السفر معه إلى الأيام الخضر

مجيب الرحمن هراش

في عام أخضر ويوم أخضر وفوق سحابة خضراء كان أو سيكون لقائي به أو بالأحرى كان أو سيكون لقاء شعب بأكمله به .
كان فرحا ومستبشرا حد الثمالة.
فرحتى وغبائي لم يتركا له فرصة أن يتكلم ربما
وربما لم يكن هو يريد أن يتكلم كثيرا، وكان يريدني أنا أن أفعل ذلك، أو بالأحرى لأنه عرف أو رأى، وهو الرائي الكبير، أنني إنما أردت أن أتحدث معه بلسان وقلب شعب بأكمله .
السحابة الخضراء ظلت به وبي تموج بهدوء وأناة فوق هواء وأرجاء هذه الأرض الطيبة المباركة..
في الحقيقة لم أعرف من أين ولا كيف أبتدئ الكلام معه، خاصة لعلمي أنه لا يحب الإطراء وإن كان ما سأقوله حقيقة أكثر من الحقيقة
لكنني سألت الله التوفيق وعليه توكلت وباسمه تعالى بدأت ..
كم حملت في قلبك الكبير من همها وحزنها ودموعها ومآسيها وفساد حكامها، وقلة حيلة أبنائها..
كم حملت في روحك العظيمة من الطموح والحلم والإخلاص لها..
كم من الإخلاص حملت في صدرك لعينيها ولقلوب أبنائها..
أتعرف ..
كل الأرامل والثكالى والفقراء والجياع يعلمون جيدا أنهم ما زالوا يسكنون في قلبك ..
كل المروج والحقول والسهول والجبال والبحار تدرك جيدا أنها ما زالت قابعة بكل سرور وبكل فخر في روحك ..
كل الحاكمين والفاسدين ما زالوا يخشون إطلالتك ويخافون قدومك ..
كل الأعداء والعملاء والأنذال ما زالوا يفرون حتى من اسمك لأنهم يعلمون جيدا كم هم حقراء وكم أنت عظيم ..
حتى (سعود) وأنت تعرفها أكثر منا ما زالت تخشاك أكثر من أي شيء آخر
منذ زمان بعيد وأنت ترسم لنا النهج، وترينا الطريق، وتحذرنا من المزالق والمخاطر..
أي عظيم أنت.. أي إنسان .. أي روح. .أي وطن كبير أنت؟،إلى حد أن تحمل شعبا ووطنا بأكمله في قلبك..
لم تكف عن الحلم والأمل لحظة واحدة حتى وأنت أو الوطن في أكثر اللحظات سوداوية ومأساوية..
لم تتزعزع ثقتك في هذا الشعب رغم ما كان يعتوره من ضعف، وما يغلب على ساسته وحكامه من عمالة وغباء
حلمت كثيرا وأردت وتمنيت كثيرا أن ينهض، ورغم إشفاقك عليه لمعرفتك العميقة أن الدرب كما قلت “مسارب حيات وكيد أعادي” إلا أن يقينك وإيمانك به ظل يزداد يوما بعد يوم.
أتعرف.. أنك حتى لحظة أردت أن تبحث أو تفتش عن (المخلص) أنك كنت ترى في كل فرد من أبنائه مخلصا..
لكنك لم تعرف وربما لم تعرف إلى الآن أن هذا المخلص كان أنت…
أتعلم.. لم أرك مستبشرا من قبل إلى هذا الحد والأهم من ذلك هو معرفتي لماذا…
كل ذلك الهم، وكل ذلك الحلم، وكل تلك الأماني، وكل ذلك الإخلاص لهذا الوطن ولهذا الشعب
ها هو الآن أمام عينيك يتجسد كما حلمت ورأيت وتمنيت، وإن لم يكن كامل التجسد إلا أنك تدرك وتعلم جيدا أن هذا هو الطريق الصحيح..
وأن هذه هي الخطوات التي يجب أن نمشيها، وأن المصاعب كبيرة، وأن علينا أن نجتازها وسنجتازها بتوفيق وعون الله، وأن الحرب حرب بناء وتطوير مثلما هي حرب طائرات وبنادق وألا مكان للعمالة والعملاء في هذا الوطن:
أتعلم…
كلما تمنيت أنك ما زلت بيننا لتحارب معنا تذكرت أنك أول وأشجع وأهم وأعظم من حارب من أجل هذا الوطن..
