ثورة الحسين.. ومكانتها في تاريخ الحركات

 

“الثورة  ” تعيد نشر هذا المقال للمفكر والشاعر اليماني الكبير الراحل أ .عبدالله البردوني

• يذكر الوقت بأشباهه من الأوقات لتحتشد الأحداث التي وضعت بإعادة ذكرى أوقاتها فتتبدى تربية العهد وكأن القرون المتوالية لم تقطع صلة الحدث القديم بزمنه الموغل في القدم..
ومن هذه المواقيت شهر محرم من كل سنة هجرية فهذا الشهر مقرون بثورة (الحسين واستشهاده برغم ما وقعت فيه من أحداث سوى الأحداث الحسينية، ولعلنا اليوم أكثر تمثلاً لكوارث “كربلاء” التي وقعت عام 60 للهجرة، لأن الأسى يبعث الأسى والأشباه تذكر بأشباهها كما تلفت النقائض إلى نقيضاتها، ولعل هذه الفترة أقوى شبهاً بفترة ثورة الحسين واستشهاد بطلها..
لأن “الحسين بن علي” خرج في زمن التعطل من التاريخ ولو تحرك الحسين في زمن تحرك التاريخ لما سقط شهيداً على يد أولئك الرجال من أتباع “يزيد” ولكنها فترة العقم توجه الحدث إلى خلفه وتعكس الوجه إلى ذيله فقد جاء الحسين بعد أن مات بعض الصحابة وشاخ بعضهم وارتاب بعضهم فيما يرى وتفرق عدد منهم في الأمصار لأن لهذه الفترة خلفه عشرين عاماً أدارها دهاء “معاوية” تجاه الحسين ويزيد إلى زمن منصوب السلم لقدمي يزيد مرفوع النعش لجثمان الحسين فهذه الفترة تشبه أيامنا هذه المتلونة الوجوه إلى الخلف والضائعة بين المهبات العاصفة إذ تلاحقت الكوارث من مطلع الستينات بعد بشائر الخمسينات وكأن تلك البشائر أحلام ليلة صيف كانت أول فادحة انفصال الجمهورية العربية المتحدة بعد عمر قصير من الوحدة المنشودة وكانت هذه الفادحة بداية لأخطار أفدح إذ ترتبت عليها هزيمة 67 ورحيل ناصر عام 70 ومؤامرة 73 ثم حرب لبنان ثم الغزو الإسرائيلي كخاتمة لهذا الفصل المأساوي، وربما كان بداية لفصول أخرى قد تعاكس أصولها وقد تشبه مقدماتها.. ألا تتشابه فترات التعطل من التاريخ أو العجز عن الإرادة؟
وهذا التعطل في جانب يؤدي إلى امتلاء الجانب المعاكس فقد أدى تعطل الإرادة الخيرة بمقتل الحسين إلى انتصار الانتهازية لسفيانية الأموية، كما سبب تعطل هذه الفترة من الإرادة العربية إلى غلبة الصهيونية والامبريالية حتى أصحبت كل المنطقة كولاية أمريكية وكمستوطنة صهيونية أليست حكمة التاريخ أحرى بالاسترجاع اليوم للبحث عن مكامن القوة القائمة لان بعد كل فترة نقيضها والاستعداد لها يسهل امتلاكها قبل أن تملك قيادنا، فزمن الظروف السيئة هو موسم اكتناه عظائم الأحداث في التاريخ فعندما تتغيب الثورات عن مواقعها يتبدى تاريخ البطولات أهدى إلى طريقها, وعندما تنبعث الثورات يصبح تاريخ التضحيات أهم نسيج راياتها, ففي إطار العصر الثوري نقب المثقفون عن أوائل الثورات وأبطالها في مدارج التاريخ فتغنت الكتابات في تاريخ “سبرتاكوس” وفي ثورته على الإمبراطورية الرومانية من اجل تحرير العبيد وتحرير الأحرار من الإقطاع, كانت هذه الثورة المبكرة خارج ذاكرة التاريخ الملوكي والكنائسي, حتى نفضت عنها الغبار كتابات عصر الثورات وتتبعها للمكونات الثورية في حس الإنسان, لهذا اهتم عصر الثورات بكل الحركات من “سبرتاكوس” إلى “كومنت باريس” مروراً بثورة “الحسين” وثورة “الزنج” والثورة الباباكية فالشعوب تحتاج إلى التاريخ الثوري في فترات التعطل لكي يتحقق الامتلاء وفي فترات الامتلاء لكي تمتد جذور الخصب التاريخي.
لاشك أن ثورة الحسين بن علي في شهر محرم سنة 60 للهجرة من أهم حركات ذلك الحين ومن أخصب الحركات فكرياً إلى اليوم، وربما تنتسب فكرية هذه الأحداث إلى فرادة بطلها في تلك الفترة الخاملة, فقد كاد الناس في ذلك الحين أن يرضوا بما يكرهون فلم يكن في ذلك الجيل أحد يجهل فضل الحسين على يزيد ويعرف أن يزيداً امتداداً وراثياً لأبيه لم يرشحه الواقع ولم تؤازره الكفاءة وكان الناس مجمعين على عدم شرعية الحكم بالإرث لأن الخلافة بيعة وشورى، ومع هذا ران السكون على بقية الصحابة والتابعين فتوقف البعض عن عمل أي شيء وانتظر البعض الفرج ومال البعض إلى الزهد يأساً من الدنيا وأملاً في الله.
