النفوذ الميداني يعيد تشكيل التحالفات هل تُكَرِّرُ حربُ الجنرالات في السودان سيناريو الانقسام الليبي ؟
بعد أكثر من 8 أشهر على الحرب في السودان لم يعد أحد يفضل توصيف ما يدور بأنه حرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، فالمستجدات التي فرضتها يوميات الحرب ومآسيها، جعلت كثيرين يعدونها حربا بين مكونين عسكريين يتسابقان على السلطة، وسط مراجعات وتغيرات في المواقف وانشقاقات وحملات استقطاب وضعت مستقبل السودان قريبا من تكرار السيناريو الليبي.
الثورة / أبو بكر عبدالله
يكابد السودانيون واقعا مأساويا مع استمرار أهوال الحرب الأهلية التي تجبر كل يوم الآلاف إما على النزوح نحو المجهول أو الوقوع فريسة للقتل والنهب والاغتصاب وربما جرائم الإبادة التي تتخلل الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع المحتدم منذ منصف ابريل الماضي.
يأتي ذلك بينما تستمر الحرب وسط تعقيدات كبيرة تناقصت فيها فرص الحل السياسي وتفاقمت فيها المعاناة الإنسانية بعد مقتل أكثر من 10 آلاف سوداني وتشرد نحو 6 ملايين نسمة في الداخل والخارج، بينما لا يزال الجنرالان المتصارعان مستمرين في الحرب بل و”واثقين من النصر”.
وقد حملت تداعيات الشهرين الأخيرين للحرب تحولات مفاجئة لقوات الدعم السريع التي حققت تقدما ميدانيا افضى إلى فرض سيطرة على أجزاء واسعة من العاصمة الخرطوم بالتوازي مع نقل قيادة الجيش مقر القيادة من الخرطوم إلى مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر.
والحال كذلك في ولاية كردفان وفي إقليم دارفور الذي حققت فيه قوات الدعم السريع سيطرة شبه كاملة على اغلب مناطق الإقليم الذي شهد معارك ضارية تخللتها جرائم حرب أرغمت الجيش على الانسحاب والتمركز في مدينة الفاشر الاستراتيجية التي أعلنت قوات الدعم السريع عزمها التقدم نحوها بوصفها آخر معاقل الجيش في الإقليم.
لكن التغير في ميزان الحسم العسكري لم يؤثر كثيرا من مسار الحل السياسي الجاري برعاية أمريكية سعودية، حيث ظل كل من الفريق عبدالفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو يتبادلان رسائل القبول بمفاوضات السلام المتعثرة منذ 6 أشهر دون إبداء أي استعداد لتقديم تنازلات على طاولة المفاوضات.
هذا التداعي اثار مخاوف واسعة لدى الشارع السوداني من مخاطر طول أمد الحرب الذي من شأنه تضييق خيارات السلام وإفساح المجال لذهاب السودان نحو تكرار السيناريو الليبي الذي يتسم بالفوضى منذ سنوات في ظل تنازع السلطة بين حكومتين إحداهما تحظى باعتراف دولي والأخرى تحظى بدعم أطراف إقليمية ودولية.
زاد من ذلك حالة انعدام الثقة لدى الشارع بعد نقل الفريق البرهان مراكز قيادة الجيش من العاصمة الخرطوم، نحو مدينة بورتسودان، في خطوة ساهمت إلى حد كبير في تشكل كتلة سياسية وشعبية وازنة تبدو في طريقها لتأييد قوات الدعم السريع املا في أن تتمكن من حسم المعركة أو تشكيل حكومة موازية مقابل الحكومة التي يقوها الجيش بمعادلة قد تفرض شروطا جديدة للسلام.
تغير موازين القوى
مع اتجاه الفريق البرهان للتمركز في ولاية بورتسودان الساحلية واستمرار سيطرة الدعم السريع على العاصمة الخرطوم وحصارها مناطق عدة يتمركز فيها الجيش بمدينة أم درمان وسيطرته على أجزاء كبيرة من اقليم دارفور، يُرجح البعض أن يقود هذا الوضع أطراف الصراع إلى تحصين مواقعهم، لحرب طويلة الأمد قد تقود السودان إلى سيناريو التقسيم.
ذلك أن الحرب الدائرة اليوم تجاوزت قواعد الاشتباك الخاضعة للسيطرة، وهو ما فسر التحذيرات التي أطلقتها منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في البلاد كليمنتين سلامي، بقولها إن العنف في هذه الحرب “يقترب من الشر المطلق وأن الجشع للموارد والسلطة، والمنافسات والكراهية طويلة الأمد، كلها تغذي نيران الحرب.
والمؤكد أن دوامة الحرب في السودان لم تعد قاصرة على معادلة الكاسب والخاسر، بل تمضي في مسار معقد أشبه بماراثون بطيء لتسجيل النقاط مع تضاؤل فرص أي طرف لتحقيق نصر عسكري حاسم على الآخر، ما يعزز احتمالات استمرار الوتيرة الحالية للحرب لفترة طويلة.
