رغم الانتصارات التي حققها الجيش السوداني خلال الأيام الماضية في إخماد نيرات قوات الدعم السريع في منطقة أم درمان ومناطق أخرى في العاصمة الخرطوم، إلا أن الظهور المفاجئ لبعض القوى السياسية المدنية التي عقدت لقاءات ومؤتمرات تحت شعار “لا للحرب” أثار الشكوك من تحركات سياسية لدعم قوات الدعم السريع من شأنها تغذية عوامل التحول بالحرب السودانية من عمليات عسكرية لمواجهة تمرد عسكري إلى حرب أهلية طويلة.
الثورة / أبو بكر عبدالله
وفقا لتأكيدات محلية ودولية كانت معارك الأيام الماضية في العاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش وقوات الدعم السريع الأعنف منذ بدء الصراع، وقد أفضت إلى نجاح الجيش بطرد قوات الدعم السريع من جيوب كثيرة أفضت إلى استعادة الجيش السيطرة الكاملة على منطقة أم درمان وقطعه لواحد من أهم خطوط الإمداد لقوات الدعم السريع وسط تقديرات تشير إلى خيارات ضيقة لما تبقى منها في العاصمة إما بالهروب أو الاستسلام.
هذه الخسائر كانت محور تقارير دولية عدة ومنها تقرير وزارة الخارجية الأمريكية الذي أكد أن الدعم السريع خسر معركة الخرطوم بتكلفة باهظة وخسائر فادحة حيث خسرت قوتها العسكرية والاقتصادية كما خسر معركتها السياسية، في إشارة إلى النتائج المريعة التي ترتب عليها لجوء بعض وحدات الدعم السريع إلى نهب الممتلكات العامة والخاصة بعد عجزها عن صرف رواتب جنودها.
ورغم السياق الطبيعي للانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش في أم درمان وبحري والتي وضعته في موضع متقدم لتأمين العاصمة الخرطوم، إلا أن الجديد تمثل بالظهور المفاجئ للقوى المدنية التي عقدت مؤخرا سلسلة لقاءات في أوغندا وكينيا تحت شعار “لا للحرب” استهدفت بحسب السلطات السودانية “فرض صيغة سياسية جديدة بتوسيع دائرة المفاوضات والمشاركة فيها على طريق وقف الحرب وإعادة الأمور إلى وضعها القديم مع بعض التعديلات الشكلية حسب مقتضيات المرحلة”.
هذه المستجدات في المشهد السياسي، فُهمت من جانب المكون العسكري على أنها تحرك سياسي من القوى المدنية استهدف إنقاذ قوات الدعم السريع من الانهيار الكامل في العاصمة، التي يحاول الجيش السوداني حاليا تأمينها كمرحلة أولى في سياق خطته للقضاء على التمرد قبل نقل المعركة إلى جنوب دارفور.
خارطة سياسية جديدة
منذ اليوم الأول للحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، كان واضحا أن القوى السياسية المدنية التزمت مواقف أفضت إلى تيارين رئيسيين الأول مثلته قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) التي اكتفت بالتنديد بالحرب وآثارها الإنسانية على المدنيين قبل أن تشرع بتحركات سياسية بدت داعمة لقوات الدعم السريع التي تبنت اتهاماتها للجيش بإعادة فلول النظام السابق والانقلاب على المسار الانتقالي الديموقراطي.
أما التيار الثاني فمثلته ببقية القوى السياسية التي أعلنت دعمها للجيش الوطني السوداني، لكنها بحسب الخرطوم لم تقم بأي فعل سياسي يترجم هذا الدعم ولم تعلن مواقف واضحة تجاه ما يشهده السودان من أعمال تمرد عسكري وتدمير شامل لمقدرات الدولة والبنية التحتية والانتهاكات المستمرة للمدنيين.
وفي حين ظل التيار الثاني على مواقفه، فقد شرع الأول بتحركات سياسية اثارت القلق، خصوصا وهي جاءت بعد إحراز قوات الجيش نجاحات نوعية في المعارك مع قوات الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم أفلحت في تقليص مساحة انتشارها وحولتها من حالة الهجوم إلى الدفاع بعد أن قطعت عنها أهم خطوط الإمداد.
ولعل الظهور المفاجئ للقوى المدنية من خارج السودان تحت شعار ” لا للحرب” انطلق من سيناريوهين الأول تشكل وقفا لمعطيات الواقع الميداني الجديد بعد احراز الجيش تقدما نوعيا على طريق حسم التمرد في العاصمة، وهو الواقع الذي يعني سياسيا تحسين موقفه في أي مفاوضات قادمة قد تفضي إلى خروج الدعم السريع من المشهد السياسي والعسكري وبالتالي فرض الجيش سيطرة كاملة على العملية السياسية وفي ظل معطيات جديدة قد تجعل من التزامات الاتفاق الإطاري تاريخا غير قابل للتطبيق.
