هَاُنَا الشِّعِرُ يَنحني تَبْجِيلَا
لِرِجَالٍ َمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
صَدَقُوا عَهْدَهُمْ مَعَ اللَّهِ حَقًّا
مَا اسْتَكَانُوا، بل أزهقوا التَضْلِيلَا
بنفوسٍ لم يخطر الوهنُ فِيهَا
صَنَعُوا فِي سَبِيلِهِ المُستَحِيلا
وعلى مَا أَصَابَهُمُ مِنْ جِراحٍ
صَبَرُوا في رضاهُ صَبْرًا جَمِيلًا
كفروا بالطغاة ، ثم استقاموا
حَطَّمُوا بِالهُدی السّلاحَ الثَقِيلًا
جَدَّدُوا بِالدماءِ مِنهاجَ زَيدٍ
(مَن أحبَّ الحياةَ عاشَ ذلِيلا)
إسْتَجَابُوا لِلَّهِ حِينَ دَعَاهُم
فَاطمَأنُّوا ، وأقلقُواْ اِسرائيلا!!
{إِنَّ بَعْضَ الْجراحِ فِيهَا شِفَاءٌ
لجراحِ قَدْ َتسْتَمِرُ طَوِيلًا}
إِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ مِنْكُمْ كَثِيرًا
مثلما تَأْلَمُونَ مِنْهُمْ قَلِيلًا!!
وَعَلَيْهم بِمَا صَبَرْتُمْ سهامٌ
فحديثُ الرصاص أَقْوَمُ قِيلًا
بَشِّرِ الصَّابِرِينَ بالْخُلْد فَوْزًا
وَنَعِيمًا أسمَی وَظِلًّا ظَلِيلًا
وعَلَى الْقَاعِدِينَ قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ
تَعَالَىٰ مَنْ جَاهَدُوا تَفْضِيلًا
أولياءُ الشيطانِ قَد بَدَأوكُمْ
(وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)
قد تَنادَوا وَهُمْ أشَدُّ نِفاقاً
وتَمادَوْا فجُرِّعُوا التَّنكِيلا
فَاسْتَعِنتم بِاللَّهِ فَهُو َعَزِيزٌ
ذُو انْتِقَامٍ فلْنتَّخِذْهُ وَكِيلًا
وَاسْتَعنتم بِالصَّبْرِ ذَلكَ خَيْرٌ
فاذْكُرُوا اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
إِنَّما النصرُ مِنهُ وَعْدٌ قَرِيبٌ
لَا تَخَافُوا الإرجافَ والتَهوِيلا
وَخُذُوا حِذْرَكُم(فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُم)وَجَسِّدوا التَنزِيلا
وَانْفِرُوا، يُقهرُ الغزاةُ جَمِيعًا
وَخُذُوا المُعتدينَ أَخْذًا وَبِيلًا
وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ تَعَالَىٰ لِلْكَافِرِينَ سَبِيلًا..
فصلٌ من سيرة أبي.. النشأة الأولى لشعر التسعين
«عِلمُ النَّفَس التسعيني» وفلسفة الصمت والكلام
عمار الشامي
في دواوين الشاعر خالد زيد الشامي الخمسة (أصدر خمسة دواوين وله ثلاثة مخطوطة )، دأب على ترجمة «التجارب» التي مَرَّ بها طوال السنوات الماضية وانعكست على أسلوب حياته، وذائقته، وطريقة فهمه وتفسيره، متراوحاً بين شكلين للتعبير: الصمت، والكلام. ويبدو ذلك واضحاً داخل نصوص متوترة، وهادئة. ولعلَّه اعتمد في كثير من الأحيان عند كتابة قصيدته، على ثُلاثية قد تتَّحد أو تفترق: الرمز، مخاطبة الذات، ومخاطبة الآخر. هذه الثلاثية أعتقد أنها الأساس التي بنى عليها الشاعر علاقته مع قصائده عموماً. من جهة يبقى الرمز تقنيته التسعينية التي أصبحت بمثابة «دُستور شعري» ناتج عن تجربة تلك المرحلة ولم يتخلَّ عنها على مدى السنوات اللاحقة، ومن جهة ثانية وظَّف الرمزية في سياق تساؤلات الشاعر وقضاياه الذاتية التي يخاطب بها نفسه أملاً أو ألماً. في أحد نصوص ديوان «من ذاكرة الصمت» مثال لهذين العنصرين. يقول الشاعر:
تَجترُّ غَيبَكَ
لا غَفِلتَ عن العيونِ
إذا اكتوى بالهَمِّ صوتُكَ
لا ذَبُلتَ
وقد تناثرتِ الحروفُ على ذنوبِكَ
لا احتملتَ الصمت
لا استثنيتَ خارطةَ القلوبِ
إذا استكان لها الندى المسكوبُ
من شَفَةِ الندى
لا استمطرتْ يَدُكَ الخفيَّةُ
نصفَ ما تُبقيه دمعتُكَ السخيةُ
لا استقرَّ الوقتُ فيكَ
ولا خرجتَ من احتمالكَ
لا..