ذلك أن استمرار الحرب يترافق كل يوم مع تصاعد موجات الاستقطاب والتشظي وتعمق الشروخ الاجتماعية التي وضعت كثيراً من السودانيين أمام خيار وحيد وهو الانضمام إلى طرف ما ضد الطرف الآخر.
والتأييد السياسي والشعبي الواسع الذي حظي به الجيش السوداني في بداية الحرب ساعده على التماسك والتصدي لقوات الدعم السريع ووقف مخططاتها في السيطرة وإسقاط حكم مجلس السيادة الانتقالي، في حين ساعدته إمكانياته التسليحية من الحفاظ على قواعده الرئيسية في العاصمة وفي الأجزاء الوسطى والشرقية من البلاد.
لكن هذا التأييد والإمكانيات العسكرية تناقصت مع مرور الوقت بعد سقوط مواقعه الواحد تلو الآخر، وخسارة قيادة الجيش الكثير من الحلفاء من القوى السياسية والقبائل والحركات المسلحة ولا سيما بعد الظهور القوى لفلول النظام السابق بما أثاره من قلق لدى الشارع السوداني من عودتهم إلى الحكم، وهو تحول منح قوات الدعم السريع فرصا لتوسيع الحاضنة الشعبية والاتكاء على ظهير سياسي يتمثل ببعض القوى السياسية المعارضة للجيش وطموحاته السلطوية.
يزيد من ذلك التقديرات الشعبية التي ترى أن الجيش السوداني لم يعد بإمكانه الصمود في مواقعه في العاصمة، بعد ان ساعد الدعم الإقليمي قوات الدعم السريع على محاصرة بعض مواقع الجيش القوية بالعاصمة وإسقاط العديد من قواعده في مناطق أخرى، وفي ظل توازن القوة الذي فرضته حرب الطائرات المسيرة.
السيناريو المظلم
يثير الطابع الوحشي للحرب الدائرة في السودان، مخاوف من أن تؤدي إلى تقويض قدرة الدولة على البقاء وانهيار مفاجئ للجيش، وهي مخاوف تبدو واقعية تماما، فالكثير من تجارب الأزمات الدولية تؤكد أن الدول التي تنهار جيوشها تدفع ثمنا باهظا بانزلاقها نحو الفوضى والتشرذم، ناهيك عن تحول بلدانها إلى ساحة صراع دائمة ومسرح مفتوح للتدخلات الخارجية.
وهناك من يؤكد أن الدعم الخارجي لا يزال يلعب دورا مؤثرا في تعميق الصراع بصورة كبيرة، في ظل استمرار تدفق شحنات السلاح لطرفي الصراع وفشل الجهود الدولية في جمع الأطراف على مفاوضات غير مشروطة لوقف إطلاق النار.
يأتي ذلك في ظل تقديرات ترى أن الجيش يخضع حاليا لتهديد حقيقي من جراء التصدع الحاصل في التحالف العسكري والقبلي والسياسي الذي قادة الفريق البرهان منذ بدء الحرب، وهو تصدع يمكن أن يضعف تماسك الجيش في مقابل التماسك الكبير لقوات الدعم السريع وتصاعد شعبيتها.
هذه التصدعات ظهرت إلى السطح بعد القرارات الأخيرة للفريق البرهان بداية من إعفاء عضوي مجلس السيادة الهادي إدريس والطاهر حجر، اللذين يقفان على الحياد منذ بدء الصراع وصولا إلى قراراته الأخيرة بإقالة أربعة وزراء وكذا إقالة 6 من حكام الولايات وتعيين آخرين.
والتصدع الذي أحدثته هذه القرارات بدأ من داخل مجلس السيادة، حيث أعلن زعيم تجمع قوى تحرير السودان الطاهر حجر أن قرار إعفائه من عضوية مجلس السيادة فاقد للشرعية، محذراً من التداعيات السياسية والأمنية لانهيار اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر 2020م بين الحكومة الانتقالية ومجموعة من الحركات المسلحة والتنظيمات المعارضة فضلا عن تأكيده أنه سيمارس واجباته مع بقية أعضاء مجلس السيادة الشرعيين.
وبعيد قرارات البرهان الأخيرة فقد وجهت بعض القوى السياسية اتهامات للفريق البرهان بالخضوع لضغوط أنصار النظام السابق من الإسلاميين لتشكيل حكومة حرب مقرها مدينة بورتسودان، وهو الموقف الذي التقطه قائد قوات الدعم السريع ملوحا هو الآخر بتشكيل حكومة موازية عاصمتها الخرطوم.
والتلويح الذي أعلنه “حميدتي” لم يكن مجرد إرسال تهديد، فهو بدأ فعلا بممارسة صلاحيات حكومية كبيرة في المناطق التي سيطرت عليها قواته في إقليم دارفور، بتعيين بعض قادتها من العسكريين حكاما للولايات إلى جانب تشجيع قوات الدعم السريع المكونات القبلية على تشكيل لجان حكم شعبية من المدنيين لإدارة مناطقهم معززين بقوات شرطة في هذه المناطق لفرض نظام الحكم الجديد.
