حلف أبي سفيان

عبدالإله عبدالقادر الجنيد

 

 

لم تكن واقعة الطف في كربلاء تلكم “الجريمة الكبرى” التي قُتل فيها الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، وما سبقها من إعلان الحرب على ولي أمر الأمة من بعد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- واغتياله وهو ساجد يصلي في محراب مسجده بالكوفة، واغتيال الإمام الحسن بن علي -عليهما السلام- بالسم، وما تلا واقعة الطف في كربلاء من قتل واغتيالات لأعلام الهدى من ذرية النبي المصطفى محمد -صلوات الله عليه وآله وسلم- وليدة لحظتها، بل كانت نتاجاً طبيعياً لانحراف الأمة عن مسارها القرآني الذي رسمه الله لها وارتضاها لعباده، ذلكم المسار الذي أعلنه رسوله المصطفى -صلوات الله عليه وآله وسلم- في غدير خم بعد أن نزل إليه الوحي بالأمر الإلهي بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَـمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] .
هذا الانحراف الذي تولد نتيجة الانتصار الساحق للمسلمين على تحالف الأحزاب قوى الكفر والطاغوت في غزوة الخندق، حيث برز فيها الإيمان كله ممثلاً بالإمام علي -عليه السلام- منتصراً على الكفر كله ممثلاً بعمرو بن عبد ود العامري، وقد مني تحالف الأحزاب بالهزيمة النكراء والانكسار الذي أزهق الكفر إلى الأبد كي لا تقوم له قائمة من بعد ذلك .
حينها أيقن تحالف الكفر والنفاق ومعهم اليهود والروم أن الإسلام بات قوة لا يستهان بها، ولا يمكنهم كسرها بالحروب والمواجهات، وأن الرسول -صلوات الله عليه وآله وسلم- قد تمكن من بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة التي ستنطلق بإشعاعها النوراني ومنهجها القرآني العظيم إلى جميع أنحاء العالم، فلجأ أبو سفيان بن حرب إلى اليهود والروم للاتفاق على آلية قادرة على مواجهة المد الإسلامي، فاتفق الجميع على الدفع بمجاميع من قريش وبعض أحبار اليهود ليعلنوا إسلامهم للتغلغل في أوساط المسلمين ؛ ليتمكنوا بعد ذلك من الهيمنة وإحكام قبضتهم في السيطرة على الدولة الإسلامية بالتعاون مع المنافقين المحسوبين على الصف الأول من المسلمين .
وبالفعل بدأ حلف أبي سفيان بالتنفيذ والدفع بمن استطاع الدفع بهم للذهاب إلى المدينة المنورة وإعلان إسلامهم، حتى ابنه معاوية ذهب معلناً إسلامه ليأتي فتح مكة من بعد ذلك فيعلن أبو سفيان إسلامه الذي لم يكن في جوهره إسلاماً حقيقياً كونه كشف حقيقته يوم الفتح عندما قال للعباس بن عبدالمطلب: “انظر إلى ملك ابن أخيك”، حيث كان يستشعر الإسلام ملكاً ولم يستشعره كدين لله الذي جاء به رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ظهرت هذه الحقيقة جلية لدى حفيده يزيد الملعون الذي قال في قصيدة له :
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
لذلك اشتغل أبو سفيان ابن حرب بدفع الطلقاء – الذين لم يسلموا حقيقة- إلى التظاهر بالدخول في الإسلام خوفاً من أن ينالهم شيء من بأس المسلمين، فدخلوا بأعداد كبيرة تصل إلى الآلاف منهم، والذين استخدمهم الحلف للقضاء على كبار الصحابة واغتيالهم وتشريدهم من الأرض ليخلو لهم الأمر فيتمكنوا من السيطرة على دولة الإسلام بمساعدة أولئك المنافقين، وكان لهم ذلك خاصة بعد حديث الولاية في غدير خم الذي ما أنعم الله به على الأمة إلا لتسير وفق منهج الله، وتنال شرف الاستخلاف وإقامة الحق، وبناء حضارة إسلامية تمكن الأمة من أن تنفد في أقطار السماوات والأرض، وتبلغ الكمال البشري في الإنتاج والاختراعات والإبداعات كما شاء الله، وذلك من فضل الله على أوليائه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
نعم.. إن أمر الولاية ما هو في العصر إلا مصلحة كبيرة للعباد ارتضاها الله لهم، لتنال أمتهم الإسلامية الفضل الكبير وتفوز الفوز العظيم وترث الأرض، ويكون لها النصر والغلبة والتمكين.
وما اختص الله به الإمام علي -عليه السلام- من الولاية مثّل امتداداً للرسالة في ذريته إلى يوم الدين، وهذا الأمر برمته كان يمثل عائقاً وعقبة كبيرة أمام هذا الحلف الخبيث الذي سرعان ما تنبه إليه فعزم أمره على ضرورة القضاء على الإمام علي وذريته من بعده ليخلو لهم الأمر ويتفردوا بالتسلط على أبناء الأمة وإجبارهم على الابتعاد عن منهج الله الذي ارتضاه لهم، والتيه في الأرض والتخلف والجمود والويل والثبور والقتل والدمار والفرقة والشتات، ليتمكن الطلقاء وأبناؤهم في الأرض من تحويل الدولة الإسلامية ومنهجيتها القرآنية العظيمة إلى مملكة يتحكم بها أشخاص بعيدون عن دين الله لا يفقهون منه شيئاً، وتحويل خلافة الله في أرضه إلى ملك في قبضة معاوية بن أبي سفيان اللعين الذي بدوره صيّره إرثاً تعاقب على ورثه بنو أمية من بعده ليحدث ما حدث من جرائم يندى لها جبين التاريخ، ولا غرو أن من أعظم تلك الجرائم جريمة كربلاء التي قتل فيها أبناء النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم . وبعد سقوط مملكة بني أمية قامت على أنقاضها دولة بني العباس كمملكة لاحقة توارثت هي الأخرى الملك لأبنائها وذرياتهم، وهكذا استمر حال الأمة ليصل إلى ما هو عليه اليوم من حال مزرٍ يعتريها الضعف والذل والهوان، وتتكالب عليها الأمم من كل حدب وصوب.