ولا كوَّنتَ خلف ضُلوعِكَ الوجعَ النبيلَ
ولا انتصرتَ عليكَ
في زمن الرياح
ولا انتظرتَ الماءَ
يأتي سائغاً كاللحن في زمن الخُطوبِ
ولا خرجتَ من الزَّنازنِ
تحت وطأةِ هذه اللغةِ العُجالةِ
لا دخلتَ على الشقاوةِ
رافعاً وَهَجَ التَّناوُشِ
لا اقتربتَ من الشجونِ
ولا هربتَ من المحاولةِ الجريئةِ
في انتظارِ سواكَ
لا انطفأتْ وساوسُكَ التي كانت تُضيفُكَ
لا اكتملتَ على اشتياقٍ يصطفي هذا التناغُمَ
لا احترفتَ الضوءَ
تفتحُ للضياءِ مدىً
ولا أغلقتَ بابَكَ للمُنازلة الأخيرة
قراءة هذا النص المتدفق توحي للوهلة الأولى بـ«النَّفَس التسعيني» بوضوح، ثم تُحيل أيضاً إلى السياق العام الشعري الذي كان يكتبه الشعراء المُحدِثون سواءً في تلك الفترة أو ما قبلها في الثمانينيات، لكنه مع كل شيء يُشعرني باللغة الخاصة التي شكَّلَها لنفسه الشاعر، ونَفَسِهِ التسعيني ولكن الخاص، رؤيةً وتجسيداً. ثمة إيقاع سلس صعوداً وهبوطاً رغم قتامة المَشاهد. وهو هنا يُجري مع ذاته ما يشبه المُساءلة، دون تقديم ردٍّ أو تفسير في النهاية.. يمضي النصُّ مستعرضاً حالةَ المساءلة الذاتية، وينتهي عليها.. يترجم الموقف كله، ثم لا ينتهي برد فعل، وهذا ما راق لي.. يُفسر «ماذا» دون التطرق إلى «ماذا بعد».. يجعل الشعرَ حاكماً ويترك للمتلقي التأمل في هذه المحاكمة وإصدار الحُكم.
بنفس الجَرَيان والتدفُّق يخاطب نفسه في نص آخر:
مَن أدمى السُّهادَ على جُفونِكَ
واعتلى رئتيك؟
قلتُ لكَ احذَرِ
العثراتُ لا تُلقي بصاحبها جزافاً
كن كهذا الغيثِ
لو أحيتْ عظامَكَ هذه الجُملُ النديَّةُ
فاحتمل
واسكُب بقايا الروح في الجسد النحيلِ
وفجأةً ينهالُ طوفانُ الرماد
على يديكَ
إنه يوثق دائماً اللحظة الذاتية باحترافِ شاعرٍ يعرف كيف يكتب الوجع، و«بينه وبينه» يضع بصمات اللوحة الشعرية الآتية:
ضاقتْ عليه نوافذُ الحاراتِ
ضاقَ البردُ من رئتيهِ
أحجارٌ تعربد في الجوارحْ.
بيني وبيني
كلُّ ما بين اللسان وبين هذا الصبرِ
من سَفَرٍ إلى سفرٍ
ومن جَزَعٍ إلى جزعٍ
ومن حرفٍ سيكتب هذه الأزماتِ
أغفَلَها الزمانُ
فألهمتني نصفَ عِشرَتِها
وفيها صرتُ متخذاً يديَّ على فمي
بيني وبيني
دمعةٌ ذَبُلت منابعُها السخيةُ
فاستراحَ لها الجسدْ
بيني وبيني
لا ينامُ الفجرُ إلا برهةً
وأنا وأنت
مسافة أخرى تمُدُّ الغيثَ
تستجدي هطولَ النافرين من الوجعْ.
بيني وبيني
تبدأ الكلماتُ
تنتظرُ الحقولُ مواسمَ الدنيا
تمُرُّ على السلام
ويكتبُ الوجعُ الفرح.
