الانتقال من ديكتاتورية مدنية إلى أخرى عسكرية احتمال قائم

هل يقلل الانقلاب العسكري في الغابون من حجم النفوذ الغربي في أفريقيا؟

 

مع الانقلاب العسكري في الغابون الذي أطاح بحكم الرئيس عليّ بونغو بعد دقائق من إعلان فوزه في انتخابات افتقدت إلى النزاهة، ازداد الغموض حول مستقبل دول غرب ووسط أفريقيا التي تواجه اضطرابات سياسية تجلت في 8 انقلابات شهدتها دول في غرب ووسط أفريقيا الخاضعة غالبا للنفوذ الفرنسي في دوامة تحولات غير بعيدة عن ثلاثي الديكتاتورية والفساد والنفوذ الخارجي.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله

كغيرها من دول القارة الأفريقية اقتنصت النخب السياسية والعسكرية في الغابون فرصة التحولات الدولية نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب تقلص معه النفوذ الغربي في دول القارة السمراء، لتنفيذ انقلاب عسكري ناعم أطاح حكم الرئيس عليّ عمر بونغو بعد 30 دقيقة من أعلان السلطات فوزه في انتخابات شابها الكثير من التزوير وغياب النزاهة، وهو الإعلان الذي تحول إلى شرارة غضب وضعت نهاية سريعة لفترة حكم عائلة بونغو الممتدة لنحو 56 عاما.
منذ أول نظام حكم تشكل في الغابون إبان حصولها على الاستقلال عن فرنسا عام 1960م، حكمت البلاد ثلاثة أنظمة ديكتاتورية كانت فيها الكلمة الفصل للديكتاتور المدافع عن المصالح الفرنسية.
تجلى ذلك في فترة حكم الرئيس ليون إمبا، الذي حكم الغابون بعد نيلها الاستقلال عن فرنسا حكما ديكتاتوريا حتى وفاته في العام 1967م ثم في فترة حكم خلفه الرئيس عمر بونغو الذي حكمها حكما ديكتاتوريا استمر 42 عاما وانتهى بتوريثه الحكم لنجله عليّ بونغو الذي بدأ في العامين الأخيرين استعدادات لتوريث الحكم لنجله الأكبر.
طوال هذه السنين لم تعرف جمهورية الغابون من النظام الجمهوري والديموقراطية سوى الاسم، ورغم اعتمادها مبدأ التعددية السياسية منذ سنوات عدة إلا أن نظام الحكم استطاع تكبيل القوى السياسية بقيود كثيرة، بينما كانت مواردها الغنية عرضة للنهب والفساد والتوزيع الجائر والتبديد في ظل فجوة اقتصادية هائلة بتوزيع الثروة جعلت من الفقر معضلة المعضلات في هذا البلد الغني بالموارد.