تحذيرات وتحركات
المخاوف من مخاطر تشرذم السودان بين حكومتين، كان موضوعا حيويا في البيانات الأخيرة للقوى السياسية التي حذرت من هذه الخطوة وكذلك من قبل بعض الزعماء بدول جوار السودان ولا سيما رئيس جنوب السودان سلفا كير ميادريت الذي دعا السودانيين مؤخرا إلى عدم السماح بتقسيم بلادهم بسبب الحرب.
وهذا الموقف هو ذاته الذي عبَّرت عنه قوى الحرية والتغيير بإعلانها التصدي لكل مخططات تقسيم البلاد بما في ذلك تحويل الحرب الحالية إلى حرب أهلية وتمسكها بوحدة السودان مع تشديدها على موقفها المناهض للحرب والتمسك بضرورة إيقافها وتحقيق السلام وتأسيس انتقال مدني ديمقراطي مستدام.
وفي مقابل التحذيرات السياسية بدا أن هناك خطوت عملية تسير نحو هذا المنحى مع شروع بضع الحركات المسلحة ولا سيما التي أيدت الجيش في حربه على قوات الدعم السريع، بمراجعة تحالفاتها بعد أن أدركت صعوبة حسم الجيش المعركة لصالحه.
هذا التوجه عبّر عنه بوضوح زعيم الجبهة الثورية المقال من مجلس السيادة الهادي إدريس الذي أعلن في بيان “أن الجبهة ستسلك طريقا معاكسا لما ذهب إليه الجيش وفلول الرئيس السابق عمر البشير” ما اعتبره البعض إعلاناً نهائياً بالانحياز نحو القوى السياسية المدنية القريبة من قوات الدعم السريع.
يضاف هذا إلى مواقف أخرى مستجدة عبَّرت عنها بعض الحركات المسلحة في إقليم دارفور ومنها حركة تحرير السودان التي أعلنت على لسان زعيمها مني أركو مناوي التواصل مع “الإخوة في قوات الدعم السريع”.
هذا الحال بكل تأكيد مرشح للتوسع مع حركات أخرى مثل حركة تحرير السودان جناح مناوي وحركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم اللتين تبرأتا من موالاتهما للجيش.
والسبب في ذلك إدراكها المسبق أنها قد تواجه مأزقا كبيرا في حال تمكنت قوات الدعم السريع من فرض سيطرة كاملة على إقليم دارفور في ظل النجاحات التي تحققها قوات الدعم السريع في السيطرة على المدن الرئيسية للإقليم واستعدادها التوجه نحو آخر المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، وأكثر من ذلك احتمالات التوصل إلى تسوية سياسية والتي قد تجعل من قوات الدعم السريع رقما مهما في المعادلة السياسية السودانية مستقبلا.
هواجس مشتركة
المواقف المؤيدة والمناهضة لطرفي الصراع في السودان، لم تكن محصورة عند القوى القبلية والحركات المسلحة المؤثرة في المشهد العسكري والسياسي السوداني، بل طاولت أيضا بعض القوى المدنية التي لا يخفي بعض قياداتها توافقا مع قوات الدعم السريع، وهو ما ظهر في تصريحات القيادي البارز في تحالف الحرية والتغيير ياسر عرمان، الذي أعرب عن أمله في أن تنجح قوات الدعم السريع في توظيف ما حققته لأهداف استراتيجية بعيدة المدى، في إشارة إلى تحييد فلول النظام السابق.
وما يدفع القوى المدنية لذلك هو الهاجس الذي يسيطر عليها بوجود نيات لدى ما يسمونه “فلول النظام السابق” لخلط الأوراق واضفاء المزيد من التعقيدات على المشهد العسكري تمهد لهم الطريق للعودة إلى الحكم.
وهؤلاء يرون أن الجيش الذي يخوض حربا شرسة مع قوات الدعم السريع لإخماد ما يسميه التمرد المسلح، لم يكن هدفا سياسيا لها، وليس متوافقا مع تطلعات القوى المدنية التي تحمل هواجس ومخاوف من تطلعات ومشاريع فلول النظام السابق والعسكريين في سودان ما بعد الثورة، ما يجعل تأييدهم لقوات الدعم السريع أمرا مطلوبا في الوقت الراهن لمواجهة هذه المشاريع.
والمؤكد أن قطاعا شعبيا واسعا ينخرط في إطار هذا الموقف، بسبب حالة الإحباط الناتجة عن عدم قدرة الجيش على الحسم العسكري، وقد ظهرت ملامح ذلك في إعلان بعض القوى الثورية عدم يقينها بقدرة الجيش على حسم حرب يريد الشارع حسمها اليوم قبل الغد.