رغم إعلان المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا “ايكواس” التحضير لعملية عسكرية سريعة تنهي الانقلاب العسكري في النيجر وتعيد النظام الدستوري ممثلا بالرئيس المنتخب محمد بازوم، إلا أن تفاعلات الأيام الماضية أفصحت عن عودة افريقية جماعية إلى خيار الحل الدبلوماسي للأزمة مدفوعة بمخاوف التداعيات الخطيرة للتدخل العسكري التي قد تهدد استقرار دول القارة السمراء بصورة عامة.
الثورة / أبو بكر عبدالله
قرار قادة جيوش دول غرب افريقيا المنعقد مؤخرا بالعاصمة الغانية اكرا بالتحضير لتدخل عسكري قصير الأجل في النيجر تحت مظلة “إيكواس” على أنه كان حاسما، إلا أنه أطلق صفارة انذار من الاتحاد الافريقي الذي شرع بتحركات دبلوماسية للحل السياسي كاشفا عن انخراط افريقي جماعي في معادلة توزيع الأدوار وتقاسم المسؤولية في مواجهة ضغوط الحل العسكري. وفي حين وضع اجتماع القادة خيار التدخل العسكري وحيدا على الطاولة، اتخذت قرارات مجلس الأمن والسلم الافريقي مسارا مغايرا بقراره قطع أي نشاطات للمجلس في النيجر، ودراسة وتقييم التداعيات المحتملة للتدخل العسكري قبل الموافقة النهائية عليه. هذا التوجه كان متماهيا مع توجهات أخرى قادها الاتحاد الافريقي غلب عليها الطابع السياسي بعد اعلانه تعليق مشاركة النيجر في نشاطاته بصورة فورية وفرض سياج من العزلة على السلطة العسكرية الانقلابية في نيامي، بعد أن كان قد أخفق للمرة الرابعة في حشد توافق من الدول الأعضاء على قرار بتجميد عضوية النيجر في الاتحاد. تطورات نقلت أزمة الانقلاب في النيجر إلى مسار آخر أفصح عن مرحلة جديدة تناقص فيها الحديث عن التدخل العسكري لإعادة الرئيس بازوم للحكم، لمصلحة خيارات أخرى لن تتجاوز الحصول على تعهدات من المجلس العسكري بمرحلة انتقالية تعيد النيجر إلى الحكم الدستوري، كما حدث مع 7 انقلابات عسكرية شهدتها القارة الافريقية خلال الثلاثة الأعوام الماضية لتلافي تداعيات كارثية تخشاها دول غرب افريقيا ودول القارة بصورة عامة. بالمقابل كان واضحا أن المجلس العسكري الحاكم في نيامي، قد استجاب بصورة غير معلنة لجهود الوساطة النيجرية وكذلك الجهود التي قادتها “إيكواس” بإعلان رئيس المجلس الانتقالي العسكري عبدالرحمن تشياني برنامجا سياسيا لطي صفحة نظام الرئيس المعزول محمد بازوم بدعوة القوى السياسية للمشاركة في حوار لتحديد شكل النظام الدستوري للبلاد في غضون مرحلة انتقالية مدتها 3 سنوات. والقراءة العميقة لهذا التغير في الموقف الافريقي الجماعي كشفت عن حجم الضغوط الدولية التي مورست على دول “إيكواس” خلال الفترة الماضية، كما كشفت عن حجم مخاوف الدول الافريقية من مخاطر الانزلاق في اتون حرب لن تجلب لها سوى المزيد من الأزمات. ذلك أن التدخل العسكري في النيجر لن يكون مشابها لذلك الذي جربته “إيكواس” في ليبيريا وسيراليون وساحل العاج، فهذه الدول كانت صغيرة ولا تمتلك قدرات عسكرية كما في النيجر التي يزيد قوام جيشها عن 25 ألف جندي مضافا اليه جيوش المتطوعين من داخل النيجر وخارجها. وهذه القوة يصعب الاستهانة بها، فالجميع سيتوجهون للحرب محمولين بطموحات التخلص من النفوذ الفرنسي، وشعور جماعي بأن “إيكواس” التي تأسست في العام 1975م للاهتمام بالقضايا الاقتصادية والتنموية وتحقيق التكامل الاقتصادي لبلدان غرب افريقيا، ظلت أسيرة للنفوذ الفرنسي ولم تبد أي اهتمام لمعالجة مشكلاتهم الاقتصادية ولم تتدخل في معالجة مشكلاتهم السياسية كتزوير الانتخابات واضعاف حكم القانون ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الانسان. تعقيدات إضافية كل العواصم الافريقية تتحدث اليوم بصوت واحد عن العواقب الوخيمة للتداخل العسكري الذي قد يشعل منطقة الساحل الافريقي برمتها في دوامة حروب طويلة يصعب توقع نتائجها، مع تضاءل فرص أن ينجح بإعادة نظام الرئيس