أسباب الانقلاب
القراءة العميقة لأسباب الانقلاب في الغابون تظهر أن الأزمة في هذه الدولة كانت داخلية وعلى صلة مباشرة بطول فترة حكم عائلة بونغو، وأدواتها القمعية التي طالما اعتمدت على تزوير الانتخابات والاستحواذ على السلطة والثروة اعتمادا على مراكز النفوذ والدعم الخارجي.
ورغم الوعود المتكررة التي أطلقها الرئيس المعزول في السنوات الأخيرة بالإصلاحات السياسية إلا أنها كانت في الغالب دعائية، لامتصاص طموحات المعارضة الشارع الغابوني الذي خاض ثلاث عمليات انتخابية بمنافسين أقوياء كادوا أن يطيحوا حكم بونغو الابن ديموقراطيا لولا التزوير الذي جعل من الانتخابات أجراء شكليا وعملية روتينية لإعادة تنصيب الرئيس.
في كل مرة كان يُعلن فيها فوز بونغو في الانتخابات، كانت النتائج المعلنة تقود إلى اضطرابات واحتجاجات وأعمال عنف تسود العاصمة ليبرفيل ومناطق أخرى غير أن نظام الحكم كان يمتلك أدوات إخمادها اعتمادا على انحياز أكثر قادة الجيش لنفوذ العائلة الحاكمة.
لكن تمادي نظام بونغو (الابن) بإدارة العملية الانتخابية من داخل القصر الرئاسي، بما في ذلك انتخابات لولاية الثالثة التي نظمت نهاية أغسطس الماضي وأعلنت نتائجها حتى قبل استكمال فرز صناديق الاقتراع، حولها إلى شرارة أشعلت غضب العسكريين الذين قرروا فورا تعليق العمل بالدستور وحل المؤسسات وإلغاء نتائج الانتخابات ووضع الرئيس ومقربيه قيد الإقامة الجبرية واعتقال أحد أبنائه وعدد من مسؤولي نظامه بتهمة الخيانة العظمى.
هذه التداعيات كانت حاضرة بقوة في المبررات التي ساقها قائد الحرس الجمهوري الجنرال بريس أوليغي نغيما المنصب رئيسا للمرحلة الانتقالية، والذي أكد أن الانقلاب كان المخرج الوحيد للأزمة التي تعانيها الغابون منذ عقود بتزوير نتائج الانتخابات والفساد الواسع في نظام نخره الفساد واتسم “بحكم غير مسؤول ولا يمكن التكهن به”.
لم يكن قادة الجيش وحدهم من يروا ذلك فأغلب النخب السياسي كانت تؤكد أن الانتخابات “لم تستوف شروط الاقتراع الشفاف” الذي كان المواطن الغابوني يعوّل عليه لإنهاء نظام حكم عائلة بونغو من زاد من حجم المعارضة لحكم العائلة الحاكمة.
هذا المشهد برز بجلاء عندما ظهر الرئيس المخلوع عليّ بونغو في فيديو دعا فيه مواطنيه إلى الاحتجاج ولإسقاط الانقلاب دون أن يحصل على أي تأييد شعبي بما في ذلك دائرته القريبة التي تخلت عنه، في مقابل تأييد واسع حصل عليه الإنقلابيون، من المواطنين وكذلك من الأحزاب السياسية المعارضة التي اكتفت بدعوة بونغو الابن إلى نقل السلطة دون إراقة دماء.
ولعل مظاهرات التأييد التي شهدتها شوارع العاصمة ليبرفيل وشارك فيها الآلاف تأييدا للانقلاب العسكري حملت رسالة ذات مغزى، فالشارع الغابوني استحضر بعد الانقلاب العسكري الأخير تركة ثقيلة من القمع لحكم عائلة بونغو والتي تفاقمت بصورة كبيرة في العام 2016م غداة فوز بونغو الابن بالانتخابات بفارق ضئيل بينه ومرشح المعارضة، وخلفت اضطرابات سياسية وامنية واعمال عنف بعد اتهام السلطات بتزوير الانتخابات.
المشهد لم يختلف في المستوى الاقتصادي، ففي بلد غني بالموارد ويعاني من الفساد، كان طبيعيا أن يقود النظام الديكتاتوري الذي كرسته عائلة بونغو إلى تداعيات اقتصادية وخيمة تجلت بمظاهر الفساد ونهب الثروة التي أنتجت فجوة كبيرة بين السكان حيث ظل أكثر من 30 % من الغابونيين يعيشون في حالة فقر رغم مستوى الدخل المرتفع الذي يناهز الـ 18 الف دولار.