أما السيناريو الثاني، فقد احتمل أن تقود حالة الانهاك والتداعيات الإنسانية للحرب إلى تعزيز فرص الجهود الأفريقية والدولية لحمل طرفي الصراع إلى مفاوضات يسيطر عليها الجنرالات في الجيش والدعم السريع، والتي قد تنتهي باتفاق سلام يتشارك فيه الجانبان المتحاربان الغنائم على حساب الاستحقاقات السياسية بالمسار الانتقالي الديموقراطي، بما يجعل القوى المدنية الخاسر الأكبر في هذه التداعيات، كون مطالبها بانتخابات وحكومة مدنية ديموقراطية ستذهب مع الريح.
وفقا لذلك أرادت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وحلفاؤها بتحركاتهم الأخيرة تسوية الطريق لعودة جميع الأطراف بما فيها القوى السياسية المدنية إلى طاولة مفاوضات تضمن العودة إلى الاتفاق الإطاري الذي كانت القوى السياسية والعسكرية على وشك التوقيع عليه وتعرقل بعد الخلافات بين الجيش والدعم السريع على آليات الدمج وتوحيد الجيش.
قلب المعادلة
كان واضحا أن التحركات السياسية للقوى المدنية خارج السودان اثارت قلق الجيش الذي خاض مواجهات صعبة مع قوات الدعم السريع امتدت لحوالي ثلاثة أشهر وخلفت آثارا اقتصادية واجتماعية وإنسانية ثقيلة ليس اقلها مقتل وإصابة الآلاف وتشريد نحو 1.3 مليون مدني إلى داخل السودان وخارجه وتدمير واسع للبنى التحتية والمرافق الحكومية.
ومصدر القلق كان في التقارير التي تحدثت عن نيات القوى السياسية المعارضة تشكيل حكومة منفى ودعمها من الداخل بتظاهرات شبيهة بتلك التي قادتها قوى المعارضة قبل الحرب وكذلك في توقيت هذه التحركات التي جاءت مع بدء تحقيق الجيش انتصارات عسكرية ميدانية ملموسة وتزايد رقعة التأييد الشعبي له مقابل الرفض الشعبي للدعم السريع، الذي تكبد خسائر فادحة اقتصادية وسياسية، ما جعل تحركاتها محاولة لإنقاذ ما تبقى من الدعم السريع بعد أن ظلت تنتظر نجاح محاولته الإطاحة بمجلس السيادة الانتقالي وقادة الجيش الذين تتهمهم بالانقلاب على المسار الانتقالي الديموقراطي.
ووفقا لذلك جاءت دعوة قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، لقلب المعادلة رأسا على عقب بدعوته كل سوداني قادر على حمل السلاح إلى التطوع في صفوف الجيش، كخطوة استباقية استهدفت إجهاض التوجهات السياسية للمعارضة قبل أن تكبر وتحظى بتأييد دولي.
وما يعزز ذلك أن دعوة البرهان جاءت في وقت بدأت فيه القوى المدنية التحضير لتنظيم مظاهرات في المدن السودانية تحت شعار “لا للحرب” وهي التحضيرات التي توقفت كليا، بعد أن خرج المؤيدون للجيش في تظاهرات حملت شعارات ” لا للهدن ولا للتدخل الخارجي” في أول تحرك سياسي ميداني قلب المعادلة السياسية لصالح الجيش الذي عزز أيضا تحركاته الخارجية بإيفاد نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار في زيارات مكوكية شملت القاهرة وأنقرة وموسكو، بما أفضت اليه من دعم دولي لقوات الجيش.
أهداف عسكرية
بمقابل التحرك السياسي للجيش كان واضحا أن التسريبات التي تحدثت عن اعتزام قوى المعارضة تشكيل حكومة منفى مدعومة من قوى الداخل وتحظى باعتراف دولي، شجعت قادة الجيش على التقدم خطوات في المعارك الميدانية من خلال التسريع بوتيرة المعارك لطرد قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وإقفال الطريق أمام أي تحركات سياسية لقوى المعارضة في تأجيج الشارع بما قد يعقد من مهمة الجيش في تأمين العاصمة بصورة كلية.
وقد سجلت قيادة الجيش بتكتيك دعوة المواطنين للتطوع نجاحا لافتا، خلال الأيام الأولى التي شهدت انضمام نحو 40 ألف متطوع للجيش السوداني وسط إقبال واسع من المواطنين فاق التوقعات.