إذ لا تزال الأمة الإسلامية تدفع أثماناً باهظة؛ جرّاء قيام حلف أبي سفيان -الذي شكلته زمرة من المنافقين والطلقاء واليهود، وبعض المحسوبين على الصف الأول من المسلمين- بضرب أهم مبدأ من مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وهو “مبدأ الولاية” الذي تمّ القضاء عليه بسبب تفريط المسلمين آنذاك به، الأمر الذي عاد سلباً على الأمة الإسلامية فباتت قابعة تحت وطأة المذلة والهوان والخنوع للطاغوت، والإفساد في الأرض، ليصل بها الحال إلى ما هي عليه اليوم من تفكك وتقهقر وضعف وتخلف.
لقد قام هذا الحلف بإعلان الحرب على قرناء القرآن والمصطفين الأخيار ورثة الكتاب وأهل الذكر من آل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى وصل بهم الأمر إلى القتل والتنكيل بأبناء النبي وأسباطه، بيد أنهم لم يفلحوا في القضاء على ذرية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن الله -سبحانه وتعالى- قد تكفل بحفظ القرآن وسلالة الأطهار من آل محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين لم يستسلموا، بل وقفوا بالمرصاد وظلوا ينشرون الوعي القرآني والثوري على طفاة الأرض، وما الثورة الإسلامية في إيران، وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، والمسيرة القرآنية في اليمن، إلا ثمرة لذلك الوعي القرآني الذي ورثهُ الأبناء عن الآباء .
نعم.. إن حلف أبي سفيان تمكن من ضرب هذا المبدأ الهام، ليصل من خلاله إلى تحقيق أغراضه الدنيئة التي تضمنت الفصل بين القرآن وقرنائه، وتحويل دين الله إلى ممالك تديرها سلطات تنتهج الطغيان والتسلط على العباد باسم الدين الذي غيرت مفاهيمه بما يخدم مصالح سلاطين الجور والطغيان، فكان تضعضع الدولة الإسلامية والمشروع القرآني أمراً حتمياً لذلك الانحراف، لتصاب الأمة بالضعف والهوان والفرقة والتشرذم، مما سهّل على الأعداء -الذين أخبرنا الله عنهم في القرآن الكريم وهم اليهود والنصارى- التسلط على رقاب الأمة، والهيمنة على مواردها، واغتصاب أراضيها المقدسة في فلسطين وبلاد الحرمين، والتمكن من إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وتوفير الحماية له من قبل الطاغوت الأمريكي البريطاني بمعية ممالك الخليج التي أُنشئت لهذا الغرض ..
كما استطاعت الصهيونية العالمية زرع زعامات عربية ذليلة تخدم مصالحها في المنطقة، فضلاً عن قيامها بقلب مفاهيم ما تبقى من معالم الدين والهوية الإسلامية العربية وصولاً منها إلى تحريف بوصلة الموالاة وتحويل ولاء الأمة لليهود والنصارى بدلاً عن ولائها لله ورسوله وأعلام الهدى من آل محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- ليصبح أبناء الأمة يهوداً بالتولي، ولذلك تمكنت الصهيونية من شن حروبها بالوكالة من قبل هؤلاء المتصهينين ليبلغ بهم الحال إلى المروق من الدين تحت مسمى الإبراهيمية التي تحاول الصهيونية نشرها في العالم، لتمحو ما تبقى من معالم الدين الإسلامي الحنيف وترك منهج القرآن إلى الأبد .
ومثل ما أعلن طاغوت الماسونية الصهيونية اليهودية “الإبراهيمية” وتبنتها دول عربية محسوبة على الإسلام، ها هي اليوم تعلن “المثلية” وتروّج لها بين أبناء الأمة وتدفع بدول كدولة السويد لإحراق القرآن الكريم وإهانته على مرأى ومسمع من العالم دون أن يحرك المسلمون وزعماء المسلمين كافة ساكناً تجاه ما يجري على القرآن الكريم ونشر المثلية بين أبناء الأمة، باستثناء الأحرار في دول محور الجهاد والمقاومة.
ولولا أن بعث الله -سبحانه وتعالى- في الأمة عباداً له أولي بأسٍ شديد ولاؤهم لله ولرسوله ولأعلام الهدى، حيث مكّنهم الله -سبحانه وتعالى- من بناء محور جهادي قوي استطاع بفضل من الله كسر هيمنة الصهيونية العالمية، وإعادة المشروع القرآني إلى الصدارة، وخلق وعي جماعي -إسلامي وعربي- لمواجهة هذا المشروع الصهيوني الخبيث الذي بلغ به الحال إلى محو الدين والهوية والمنهج.
(والعاقبة للمتقين)
كاتب وباحث ومفكر إسلامي

قد يعجبك ايضا