محمد بازوم بالحكم. والتقدير المتفق عليه أن التدخل العسكري سيزيد من تعقيد الأزمة وسيدخل دول الغرب الافريقي في دوامة حرب طويلة، خصوصا مع حالة الاستعداد العسكري التي بلغت ذروتها بالنيجر بالتزامن مع شروع المجالس العسكرية المشابهة في مالي وبوكينافاسو بدعم المجلس العسكري الانقلابي بالمقاتلين والمواد الغذائية والسلاح لمواجهة التدخل العسكري. والسيناريوهات التي تحدثت عن حرب خاطفة أو قصيرة للتدخل العسكري في بلد كبير مثل النيجر، ليست أكثر من أمنيات بعيدة التحقق، فتجارب الازمات الدولية المشابهة تؤكد أن أضعف الدول عسكريا يمكنها مقاومة أكبر التدخلات العسكرية الخارجية لسنوات، ما يجعل النيجر بإمكانياتها العسكرية قادرة على خوض حرب طويلة ربما تمتد لسنوات. وبصورة أبعد فإن المرجح أن يمنح التدخل العسكري سلطة الانقلاب فرصة ذهبية لاستثمار حالة العداء الشعبي للنفوذ الفرنسي، بما سيتيح له توجيه كل موارد الدولة المحدودة لخوض حرب طويلة ستمس آثارها الاقتصادية والإنسانية كل دول القارة، كما ستقود إلى حالة فوضى طويلة في الدول المجاورة التي تحكمها مجالس عسكرية، كون إنهاء الانقلاب في النيجر سيعني خضوع الأنظمة العسكرية في هذه الدول لإجراءات مشابهة. والنتيجة الأكثر قتامة أن التدخل العسكري سيمنح المجلس العسكري فرصا للبقاء في الحكم لفترة أطول وسيؤخر فرص العودة إلى الأوضاع الطبيعية في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية مضطربة ستقود بلا شك إلى فوضى عارمة ليس في النيجر وحسب بل في الدول المجاورة التي تعاني أزمات سياسية وامنية عميقة. المخاوف الافريقية يمكن رصد اجماع افريقي على أن التدخل العسكري لمواجهة أزمة الانقلاب في النيجر لن يعيد نظام الرئيس المنتخب محمد بازوم، بل سيعقد الأزمة وسيدخل دول الغرب الافريقي كلها في دوامة من الحروب والاضطرابات، سيما في ظل حالة التأييد الداخلي للانقلاب التي تجلت بتدافع الآلاف للتطوع في الجيش لمواجهة التدخل العسكري وشروع مالي وبوكينافاسو بإجراءات عملية لدعم سلطة المجلس العسكري. والتداخل السكاني وتداخل المصالح الاقتصادية بين دول الغرب الأفريقي، سيجعل مشاركة دولها في حرب على دولة تشترك معها في تركيبتها السكانية القبلية والأثنية امرا محفوفا بالمخاطر وسيشعل فتيل الصراع العرقي والاثني الى هذه الدول طاول الوقت ام قصر. هذه القراءة كانت حاضرة بقوة في الموقف الذي أعلنته الجزائر ونيجيريا، فالجزائر رغم أنها ليست عضوا في “إيكواس” فقد شعرت بالقلق من التدخل العسكرية في النيجر، استنادا إلى التحديات التي تفرضها حدودها المشتركة الممتدة لحوالي 1000 كيلومتر. وبعيدا عن مبدأ معارضة التدخّلات الأجنبية واحترام السيادة الوطنية وسياسة حسن الجوار الذي تلتزم فيه الجزائر بسياساتها الخارجية، كانت مخاوف الجزائر على صلة بأمن حدودها وعمقها الاستراتيجي الذي جعل من النيجر ممرا مهما لتعزيز صادراتها إلى القارة السمراء، ومشاريعها العابرة للصحراء التي تربط الجزائر بنيجيريا عبر النيجر في خط الألياف البصرية، وأنبوب نقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا. الحال كذلك مع دولة الجوار الكبيرة والقوية نيجيريا التي قرر برلمانها رفض التدخل العسكري في النيجر، استنادا إلى مخاوف كبيرة من تداعيات قد تمس امنها القومي كونها ترتبط مع جارتها النيجر بشريط حدودي مفتوح يصل إلى حوالي 800 كيلومتر تتداخل فيها القبائل من البلدين بما يجعل المشاركة في حرب ضد النيجر محفوفة بالمخاطر. يشار في ذلك إلى التشابك السكاني بين البلدين من خلال سكان قبيلة الهوسا التي تعد أكبر قبيلة في الغرب الافريقي وسكانها يمثلون نحو 40% من سكان نيجيريا ويتقلد أبناؤها مناصب سياسية وعسكريه رفيعة في كل مؤسسات الدولة النيجيرية المدنية والعسكرية. وبالمقابل فإن سكان هذه القبيلة يمثلون