ومع ذلك يصعب فصل دعوة المواطنين للتطوع عن أهداف بعيدة عن البورصة السياسية، فالتكتيات التي اتبعتها قوات الجيش خلال الفترة الماضية أفصحت عن مساعيه لتقليص الفترة المتوقعة للحرب إلى أقصر مدى ممكن، كون طول أمد الحرب قد يؤدي إلى إنهاك الجيش وعدم القدرة على الحفاظ على تماسكه في ظل محاولات خارجية وداخلية لأحداث انشقاقات في صفوفه، فضلا عن المخاوف من أن يؤدي طول أمد الحرب إلى انضمام الجماعات المسلحة الأخرى إلى المعركة، وفقدان السيطرة في المرحلة القادمة بسبب ستسلح الجماعات الأهلية نفسها للدفاع عن النفس.
مواقف متباينة
على أن الخطوة التي شرع بها الجيش قلبت المعادلة وعززت فرص الجيش بالتماسك لفترة أطول مدعوما بحاضنة شعبية واسعة، إلا أنها عززت الشكوك لدى البعض في مدى قدرة الجيش على حسم المعركة لصالحه وما إن كان قد تكبد خلال الفترة والماضية خسائر فادحة اضطرته لاستدعاء قوات الاحتياط ودعوة المواطنين للتطوع، وأكثر من ذلك أنها أشارت إلى استعداد الجيش لحرب واسعة وطويلة لا يريدها السودانيون.
وأكثر من ذلك أن دعوة الفريق البرهان انطوت على قناعة لديه بأن هذه الحرب لا مناص منها وأن أمدها قد يطول إذا لم يتحرك الشباب السوداني لحمل السلاح ” كما أنها انطوت على تأكيدات رسمية بأن وقف الحرب في الوقت الراهن ليس ضمن أولياته.
هذه التفسيرات كانت على ما يبدو السبب في الإرباك الذي خلفته دعوة البرهان لدى بعض قادة الجيش الذين سارعوا للتوضيح بأن دعوة البرهان محصورة في قوات الاحتياط وليست دعوة مفتوحة للجميع، وهي توضيحات كشفت عن مخاوف أمنية من أن تتحول دعوة قائد الجيش في الدفاع عن السودان وإخماد التمرد، إلى معركة استقطاب قد تطال الجماعات المسلحة المحلية التي لم تشارك بعد في هذه الحرب.
ورغم أن الفريق البرهان برر حملة الاستنفار والتعبئة العامة التي يقودها الجيش السوداني حاليا بوجود مؤامرة تتطلب من الجميع اليقظة والاستعداد للتصدي للمهددات الوجودية لدولتنا ونيل شرف الدفاع عن بقاء الدولة السودانية التي تداعت عليها المؤامرات داخليا وخارجيا” فقد لوحظ وجود تيارات معارضة لها بنسب ضيقة اعتبرت دعوة الفريق البرهان، إقرارا ضمنيا بفشل عسكري وسياسي وأكثر من ذلك خطيرة ستؤدي إلى مزيد من الاقتتال وانزلاق البلاد نحو فوضى لا أحد يعلم مداها.
لعل هؤلاء كانوا يشيرون إلى المخاوف من حرب الاستقطاب الدائرة حاليا في الشارع السوداني بما تحمله من مخاطر تهدد السودان ووحدته، كونها ستكون السبب الأول في توسع رقعة الحرب وإطالة أمدها مع استمرار كل طرف باستقطاب المؤيدين والداعمين، بصورة قد تحولها إلى حرب أهلية طويلة سيكون من الصعب السيطرة عليها مستقبلا.
وهذه المخاوف لم تعد تكهنات، بل صارت واقعا معاشا بعد إعلان العديد من زعماء قبائل من جنوب دارفور، التحالف مع قوات الدعم السريع استباقا لنقل الجيش الحرب إلى إقليم دارفور حيث الحاضنة الشعبية لقوات الدعم السريع، وهو تطور من شأنه أن ينقل الصراع الدائر اليوم إلى مرحلة جديدة، ستكون بلا شك أكثر ضراوة من حرب الأسابيع الماضية.
ولعل أكبر دليل على فداحة الحرب القادمة ما حدث مؤخرا في جنوب دارفور التي سجلت أكثر جرائم الانتهاكات وحشية كانت موضع إدانات دولية وترافقت مع فرار نحو 30 ألف مدني نحو تشاد خلال الأسبوعين الأخيرين، فيما بدا تعبيراً واضحاً عن دخول المكونات الاثنية والقبلية في دوامة صراع يتوقع أن يكون الأعنف في تاريخ السودان الحديث.