خليل المعلمي
في وقت الفراغ أعود إلى مكتبتي البسيطة، اقلب رفوفها واتفقد محتوياتها التي تأخذنا الحياة بعيدة عنها، وجدت كتاباً يتحدث عن سيرة أحد الأدباء بطريقة أخرى، طريقة شيقة وجاذبة للقراء.
هدير السرد هو الكتاب الذي يروي سيرة الأديب “أشرف الخمايسي” المثير للجدل الذي نجد في سيرته العناد والتمرد وعدم المبالاة والتغيير من حال إلى حال آخر، وقد رصد هذه السيرة ورتبها في شكل حوار الصحافي “مصطفى عبدالله”، مدعماً الكتاب بعدد من الكتابات الصحافية عن “الخمايسي” خاصة بعد نشر روايته “منافي الرب” بعد انقطاع عن الكتابة الأدبية لعدة أعوام انضم خلالها إلى التيار السلفي.
يقول المؤلف مصطفى عبدالله: “لكنني لا أضع هذا الكتاب حول إبداع أشرف الخمايسي باعتباره صاحب قصص وروايات عجيبة فحسب بل لأنه في حد ذاته رواية، فشخصيته خروج عن المألوف ورفض لرتابة الحياة اليومية وهذا سر تقلباته التي تدهش الكثيرين”.
والناظر إلى حياة الخمايسي يجدها سلسلة لا تنقطع من المغامرات، فهو ينزح في مستهل حياته الأدبية إلى القاهرة ليعيش هو وأسرته الصغيرة في منطقة شعبية عشوائية يصعب على الكثير من القاهريين مجرد الولوج إليها، وتقع هذه المنطقة على سفح جبل المقطم، فيعايش الدهماء من اللصوص والنصابين والبلطجية في حياتهم اليومية بين بسطاء الناس.
كانت أول مجموعة قصصية لأشرف الخمايسي تحت عنوان “الجبريلية” تلك المجموعة التي منحته مكانة متميزة في عالم القصة القصيرة، حيث تسلم جائزة “أخبار الأدب” من يد الأديب الكبير الحاصل على جائزة نوبل في الأدب “نجيب محفوظ”، لقد كان فوزه بالمركز الأول يرسم له طريقاً محدداً، فقد كان وقتها نجماً صغيراً يسطع بقوة والنجوم لا تسطع في الأقاليم، وإن سطعت فالسطوع خافت، وبحسب اعتقاد الأديب الخمايسي نفسه فإن فوزه بالجائزة لم يكن بداية الطريق كما يعتقد الكثيرون ولكنه لافتة دالة على أنه في الطريق الصحيح، لأن البداية كما يؤكد كانت قبل عام من حصوله على الجائزة حين بدأ بالنشر في مجلة “أخبار الأدب” وفي جريدة “الجمهورية” ومجلة “القاهرة”، ومجلة “القصة”.
وقد ألقى هذا الفوز أضواء كثيفة على كتاباته، في نفس التوقيت كانت هيئة قصور الثقافة قد أصدرت سلسلة جديدة اسمتها “إبداعات” وكان يتولى إدارة تحريرها الروائي “حمدي أبو جليل” الذي اتصل به ويطلب منه مجموعة قصصية أو رواية لينشرها في سلسلته، فكانت “الجبريلية” هي الجاهزة، فرأت النور ونزلت الساحة الأدبية فعملت ضجيجاً وصنعت حراكاً لم تصنعه مجموعة قصصية لكاتب أو كاتبة من جيله.
وعن أبيه يقول الخمايسي وهو يحكي عنه: ثمة مشاكل كانت بيني وبين أبي من أهمها عدم اقتناعه بحكاية الأدب هذه، وأن الأفضل لي أن أجد وظيفة حكومية تضمن لي دخلاً ثابتاً بالإضافة لطريقته القاسية في تربيتي وإخوتي بخاصة أنا رغم أني أبنه البكر وأول فرحته كما يقولون، أبي صعيدي حتى النخاع، من إحدى القرى التابعة لـ”جهينة” في “سوهاج” يحتفظ بقسوة طبع العربي القديم الذي وفد إلى “مصر” وزاد هذا الطبع قسوة عمله في الشرطة بدأ من “عريف” وحتى خرج على المعاش “مساعد أول” أي أضيف إلى طبعه البدوي طبع عسكري ليصير ديكتاتوراً في البيت يفرض إملاءاته التي لا تتواءم حتى مع مراحلنا العمرية، لم يكن قصده مجرد السيطرة وإنما حاول أن يضعنا على الطريق التي راءها صحيحة، بالقوة وكثيراً ما كان يمارس نصحه لي تحت لسعات الضرب بقطعة خرطوم مطاطة بعد أن يقيد يدي إلى رجلي مثل أسير حرب كل هذا وأنا لم أزل طفلاً.