نسبة كبيرة من سكان النيجر والكثير من قادة جيش النيجر هم من أبناء هذه القبيلة، بمن فيهم قائد المجلس العسكري عبدالرحمن تشياني، ما يجعل مشاركة الجيش النيجيري في حرب ضد جيش النيجر مسألة محفوفة بالمخاطر كونها ستولد نزاعات مسلحة طويلة الأمد قد تزعزع استقرار نيجيريا التي تعاني من أزمات ومشكلات اثنية ناهيك عن مشكلاتها مع جماعة “بوكو حرام” وتنظيم “القاعدة”. وتمتد مخاوف التدخل العسكري في النيجر إلى السودان التي لا ترتبط بحدود من النيجر، لكنها تخشى من الامتدادات القبيلة للانقلابين من قوات الدعم السريع من أبناء قبيلة المحاميد التي تمتد من السودان إلى جنوب النيجر فضلا عن المقاتلين المنحدرين من قبائل مترابطة عرقيا أو مذهبيا، ما يجعل أي انهيار للنيجر مغذيا رئيسيا للحرب في السودان. الحال كذلك مع ليبيا التي دعت إلى وضع حد فوري للتحركات العسكرية في الجارة الجنوبية وسط مخاوف من أن تؤدي الحرب في النيجر إلى انتعاش ظاهرة تجنيد المرتزقة للقتال في صفوف الأطراف المتصارعة في ليبيا، ناهيك عن المشكلات التي ستواجه ليبيا من جراء تزايد عمليات الهجرة غير الشرعية وموجات النزوح الكبيرة إلى الأراضي الليبية. وتداعيات الحرب التي يخشاها الأفارقة لا تقتصر على هذه الدول فقط، بل تمتد إلى مصر وتشاد وموريتانيا وغيرها من الدول الافريقية التي أعلنت في وقت مبكر تأييدها للحل السياسي ورفضها التدخل العسكري استنادا إلى ادراكها للمخاطر والتأثيرات التي يمكن ان تجلبها الحرب في تفاقم ظاهرة اللاجئين وعرقلة التنسيق والتعاون القائم بينهما في مكافحة الإرهاب. مزايا الحل السياسي استنادا إلى المخاوف الافريقية من مخاطر التدخل العسكري في النيجر، فإن أكثر السيناريوهات المرشحة هو أن تخلص أزمة الانقلاب إلى تفاهمات سياسية يقودها الاتحاد الافريقي ومنظماته مع المجلس العسكري الحاكم حاليا، لتأمين حياة الرئيس المخلوع محمد بازوم وأفراد عائلته وأركان نظامه السياسي، والحصول على التزامات من القيادة العسكرية بمرحلة انتقالية من شأنها إعادة الأوضاع في البلد إلى الحالة الطبيعية عوضاً عن المجازفة بحرب قد تعيد هذا البلد الفقير والمضطرب عقودا للوراء وتزيد من حالة الاضطراب في الغرب الافريقي بصورة عامة. ومن شأن الحل السياسي الذي يطوي صفحة نظام الرئيس بازوم دون خسارة التجربة الديموقراطية الهشة في هذا البلد الذي شهد في السنوات الأخيرة نجاحات في خوض تجارب انتخابية وتجربة انتقال سلمي للسلطة في نهاية العام 2020م بتسليم الرئيس الأسبق محمدو إيسوفو السلطة سلميا إلى الرئيس المنتخب محمد بازوم بعد ولايتين دستوريتين، وهي تجارب رغم كل ما شابها من مشكلات فقد حملت آمالا كبيرة للشعب النيجري بالتغيير الديموقراطي ومغادرة حالة الفوضى التي خلفتها 6 انقلابات عاشتها النيجر منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960م. ومن جانب آخر فإن الحل الدبلوماسي سيعزز من فرص دول جنوب افريقيا في مكافحة الإرهاب والحد من توسع رقعته في دول الساحل والصحراء التي تعاني من تهديدات الإرهاب المتمثل في الانتشار الكبير لتنظيمي القاعدة وداعش والجماعات المتطرفة الأخرى، خصوصا أن أي حرب في النيجر ستمثل بيئة خصبة لتوسع التنظيمات الإرهابية التي تنتشر بكثافة في مناطق نيجرية شاسعة جعلت النيجر تمثل نقطة عبور رئيسية للعناصر المتطرفة بين معاقلها الرئيسية في العراق وسوريا وبين معاقلها الجديدة في غرب افريقيا. ولا يختلف اثنان على أن غياب الاستقرار في النيجر التي ظلت لسنوات تلعب دورا محوريا في قضايا الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب، سيعني إفساحا في المجال للفوضى التي ستقود إلى زيادة عدد النازحين، كما سيحول البلد إلى بؤرة رئيسية للهجرة غير الشرعية وبؤرة بالغة الخطورة لتصدير المجموعات المسلحة والمرتزقة والإرهابيين.