وفي إبان هذا التخاذل نهض الحسين مستجيباً دعوة الشعب بعد أن تلقى بيعة أهل العراق وتحريض أهل مكة فخرج بصحبه وأهله من مكة إلى كربلاء واثقاً بنصر الله وبإرادة أصحاب المصلحة من حكمه لأن الحكم الوراثي الذي تلقفه يزيد عن أبيه لا يرى في الحكم مصلحة الناس ولا تحقيق غاياتهم لأن الحكم أطلق أهم أسباب الفساد المطلق لهذا جازف الحسين قبل أن يتبين مصير مسلم بن عقيل الذي بعثه إلى العراق لاستطلاع الأمور وكان مسلم بن عقيل قد لاقى مصرعه على يد عبدالله بن زياد عامل يزيد على العراق.
ربما كان الحسين على ظن بمصرع ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب فلم يتريث عن الرحيل رغم نصح الناصحين وإنما تابع مسيرته إلى كربلاء وما كان في ظن أحد أن عمر بن سعد بن أبي وقاص سيقف بجيشه في وجه الحسين ولقد تردد عمر بن سعد في قتال الحسين طويلاً وعندما اكتشف يزيد تردده عززه بجيش بقيادة الشمر بن ذي الجوشن وهنا أحس عمر بن سعد خطورة المنافسة فقاتل إلى جانب الشمر حتى بادت جماعة الحسين ثم لفظ الحسين أنفاسه بحرارة السلاح والعطش.
هل كان الحسين يجهل عدم التكافؤ بين العشرات من أصحابه وأهله وبين الألوف المدججة من جيش يزيد؟
يبدو أن الحسين كان عارفاً انه ليس هناك مفر من النصر أو الشهادة وليس هناك خيار ثالث وبهذا الموقف الحسيني أصبحت ثورة كربلاء فكرية الثورات الشعبية أجيالاً تلو أجيال، فمن أرومة الثورة الحسينية نشأت العقلية الجدلية بين الإمام القائم والإمام القاعد وبين الاختياريين والقدريين وبين الإثني عشرية وبين ديمومة العترة فباستشهاد الحسين تعددت جوانب التفلسف في شروط الحاكم ومؤهلات الحكم وزعامة الأفضل وصلاحية المفضول مع الإجماع.
فإذا أراد الباحث أن يقّوم أي حدث ثوري فلابد أن يزمنه ويوازن بين الأحداث وما تركت من آثار ولعل الأحداث التي احتشدت في العصر الأموي بعد استشهاد الحسين فرادة ثورة الحسين على سائر معاصراتها من الحركات وبالأخص اثنتان الخوارجية والزبيرية.
كان الخوارج من أتباع علي يقاتلون معه بصفين معاوية وجنده ولما نادى المنادون بالتحكيم بين علي ومعاوية استجاب عدد كبير من أصحاب علي للنداء واضطر إلى قبول التحكيم مع أنه حق أريد به باطل على حد تعبير الإمام علي، ولما قبل علي التحكيم خرج عليه جماعة قائلين: “لا حكم إلا لله” وتسمى هؤلاء بالخوارج فقاتلهم علي حتى أضعف شوكتهم فتجمعوا بعد شهور وقرروا تخليص الأمة من الحرب بقتل الثلاثة الرؤوس التي تقودها وأعدوا أحدهم لقتل علي وثانياً لقتل معاوية وثالثاً لقتل عمرو بن العاص، ونجح ابن ملجم بقتل علي لأنه كان يخرج بلا حارس على حين أنجت الحراسة معاوية وابن العاص.. فما هو مبدأ الخوارج؟
كان الخوارج يريدون أن تختار الأمة حاكمها من أي فريق أو قبيل، ولكن كيف تختار الأمة بدون تنظيمات ولا قيادات؟ وهل يمكن أن ينعقد إجماع قبل عهد الجماعات؟
لقد كان الخوارج فدائيين من أعلى طراز على امتداد عصور وعلى استهانتهم بالموت واقتحامهم الحروب فلم يتركوا فلسفة تداني فلسفة التشيع أو آداب أحد فرقها لأن الخوارج كانوا قوى عسكرية دينية أكثر منها نظرية رغم تعدد فرقها لان نظرتها كانت واحدة تتلخص في عبارة “الحكم لله” بدون تحديد للكيفية ولصورة اختيار هذا الحكم أو نوع رجاله وعلى رغم بلاغة خطباء الخوارج من أمثال أبي حمزة الشاري وشبيب بن شيبه فإن خطاباتهم كانت تقتصر على وصف استماتتهم على التحريض أن القتال اجتزاء بما عند الله بدلاً بما في الدنيا فلم تشر خطاباتهم إلى شروط الحاكم وطرق اختياره، كذلك أشعارهم فإنها أقرب إلى الخطب إذ لا تنطوي على حجاج كحجاجية الكميت بن زيد الأسدي في هاشمياته التشيعية، لأن أشعار الخوارج كانت اقرب إلى الأناشيد الحربية منها إلى الآيديولوجية السياسية ولم تكن من المطولات، بل إن أغلبها مقطوعات أو قصائد قصيرة من أمثال قول قطري بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً
من الأبطال ويحك لا تراعى
وكان قطري وزوجه أم حكيم وعمرو بن حطان أشعر شعراء الخوارج، ومع هذا لا يقاس كل شعرهم بإحدى هاشميات الكميت الذي كان يعتمد على التشبع وعلى التنديد ببني أمية جدلياً كقوله في النبي وإرثه:
يقولون لم يورث ولولا تراثه
لقد شركت فيها بكيل وأرحب
فإن هي لم تصلح لحي سواهم
فإن ذوي القربى أحق واقرب
حتى أصبحت قصائده أرومة الشعر التشيعي ونواة آيديولوجية الحكم فثورة الحسين تمتاز بآثارها على ثورة الخوارج كما أنها تفوق بكل جوانبها الحركة الزبيرية.. فعلى ما كان يعتمد الزبيريون..؟
كانوا على عكس الخوارج يرون الحكم في قريش كما كانوا يعاكسون الشيعة في أحقية الهاشميين بالحكم ثم إنهم لا يرون الحكم يقوم على الفضائل النفسية وإنما على العراقة النسبية، كما عبر عن هذا شاعرهم عبدالله بن قيس الرقيات:
حبذا أتعيش يوم قومي جميع
لم تفرق أمورها الأهواء
قبل أن تطمع القبائل في ملك
قريش ويشمت الأعداء
أن تودع من البلاد قريش
لم يكن بعدها لحي بقاء
فالزبيرية مؤسسة على العرقية وعلى مبدأ الخلافة في قريش أو لا يدين العرب إلا لهذا الحي من قريش.. وما دامت المسألة قرشية فإن بني أمية من ذؤابات قريش، وبهذا ينمحي صراع الضدية أو اشتباك النقائض في الحركة الزبيرية وهذا هو الذي تسبب في غياب آيديولوجية زبيرية فانتهت الزبيرية بمقتل عبدالله بن الزبير في مكة ومقتل أخيه مصعب في العراق على يد عبدالملك بن مروان، وباستشهاد هذين الشجاعين انتهى العهد الزبيري في حدود تسع سنوات, غير تارك أي أثر فكري أو فني على عكس ثورة كربلاء التي اغتذت بالدم الحسيني لكي تتحول إلى قناديل فكرية وأشعة وردية من دم الاستشهاد، فبعد استشهاد الحسين بسنوات خرج زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبدالملك ولاقى نفس المورد نصرته بنو عمه ومن هذا التساؤل نشأت فكرة الإمام القاعد والإمام القائم ونفى الأكثر الإمامة عن القاعدين، وبهذا تزايد الذين يفضلون الحسين وذريته على الحسن وذريته لان الحسن قبل القعود وارتضى السلامة على حين حمل الحسين راية الخروج ولما كان علي بن الحسين أميل إلى الورع أو أقل اقتداراً على العراك فقد مد ابنه زيد طريقة جده وكان مصر زيد الشعلة الثانية من كربلاء لأن الطموح إلى زعامة الشعب دعا إلى المزيد من التثقف بالأفكار وإلى معرفة الناس لأنهم مصدر الأفكار ومعطيات التفكير.
لهذا أصبح دم الحسين واستشهاد زيد تأججاً ثورياً فانهار العهد الأموي في مدة 92 سنة ليست عث خليفة وهذه الفترة حماة فرد واحد من متوسطي الأعمار، لكن هذه النهاية الأموية كانت نهاية فترة سياسية وبداية عمر طويل من الجدل العقلي والاقتتال الفكري والصراع المسلح، لأن الشيعة الذين أسقطوا العرش الأموي كانوا يعبرون عن حقد ضد المروانيين أكثر مما يعبرون عن آيديولوجية، تشيعية إذ لم يفطنوا إلى الفرق بين الفاطميين أحفاد بطل كربلاء وبين الهاشميين أحفاد العباس بن عبدالمطلب فلاقت ذرية كربلاء على أيدي خلفاء بني العباس كالذي لاقوا على أيدي المروانيين واشتهرت فكرة تقديم العم في الإرث على أبناء البنات.
بهذا حققت هذه الذرية الفاطمية زعامة حزب الشعب في ظل راية بغداد بعد راية دمشق وعن طريق هذه الزعامة تعددت المذاهب بين جعفرية وإسماعيلية وكيسانية ثم انشق من كل مذهب مذاهب وتواصلت المذاهب مذهبات وكان هذا الخصب الفكري والحيوية العقلية بفضل الاستشهاد الحسيني الذي عشق الموت لكي تتألق الحقيقة.
*نقلا عن صحيفة “26سبتمبر»-
العدد (6 – 299) 4/ 11/ 1982م

قد يعجبك ايضا