بيني وبيني
لا هوادةَ في الحكاياتِ
التي سكنت خيامَ أحبتي
فكتبتُها في أغنياتٍ للرمادِ وللمداد.
بيني وبيني
أمنياتٌ ما فتئتُ أمُدُّ أغنيتي
إلى دمها الجديد.
بيني وبيني
لا زمانٌ يتَّقي لغتي
ولا لغةٌ تمرُّ على شفاهي
العالمُ الآتي ونورٌ يسبق الكلماتِ
تُلقي ظلَّها السحبُ النديَّةُ
في اتجاه العشق.
وعند استحضاره تجربته مع أصدقائه القدامى، يدخل العنصر الثالث، مخاطبة الآخر. وعلى الأرجح أن الآخر بالنسبة للشاعر هو الأشخاص الذين عرفهم عن قُرب.. الذين شكَّلوا في ذاكرته عمقاً خاصاً. يقول مستحضراً الأصدقاء في محادثة مع الزمن:
هذا الكلامُ سنبدأهُ بالتحيةِ
ثم سنُلقي عليكَ المَلامَ
ونلقي عليك السلامَ
الحكايةُ أكبرُ من لغةٍ نقتفي إثرَها
وأكبرُ من شَفةٍ ناطقةْ
الحكايةُ سطران في دفتر الشعرِ
كُنَّا نرددها حين يأتي المساء
وفي خطاب الآخر وخطاب الذات يستدعي الصمت والكلام ويوحّدهما لنفس الوظيفة في سياق مساءلة متناقضة.. يقول:
يا صديقي
يا أخي
يا أنتَ
يا صوتي الذي فرَّقتُهُ في حارة الفقراءِ
يا صمتي الذي وزَّعتُهُ في حضرةِ الشعراءِ
علّي كنتُ أنأى كنتُ أغتربُ
وعلّي كنتُ إن ضلَّ الطريقُ إليكَ أقتربُ
وعلّي ما أزالُ مدىً يباعدني ويحتجبُ
وفي وقفة جميلة وعذبة الطرح والفكرة، يقول:
أيها العابرونَ دَعُوا الشعرَ للشعرِ
والناسَ للناسِ
هذا خلاصٌ لكم من أخاديدِكُم
فاخرُجوا من جُحور الزمانِ المخيِّمِ
في أسفلِ الجُمجُمة
يؤكد الشاعر خالد الشامي أنه قادر على إجراء إيقاع النص الشعري متناغماً مع عمقٍ جميل في التصوير راقبْتُهُ في هذا المشهد:
منذُ أن كان عِشتارُ
يختارُ ما يشتهيهِ المدارُ
ويخرجُ من خلفِ هذي الجيوشِ العتيقةِ
منتصراً ظافراً
يتَّكي مرّةً خلفَ أغنيةٍ
مرّةً خلفَ نهرٍ
ويمتدُّ مثل الخيالِ
ويسكُنُ في زمنٍ من وَرَقْ
وفي عدد من النصوص يجعل الشاعر التفعيلة مدخلاً لقوالب أخرى، مثل الشعر العمودي، والشعر الحُميني أيضاً، وذلك ليس اقتناصاً للقوالب لجمعها في سياق واحد لأداء الوظيفة ذاتها، بل هو أقرب إلى توظيف ما اعتبره كُلّيّاً (الشعر العمودي) في الجزئي (شعر التفعيلة)، وذلك في رأيي المتواضع يمنح نصَّ التفعيلة حركةً متجددة ولا يخل بخصوصية التفعيلة بل يعبّر عما يشبه التصالُح بين القديم والجديد، ويجعل التفعيلة تُنجز أكثر من دور. يقول في نَصٍّ قديم بعنوان «الشاعر»:
حينما يستظلُّ بظلِّ السماءِ
ويستفسرُ الماءَ عن بعض أحوالِه الدَّاكِنةْ
حين يستلمحُ النورَ في كل زاويةٍ
حين يكتُبُ كلَّ اتجاهاتِنا
حين يصرخ:
عانقتُ حصنَ الشمسِ عَلّي أغتدي
والطيرُ في وكناتِها، وأعاني
لا الصبرُ يكتبني ويعصرُ مهجتي
أبداً ولا هذا الزمانُ زماني
ويعبّر الشاعر عن غربة خاصة من الداخل على النقيض مع الماضي المليء بالأصدقاء والذكريات.. يطرح رؤيته الخاصة لنفسه كرجل وحيد منذ بدأ بقطع كل تلك الأشواط، في نَصٍّ كتب عنه قراءةً شعرية سابقة الشاعر الكبير سلطان الصريمي قال فيها إن النص تكثيف إبداعي صادق لمشاعر الغربة:
منذُ خمسٍ وعشرينَ عاماً
أمارسُ فنَّ السياسة وحدي
وأضحك وحدي
وألعب وحدي
وأذهب للسوق وحدي
أصادقُ نفسي
وألهو مع الذكريات لوحدي
وحينَ الكلامِ أُكلِّمُ من لستُ أعرفهم
وأصادقُ من لستُ أذكُرُ أسماءهمْ
وما زلتُ وحديْ
رغمَ أن الكثيرين كانوا معي
منذُ خمسٍ وعشرين عاماً إلى الآن
أحلمُ بيْ
وأكتبُ ليْ
وأزعمُ أنْ لن أكونَ سواي.