بين الغابون والنيجر
عندما تحدث الرئيس الفرنسي ماكرون عن الاختلاف الكبير بين انقلابي النيجر والغابون، كان محقا، فالانقلاب على الرئيس النيجري محمد بازوم نفذ على رئيس شرعي منتخب، في حين أن الانتخابات التي شهدها الغابون كانت مزورة وفاقدة للمصداقية حيث فاز الرئيس المخلوع علي بونغو بنسبة 64.2% في نتيجة أعلنت قبل انتهاء عمليات فرز الصناديق، ما مثل استفزازا وتحديا صريحا للنخب السياسية التي أيدت الانقلاب كونه الحل الأخير لمعضلة الحكم العائلي الوراثي.
زاد من ذلك أقدام بونغو الابن في إبريل الماضي على تعديل دستوري صوت البرلمان الغابوني لصالحه وقضى بتقليص فترة ولاية الرئيس من سبع إلى خمس سنوات، في خطوة أفصحت عن ترتيبات لإبقاء الرئيس بونغو فترة وجيزة في الحكم تتيح له تهيئة المناخ لنجله لوراثة الحكم.
الدليل على ذلك أن من قاد الانقلاب كان قائد قوات الحرس الجمهوري الجنرال برايس أوليغي نغيما والذي كان منذ العام 2009 وهو العام الذي تولى فيه عليّ بونغو الحكم بعد وفاة أبيه، من بين اهم مساعدي الرئيس المخلوع كما كان من المحظوظين بالثروة خلال عمله في نظام الرئيس المخلوع، حيث كون ثروة كبيرة وحاز ممتلكات كبيرة في أمريكا بلغت قيمتها نحو مليون دولار.
وما يفسر غياب معارضة باريس للانقلاب أن النخب السياسية والعسكرية لم يكن لديها أي مشاعر عدائية ضد فرنسا كون أكثر قادتها درسوا في الجامعات الفرنسية، خلافا للحال في النيجر، وهو ما كان واضحا، في موقف باريس التي لم تعارض الانقلاب بل إنها رأته أفضل الحلول للخروج بالغابون من أزماتها العميقة.
وصحيح أن الغابون عاشت عقودا طويلة تحت عباءة النفوذ الفرنسي حيث يعتقد أن جذوره تأسست في ظل حكم عائلة بونغو، لكن الأمور تغيرت في السنوات الأخيرة حيث خرجت الغابون قبل بضع سنوات عن عباءة النفوذ الفرنسي عندما قرر الرئيس بونغو الابن، الانسلاخ عن باريس والانضمام إلى منظمة دول الكومنولث الناطقة بالإنجليزية والخاضعة للنفوذ البريطاني، مخلفا وراءه عقودا من التبعية لفرنسا كرسها والده خلال فترة حكمة الممتدة لأربعة عقود، تكبلت فيها الغابون بالكثير من الاتفاقيات الاستعمارية التي استحوذت فيها أنظمة الحكم ومعها الشركات الفرنسية على النصيب الأكبر من ثروات البلاد.
ومن غير المستبعد أن تكون لهذه الخطوة وما تلتها من توجهات للرئيس المخلوع بالانفتاح على الصين وما أسس له من علاقات اقتصادية متطورة مع بكين جعلت الصين الشريك الاقتصادي الأول للغابون قبل فرنسا والغرب، دور في الموقف الفرنسي من الانقلاب الذي أطاح بحكمه بعد إعلان فوزه بالانتخابات لولاية ثالثة.
الحال كذلك مع الولايات المتحدة التي اكتفت بإدانة الانقلاب وأكدت دعها لمطالب شعوب المنطقة بالديموقراطية وحكم القانون والنظام الدستوري.

تمييز اقتصادي
بخلاف أوضاع دول غرب إفريقيا الغارقة بالفقر فقد كان للغابون وضع اقتصادي مختلفا، فهي واحدة من أكثر الدول ازدهارا في وسط أفريقيا أو ما يسمى ” جنوب الصحراء” فعلى مساحتها البالغة نحو 270 ألف كيلومتر مربع احتفظت الغابون بنحو ملياري برميل من احتياطيات النفط المؤكدة والتي جعلتها تحتل المرتبة 35 على مستوى العالم باحتياطيات الخام، بإنتاج يومي يبلغ 193 الف برميل، وبإجمالي يمثل أكثر من 260 صعف حجم استهلاكها السنوي ناهيك عما تختزنه بيئتها من غابات كثيفة لإنتاج الأخشاب ومناجم إنتاج المنجنيز، والذي يصل إلى 5 ملايين طن سنويا تمتلك فرنسيا فيها الحصة الأكبر.
وظلت الغابون من الدول الإفريقية التي تتميز بمستوى مرتفع من دخل الفرد حوالي 18 الف دولار) غير أن البلد ظل يعاني من فجورة رهيبة بين الفقراء والأغنياء الذين يستحوذون على قدر كبير من الثروة، كما أن الرئيس الغابوني استمر على سيرة والده باستخدام موارد الغابون للتأثير على السياسة الفرنسية الداخلية ولا سيما في تمويل الحملات الانتخابية للرؤساء الفرنسيين السابقين، وهو التأثير الذي منح عائلة بونغو نفوذا داخل أروقة السياسة الفرنسية لعقود.
ومع ذلك ظلت الغابون تعاني من فجوة هائلة في توزيع الثورة، حيث لا يزال نحو 30% من سكانها يعيشون حتى اليوم في حال فقر مدقع، في حين أن التجول البسيط في العاصمة ليبرفيل يكشف عن وضع اقتصادي واجتماعي بائس للغاية لا يتماشى مع ما تحققه الدولة من مداخيل مالية هائلة تفوق احتياجاتها التنموية بعدة أضعاف.
وتزايدت مظاهر السخط الشعبي على حكم بونغو الأبن بعد محاكمة القضاء الفرنسي لتسعة من أبنائه بتهم الفساد وإدارتهم أصولا وأموالا تقدر بحوالي 85 مليون يور في فرنسا.

