رفضت بعض منها المشاركة فعليا في التحالف هربا من الأضرار التي ستلحق بها نتيجة هذه العملية العدوانية على اليمن.