تكاد التفعيلة في شعر الشاعر خالد الشامي تستحوذ على أغلب ما كتب، إما بنصوص قصيرةٍ للغاية أو متوسطة أو مطوَّلة ومطوَّلة للغاية، ويليها النص العمودي المقفَّى بطابعه الحداثي، رغم أنَّ قصيدة النثر لها حصة من اهتمامه وتجربته، لكن ليس بما يكفي لأقول إنه أعطاها حقَّها من الإنتاج كما حدث مع التفعيلة والقصيدة العمودية.
إذا لاحظنا القصيدة العمودية لدى الشاعر، سنجدها ذات أدوات جديرة بالاهتمام في تقديري، وهي مع مرونتها في البناء لم تتخلَّ عن رمزيتها، هذه الرمزية التي حافظ عليها الشاعر دائماً لتقديم نص مشغول أولاً، ولإنشاء لحظة تأملية مع المتلقي ثانياً، باعتبار الرمز يتيح التأمل في شيءٍ آخر وراء النص كما يقول أدونيس. أفاد الشاعر خالد الشامي نفسه بقراءاته الكثيرة والعميقة للشعر العربي والأجنبي، ومهَّد بها لأرضية صلبة وخاصة لوضع قصيدته المقفاة في موضع خاص، وبنَفَسه التسعيني الخاص أيضاً.
ومن أوائل نصوصه المقفَّاة نَصٌّ بعنوان «القصيدة» ذات الوَقْع المتسارع مع الحفاظ على المستوى الدلالي وعدم ترحيل النص إلى الشكلي فحسب:
الشعرُ يسألُ عن جوابي
وأراهُ يحتضن اغترابي
ويُذيبُ أخيلةَ الطموحِ
وصوتَ أشرعةِ التَّصابي
ما زلتُ أبحث عن يدي
وفمي يُفتّش عن شبابي
وأطوفُ حول تأمُّلي
لحناً تَشَطَّرَ في شرابي
وأصُبُّ من لغة العيون
بقيةَ الزمنِ التُّرابي
ماذا، ويحملني الزمانُ الصُّلبُ
في الوَسَنِ الإيابي
ماذا، وأرسم لوحةَ
الأفق البعيد على كتابي
وأدقُّ أبوابَ الربيعِ الطَّلقِ
حين يدُقُّ بابي
قد صار بعضُ الشعرِ بعضي
والقصائدُ من صحابي
أختارُ مملكتي
وأرسم صورتي وأرى سحابي
بمرونةٍ أيضاً يُطلق أخيلته ليفتن ذائقتي بهذا النص:
على ربوةٍ كُلُّنا واقفٌ
وأيامُنا كلُّها واقفة
فلا أشمسَ الدفءُ في ليلِنا
ولا استوقدَ الأنفُسَ الخائفة
سيأتي غداً في غدٍ وارفٍ
وقد يهمِسُ العصفُ للعاصفة
ويخرُجُ من عشقِهِ المستحيلُ
طريقاً إلى جهةٍ نازفة
هنا لا يراني سوى من أراهُ
بعينٍ تُفجِّرُها العاطفة
ولا تزال فكرة السنوات وتراكُماتها هَمّاً لدى الشاعر يعبّر عنه عموديّاً في نَصٍّ بعنوان «العائد»:
جئتُ
كي أُبصِرَ الزمانَ العالي
بعد دهرٍ
وألتقي بخيالي
بعد عشرٍ من السنينَ استدارتْ
لم يعُد غير خُطوتي
وظِلالي
جئتُ من آخر المسافاتِ
لكنْ
من سيختارُ عودتي في ارتحالي
وفي نص آخر:
مسافرٌ، ينقضي عامٌ ويأسرني
عامٌ، وأطوي على الأيام أنّاتي
مسافرٌ في مكاني لم أزل، وعلى
كل الممرات أشيائي وأوقاتي
مسافرٌ وَلِهٌ بالشعر حين بدت
قصائدي كنت أدعوها حبيباتي
مسافرٌ في ذواتي، في دواخلها
وغائبٌ في مسرَّاتي وأشتاتي
مسافرٌ في بلاد الله إن سكنت