لقد كانت شهادة وإشادة الأديب والناقد “محمد محمود عبدالرزاق” عن إبداعات الخمايسي وقد وجه إليه الكلام بقوله: “أنت أول من جدد في القصة القصيرة بعد يوسف أدريس”، تعطيه دفعة قوية نحو الكتابة والإبداع والتجديد.
ويسرد الخمايسي سيرته وقصة حياته وأبرز المحطات التي مر بها وهو يجيب على أسئلة الصحافي مصطفى عبدالله بلغة أدبية رائعة وجاذبة للقارئ متوقفاً عند بعض المحطات التي عبر من خلالها إلى الشهرة وكذا بعض المواقف التي كانت لها أثر في تغيير حياته وتوقفه عن العمل الأدبي لمدة تصل إلى ثمانية عشر عاماً، بعدها يعود إلى مزاولة العمل الإبداعي والأدبي فيكون نتاج ذلك روايته “منافي الرب” التي لاقت جدلاً واسعاً وكتب عنها أبرز النقاد المصريين في تلك الفترة.
يقول في إحدى الفقرات: “سنة ۲۰۰۰ تقريباً، وقتها كنت أترك الحركة الأدبية بعد صدمتي في الأدباء لصمتهم عما جرى في انتفاضة فلسطين، ليتمدد في داخلي فراغ شاسع، ولم يكن ممكناً بالنسبة لي أن أبقى فارغاً هكذا، كنت قد تركت وظيفتي الحكومية احتراماً للإبداع، بمعنى أنني كنت وقتها قد خسرت ركائز الحياة العادية، ومطلوب مني أموال لإدارة مطلوبات البيت والمعيشة، فاتجهت لتعلم حرفة تتناسب مع روحي، وكانت «الأركيت»، صنعة الجمال والفن، فتميزت في هذه الحرفة جداً، وحققت لي حريتي، واكتفائي المادي، لكنها لم تحقق لي شيئاً هو المكون الأساسي لروحي، الرسالة، الأدب كان يحقق لي ذلك، فالكتابة رسالة، ودعوة للإصلاح، لكن «الأركيت» فن صامت وعمل في أغلبه أكل عيش، ظل هذا يؤرقني جداً، حتى حدث أمر عجيب”، ويقصد بذلك التحاقه بالتيار السلفي.
ومن خلال تجربته مع التيار السلفي وعودته للقراءة واستنتاجاته العقلية فقد بنى رؤيته حول الفكر الإسلامي على “فقه الواقع” وبدأ ينظر للنص المقدس القديم بعيون عقل عصري، لا يرفض القديم، ولكن يرفض ما يكبل انطلاقه وتحديثه.
وعن جدوى الكتابة يقول الأديب أشرف الخمايسي: “الكتابة الصادقة تؤثر بالتأكيد لكن المشكلة تكمن في أن هذه الكتابة ليست إلا بذرة ، هذه البذرة لن تصير شجرة مثمرة أبداً طالما لم تزرع في الأرض، ويصب عليها الماء، الكتابة تحتاج لعامل واحد فقط كي تنبت وتصير مؤثرة، عامل نصفه عند المبدع نفسه، ونصف عند المؤسسات الثقافية، هو الرغبة الأكيدة في الوصول للشارع، وما لم يتخلص المبدع، أو المثقف المنتج عموماً من نظرية موت القارئ أو فكرة الفن للفن ، فسيبقى دائماً مع كتاباته على هامش العقل الجمعي عند الناس ولن يحقق لنفسه قيمة حقيقية بينهم وسيظل الكاتب مجرد منتج لبضاعة ليست لها سوق ليبقى يعاني من قلة دخله”.
ويضم الكتاب في الجزء الثاني منه قصتين قصيرتين من إبداعاته في أولى مجموعته القصصية “الجبريلية”، وكذلك شهادات لعدد من الكتاب والأدباء والنقاد، ومما قيل عنه أنه أديب من زمن العمالقة، رجل أتقن الغوص في بحار الأدب فعثر على أصدافها وأخرج لآلئها، حتى صارت الرواية في يده عقداً يزين جيد حسناء.
وقيل عن روايته “منافي الرب” أنها واحدة من روايات الصحراء النادرة في أدبنا العربي، وهي الرواية الثانية له الذي استطاع منذ البداية أن يكتشف صوته الخاص، حيث أنصت لنبض الحياة في البيئة الراكدة في صعيد مصر وأخذ يغوص في المناطق المسكوت عنها، فكتب القصية القصيرة أيضاً باقتدار وسلاسة.