حاربت الفقر والجوع
“لنا بطون ولديهم بنوك
هذي المآسي نصبتهم ملوك ”
“لا لست لئيما يؤسفني
أن يهنأ غيري في مأمن
لكن مسرات الهاني
توحي للعاني أن يحزن”
حاربت الفساد بشكل عام
“مصروفه في كل يوم وفير
أبوه إما سارق أو أمير”
حاربت اليأس
“لكنها رغم بخل الغيث ما برحت
حبلى وفي بطنها قحطان أو كرب
وفي أسى مقلتيها يغتلي يمن
ثان كحلم الصبا ينأى ويقترب”
حاربت فساد المسؤولين والساسة
إن تُريدي سيارةً وإدارة
فلتكوني قوَّادةً عن جدارَهْ
ولتُعدِّي لكلِّ سلطان مالٍ
كل يومٍ زواجةً مُستعارَهْ
ولتكوني عميلةً ذاتَ مَكرٍ
تشربين القلوبَ حتى القَرارَهْ
ولتبيتي سريرَ كلِّ وزيرٍ
ولتُمَنَّي من في انتظارِ الوزارة
وبهذا النشاط تُمسينَ أعلى
من وزيرٍ … ورُبَّما مُستشارَهْ
حاربت وفضحت فساد الحاكمين
ليسَ للحاكمينَ أيُّ طموحٍ
غيرَ تحقيقِ أُمسيات العهارَهْ
والتماسِ المُساعدات لتفنى
جبهةُ الشَّعبِ تحتَ نعلِ التِّجارَهْ
واجتلابِ المخطِّطين صنوفاً
كي تضيعَ البلادُ في كلِّ قارَهْ”
“الحاكمون واشنطن حكومتهم
اللامعون وما شعوا ولا غربوا
القاتلون نبوغ الشعب ترضية
للمعتدين وما أجدتهم القرب”
ومن لم يمت الشعب مات تأمركا”
“يا ذوي التيجان يا أهل الرئاسة”
حاربت المخبرين والجواسيس “حزبية ومخبرون”
حاربت زيف وكذب بعض الأحزاب
“أيسارا يا صنعا أمضي
أم أنتهج الدرب الأيمن
هل هذا الأحسن أم هذا
يبدو لا شيء هنا الأحسن”
“هل الشيوعي أتى المالي كما قصدت
محنية الظهر والثديين عطارا”
حاربت المنتفعين والثوار الكاذبين “ثوار والذين كانوا”
حاربت الظلم في الماضي وفي الحاضر وما يخشى ويتوقع منه في المستقبل
“أكابد الآن ما عاناه أمس أبي
أخشى يلاقي الذي لاقيته ولدي ”
حاربت الاستكبار الأمريكي على كل الشعوب المستضعفة
“شوق واشنطن إلى بنما
يستحث الإيدز والصمما”
حاربت رواغ المصابيخ، وجبت العصور كلها محاربا الظلم والطغيان، وشعارك الدائم
” لماذا ناب عن سيفي لساني؟
ألي سيفٌ؟ أفي كفِّي بناني؟
أعندي غير هذا الحرف ينوي
كما أنوي، يعاني ما أُعاني؟
أُريد أقوم، أعيا بانخذالي
أُريد البَوح، يعيا ترجماني
أكان الصمت أجدى يا قوافي؟
أأرضى حكم أولاد الزواني؟
أتعزفني سيوفٌ مًن حديدٍ
ولا أستَلُّ سيفاً مِن أغاني؟
وهذا الشعر آخر ما تبقَّى
مِن الأحباب في زمن التشاني
ناصرت المظلومين، ووقفت بكل ما أوتيت من قوة من أجل الشعب
لم تجامل .. لم تنافق .. لم تداهن رغم كل ما دفعت من ثمن لمواقفك تلك .
حاربت بالشعر ..بالفكر.. بالموقف.. بالوعي وما زلت ومازلنا نحارب معك وبك..
أتعلم..
رغم كثرة ثرثرتي -وأرجوك أن تسامحني عليها- لأن فرصة لقائي بك قد لا تتكرر-
أتعلم أننا قطعنا بفضل الله شوطا لا بأس به في السفر إلى الأيام الخضر، وأننا في الطريق إلى مدينة الغد التي حلمت وحلمنا بها طويلا، والتي ستكون هي الأجمل والأنقى والأمثل لأنها ثمرة وجهد وعرق ودماء شعب بأسره.
واصل حديثك لماذا سكت؟
العفو..