جوارحي فالخُطى كانت مسافاتي
تجوبُ خلفي دروبٌ كنت أدركها
وكنتُ أختارُ منها كل عاداتي
ضاقت تفاصيلُ أشيائي وضقتُ بها
وعدتُ من سفري الآتي ومن قاتي
وكم توقفتُ بشجنٍ طويل عند بيتَي شعر آسرَين كتبهما الشاعر بعد وفاة والده المرحوم زيد علي الشامي. يقول:
أبي، وهذا الهوى من بعدك الواقي
وأنتَ وحدَكَ بعد الخالق الباقي
جَفَّت غيولُ السواقي كُلُّها ومَضَت
عني بعيداً وكنتَ السيلَ والساقي
أما الشعر الحُمَيني، فقد بدا لي أن الشاعر خالد الشامي يغرّد به متى أراد أن يكتب بـ«خِفَّة موضوعية» انطبع أكثرُها بطابع المناجاة والابتهال. فرغم هَوَسه بالقصيدة الفصحى، إلا أنّه يضع اعتباراً للصوت الحُمَيني الفريد كجزءٍ لا يتجزأ من الشخصية التسعينية، إلى جانب كونه يُبدع الحميني في الأساس بصورة رائعة تحيل إلى إيقاع الثقافة الشعبية الأصيلة مبنى ومعنى.
قال ابن آدم ذي صَبَر ما يخشى
ومن دعا بابَ السَّما جَوّابِه
يا من يجيرَ المِستضي لو يِعْشى
سُبحان ذي فَتَّحْ جميعَ ابوابه
في مقامٍ مُشابه يقول:
يا عالم الأسرار يا كافي عبادك باقتدار
يا رازق الأطيار في الأشجار بالجود الغزير
يا باهي الأنوار وحدك يا مُقيل كل العِثار
يا رب تسقينا من المُزن الذي ما له نظير
وقال ابو عمّار بعد الليل جاء ضوء النهار
حلَّق بصنعا وسْط عين الشمس كالبدر المنير
حمّالة الأسوار والتاريخ يشهد بالفخار
كم من بطل جبار يا صنعا وكم عالم قدير
وفي مناجاة أخرى:
يالله يالله ذي نُورِهْ طَوى الديجور
بالنور بعدَ الظلامَ الدامسَ القَتَّال
ربَّ السما ذي وَهَب لك عقل كُله نور
وأنت من فضل نُورَ الله عالَ العال
وحين تطرأ العواطف يكون الإمعانُ في طرحها جميلاً وبسيطاً على هذا النحو:
شِي مَعَكْ يا خِلّ ناهي؟
أو مَعَكْ للشوق آمِر؟
كم تباهي
كم تضاهي
تِعتلي أحلى المناظر
حين تخطى من تجاهي
بالمزاهِر والمَشاقِر
هو زَعَلْ أو كُنت ساهي
أو مهاجر أو مسافر؟
شِي مَعَكْ يا خِلّ ناهي؟
أو مَعَكْ للشوق آمِر؟
وهنا يقول إن تجربته ترتبط بالتراث الشعبي وأنماطه والمِخيال الاجتماعي والفني اليمني عموماً مع إرادة كتابة جمال خاص:
سَيْلْ والخير سَيَّالْ
صُبح كالطَّلّ باردْ
والصَّبُوح من بِحِينِهْ
والفَلَاح الفَلَاح
عَونَكْ على من تعينِهْ
قالوا الناس
لا شدُّوا خُطامَ السفينِة
شِدّ من بَعدهم
وبَطِّلَ القِيلْ والقالْ
سَيْلْ والخير سَيَّالْ
في نهاية هذه التناولة، أشيرُ أخيراً إلى أن التجربة الشعرية للشاعر خالد زيد الشامي مهمة بمختلف مراحلها وتستحق الوقوف عندها وعند مادتها النصية والفكرية والإبداعية، كتجربةٍ رفدت المشهد الشعري اليمني ومَنَحَت طويلاً أكثر بكثيرٍ مما نالت.