ارتباك أوروبي
لا يمكن فصل ما جرى في الغابون عن التحولات الدولية التي أضعفت إلى حد كبير النفوذ الغربي وخصوصا الفرنسي في القارة الأفريقية، وهو الأمر الذي شجع قيادة الجيش على التدخل بإعلان الانقلاب ووضع الرئيس عليّ بونغو قيد الإقامة الجبرية، وإلغاء الانتخابات الرئاسية والقبض على العديد من رموز الحكم السابق وحل جميع مؤسسات الدولة وإغلاق الحدود وتنصيب قائد الانقلاب العسكري بريس أوليغي نغويما رئيسا لمرحلة انتقالية تطوي صفحة حكم عائلة بونغو.
لكن المؤكد أن الانقلاب العسكري في الغابون أربك الحسابات الغربية، وسبَّب صدمة لباريس التي اضطرت لإعلان عدم التدخل في شؤون الغابون الداخلية، في موقف كشف حقيقة النفاق الفرنسي حيال القضايا المصيرية في دول القارة الأفريقية، قياسا إلى موقفها تجاه الانقلاب في النيجر وقبلها في مالي وغينيا كونكري.
وفي حين كانت باريس تحشد مجموعة “إيكواس” لتدخل عسكري يعيد حليفها الرئيس النيجري محمد بازوم للحكم، جاء انقلاب الغابون ليقلب المعادلة على فرنسا التي بدت محرجة تماما تجاه تعاطيها السلبي مع مستعمرتها السابقة الغابون.
والارتباك بدا واضحا في تصريحات منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عندما أكد تحت ضغط الأسئلة الصحفية أن المفوضية الأوروبية ستعلن موقفا تجاه انقلاب الغابون كما فعلت مع انقلاب النيجر.

مشهد ضبابي
رغم نجاح الانقلاب في وضع نهاية لحكم عائلة بونغو، إلا أن المجموعة العسكرية الانقلابية لم تحدد حتى اليوم فترة للمرحلة الانتقالية التي يخططون لها للانتقال إلى الحكم الديموقراطي المدني.
وذلك ربما يعود إلى غياب الضغوط الخارجية التي وقفت عاجزة عن سوق ذرائع لمناهضة الانقلاب أو التدخل العسكري، حيث اكتفت أكثر العواصم الغربية بالتنديد بالانقلاب والمطالبة بضمان سلامة الرئيس المخلوع وأعضاء حكومته وإعادة الحكم المدني.
ورغم إعلان المجموعة العسكرية الانقلابية نيتها وضع دستور جديد يلبي تطلعات الشعب الغابوني وإصدار قانون انتخابي جديد، إلا أنها أثارت الشكوك والمخاوف حول مشروعها المستقبلي بعد أن تجاهلت مطالب المعارضة بإعادة فرز صناديق الاقتراع للانتخابات التي جرت في نهاية أغسطس الماضي، والتي كانت تؤشر إلى احتمال فوز مرشح المعارضة.
وقد وعد الجنرال بريس أوليغي نغيما، قائد الانقلابين الذي تم مؤخرا تنصيبه رئيسيا لمرحلة الانتقالية مفتوحة، بتنفيذ إصلاحات دستورية تجعل مؤسسات الدولة “أكثر ديمقراطية” و”أكثر احتراما لحقوق الإنسان”، لكنه وضع هذه الأهداف بأفق زمني مفتوح، ما يعني إعطاء وقت طويل للحكم العسكري في بلد يعاني من اضطرابات قد تضعف التحول الذي تعيشه الغابون اليوم وتحول الزخم الشعبي الذي أيد إنهاء حكم عائلة بونغو إلى عملية نقل للحكم من ديكتاتورية مدنية إلى أخرى عسكرية.

قد يعجبك ايضا