أترى
وأعلم جيدا أنك ترى أكثر من أي وقت مضى- كل هذه الدماء، وكل هذه الأرواح، وكل هذه الجهود التي بذلت وتبذل في سبيل ما ظللت تحلم به؟
توقفت السحابة قليلا فوق حديقة واسعة من الضوء والعطر..
قلت له:
كأنك تريد أن تذهب.. أرجوك لا
قال:
الحمد لله أني رأيت وأرى لا أقول حلمي ولا حلمك بل حلم شعبي ووطني وهو يتحقق، وأني رأيت وأرى كيف يسير بكل إصرار إلى هدفه مجتازا كثيرا من الصعاب..
وكأنك لا تريد البقاء معنا
ما أردت البقاء هنا من قبل مثلما أريده الآن
على الأقل لأشارك معكم في هذه الحرب ولأحمل البندقية وأحارب مع هؤلاء الأبطال ولأعمد أحلامي وأحلامكم بدمي هذا..
ولكن عليّ أن أذهب
كلمة أخيرة
ألك أنت؟
لي ولهذا الوطن
ولهولاء الناس
ومن سيصدق أن هذه الكلمة مني أنا
من الكلمة ذاتها
السَّفر إلى الأيام الخُضر
يا رفاقي … إنْ أُحزِنَتْ أُغنياتي
فالمآسي … حياتُكم وحياتي
إنْ همَت أحرفي دماً فلِأَنِّي
يمنِيُّ المِدادِ … قلبي دواتي
أمضغُ القاتَ كي أبيتَ حزيناً
والقوافي تهمي أسىً غير قاتي
أنا أُعطي ما تمنحونَ احتراقي
فالمراراتُ بِذْرُكُم ونباتي
غير أنِّى ـ ومِديةُ الموت عطشى
في وريدي ـ أشدو فأُلغي وفَاتي
فإذا جِئتُ مُبكياً فلِأَنِّي
جئتكم من مَمَاتكم ومَمَاتي
عارياً … ما استعرتُ غير جبيني
شاحباً … ما حملتُ غير سِماتي
جائعاً .. من صدى (ابن علوان) خُبزي
ظامئاً من ذبول (أروى) سُقاتي
***
رُبَّما أشتهي وأُنعِلُ خَطوي
كلَّ قصرٍ يُومي إليكِ فَتاتي؟
أقسمَ الجَدُّ … لو أكلنا بثديٍ
لُقمةً من يدٍ … أكلتُ بناتي
***
قد تقولونَ ذاتيَ الحِسُّ … لَكِنْ
أيَّ شيءٍ أُحسُّ ..؟ من أين ذاتي؟
كلُّ هذا الركام جلدُ عظامي
فإلى أينَ مِن يديه انفلاتي؟
يحتسي من رمادِ عينيه لَمْحِي
يرتدي ظلَّ رُكبتيه الْتِفاتي
تحت سكِّينه تناءَى اجتماعي
وإلى شِدقِهِ تَلاقى شَتاتي
آخر اللَّيلِ … أوَّلَ الصُّبح .. لكن
هل أحسَّتْ نهودها أُمسياتي
***
هل أُداري أحلامَكم فأُغنِّي؟
للأزاهيِر واللَّيالي شواتي …
عندما يُزهر الهشيمُ سأدعو:
يا كؤوس الشَّذى خُذيني وهَاتي
الشِّتاءُ الذي سيندى عقيقاً
يبتدي موسمَ الورودِ اللَّواتي …
ليس قصدي أن تيأسوا، لخُطاكُمْ
قصَّةٌ من دَمِ الصُّخورِ العواتي
***
يا رفاقي في كُلِّ مَكْسَرِ غُصْنٍ
ـ إنْ توالى النَّدى ـ ربيعٌ، مُواتي
يرحلُ النَّبعُ للرَّفيف ويَفْنَى
وهو يوصي: تَسَنْبَلي يا رُفاتي
والرَّوابي يهجُسنَ: في مَا وقوفي
هل هنا يا مدى … سأرمي ثباتي؟
سوف تأتي أيامُنا الخُضر لكنْ
كي ترانا نجيئُها قبل تأتي
…..
والآن وداعا
ليس قبل أن تقبل هذه الهدية
ما هذا
إنها لوحة من نور منقوشة بدماء الشهداء مهداة من هذا الشعب وهذا الوطن لك أنت..تفضل
ألن تقرأها؟
سأقرؤها، ولكني أفضل سماعها منك أولا
مصطفى
فليقصفوا، لستَ مَقصَفْ
وَلْيَعْنُفوا، أنت أعنَفْ
ولْيحْشدوا، أنت تدري
إن المخيفين أخوَفْ
أغنى، ولكنَّ أشقى
أوهى، ولكنَّ أجلَفْ
أبدى ولكنَّ أخفى
أخزى ولكنَّ أصْلَفْ
لهم حديدٌ ونارٌ..
وهُم مِن القَشِّ أضعفْ
***
يخشَونَ إمكان موتٍ
وأنت للموت أَأْلَفْ
وبالخطورات أغرى
وبالقرارات أشغَفْ
لأنهم لهواهم..
وأنت بالناس أكلفْ
لذا تلاقي جيوشاً
مِن الخَواء المزخرَفْ
***
يجزِّئون المجزَّأ..
يُصنِّفون المصَّنفْ
يكثِّفون عليهم..
حراسةً، أنت أكثَفْ
***
كفُجأة الغيب تهمي
وكالبراكين تزحَفْ
تنثالُ عيداً، ربيعاً
تمتدُّ مشتىً ومَصْيَفْ
نسْفاً إلى كل جِذرٍ
نَبْضاً إلى كل مِعزفْ
***
ما قال عنك انتظارٌ
: هذا انثنى، أو تحرَّفْ
ما قال نجمٌ: تراخى،
ما قال فجرٌ: تخلَّفْ
تُسابق الوقتَ، يعيا
وأنت لا تتوقَّفْ
فتسحب الشمسَ ذيلاً
وتلبسُ الليلَ مِعْطفْ
***
أحرجتَ من قال: غالي
ومَن يقولُ: تطرَّفْ
أن التوسّط موتٌ
أقسى، وسمّوه: ألطَفْ
لأنهم بالتَّلهي
أرضى وللزَّيف أوصَفْ
وعندك الجبنُ جُبْنٌ
ما فيه أجفى وأظرَفْ
وعندك العار أزري
وجهاً، إذا لاح أطْرَفْ
***
يا «مصطفى»: أي سٍّر
تحت القميص المنتَّفْ
هل أنت أرهفْ لمحاً
لأن عُودَكَ أنحَفْ؟
أأنت أخصبُ قلباً
لأن بيتك أعْجَفْ؟
هل أنت أرغدُ حُلماً
لأن مَحْياكَ أشظَفْ؟
لِم أنت بالكل أحفى
مِن كل أذكى وأثقَفْ؟
مِن كل نبضٍ تُغَنّي
يبكون «مِن سِبِّ أهيَفْ» «1»
***
إلى المدى أنت أهْدى
وبالسراديب أعْرَفْ
وبالخيارات أدرى
وللغرابات أكْشَفْ
وبالمهمَّات أمضى
وللمُلمَّات أحصَفْ
***
فلا وراءك ملهْى
ولا أمامك مَصْرَفْ
فلا مِن البُعد تأْسى
ولا على القُرْبِ تأسَفْ
لأنَّ همَّك أعلى
لأنَّ قصدكَ أشَرفْ
لأنَّ صدرك أملى
لأنَّ جيبك أنظَفْ
***
قد يكسرونك، لكنْ
تقوم أقوى وأرهَفْ
وهل صعدْتَ جَنِياً
إلا لُتَرْمى وتُقْطَفْ
***
قد يقتلونك، تأتي
مِن آخر القتل أعْصَفْ
لأنَّ جذرك أنمى
لأنَّ مجراك أرْيَفْ
لأنَّ موتك أحيى
مِن عمر مليونِ مُتْرَفْ
***
فليقذفوك جميعاً
فأنتَ وحدك أقْذَفْ
سيتلَفون، ويزكو
فيك الذي ليس يَتْلَفْ
لأنك الكل فرداً..
كيفيَّةٌ، لا تُكَيَّفْ..
يا «مصطفى»، يا كتاباً
مِن كل قلبٍ تألَّفْ
ويا زماناً سيأتي
يمحو الزمانَ المُزَيَّفْ
1986
«1» مطلع أغنية يمنية :«من سب أهيف مبرقع والعبيد اثنين».
انهمرت عيناه بالدموع ربما حزنا وربما فرحا..
انقسمت السحابة الخضراء نصفين..
ارتفعت به سحابته إلى الأعلى
وعادت بي سحابتي إلى الوطن للسير في دربه، وعلى نهجه، وللمحاربة فيما حارب طويلا من أجله..
وما توفيقي ألا بالله العلي العظيم
٢٧/٨/٢٠١٩م

قد يعجبك ايضا