اليوم يكثر الحديث عن النموذج الغربي في المستوى الثقافي والأخلاقي، تجد الكثير في منصات التواصل الاجتماعي يقوم بإجراء مقارنة بين أخلاقيات المجتمعات، وثمة آراء تقول إن العرب أصبحوا عبئا على الحضارة الإنسانية، وهذا التوجه كان من أهداف الغرب في استراتيجياته المعلنة وغير المعلنة، ويمكن للمرء القيام ببحث بسيط لا يستهلك وقتا في شبكة النت كي يصل إلى هذه الحقيقة المرة.
الجيل الجديد الذي نشأ في زمن الاضطرابات والحروب والقلاقل في المنطقة، غادر مربع المعتقدات وأصبح يشك في كل شيء، وكاد الكثير منهم أن يصل إلى مراحل الكفر الصريح، فالنماذج التي أمامه، نماذج غير سوية، ولا يرى مثالا إلا في الغرب الذي يحترم إنسانية الإنسان، ويسعى إلى تحقيق طرق ووسائل الرفاه بغض النظر عن معتقده وقناعاته الفكرية والثقافية، وقد أضحى الجيل الجديد ضحية لكل المستويات الأخلاقية والثقافية النشاز في واقعنا.
نحن اليوم مطالبون بالقيام بثورة ثقافية وأخلاقية واعية ذات بصيرة وقدرة على صياغة واقع جديد، وهذه الثورة لا تعني الجمود والثبات بل تعني مناقشة الظواهر والقراءة والنقد والتفكيك وصناعة البدائل القادرة على الثبات، ما لم تحدث الثورة الثقافية والأخلاقية فإننا سائرون إلى مصائر الفناء والموت والضياع والتيه، فالأمة اليوم – على وجه العموم واليمن على وجه الخصوص- على مفترق الطرق.
فالقوة اليوم ذات أبعاد متعددة، وتكمن في قوة الوعي، والفكر، والطريق، والمنهج، والمشروع السياسي والثقافي والاجتماعي الواضح المعالم، وفي القوة الاقتصادية، فالمرء كلما كان مكتفيا ومصنعا وغير معتمد على سواه كلما شعر بالقوة، يؤازر ذلك العقيدة العسكرية، والهوية الوطنية القادرة على الصمود أمام العواصف والأنواء، وبمثل ذلك تصبح المعادلة ذات قيمة في البناء الدولي، فصاحب الحاجة مستعبد، والسيد من مَلِكَ قرار نفسه، وحقق لشعبه كل متطلبات العيش الكريم .
كما أن عنصر العدل والخيرية من عناصر القوة في أي مجتمع، فالذات الفردية حين تشعر بقوتها وفاعليتها وبتوفر فرص البقاء، تعمل جاهدة على تفجير طاقاتها في مجال النفع العام، وحين تشعر بتهديد الواقع لها، تقاومه وتعمل على تقويضه، وهو الأمر الذي نعيش كل ملامحه اليوم، فالذات التي مالت إلى الآخر لم تمل إلا بحثا عن قيمتها في واقع أصبح يهدد وجودها الفردي، ولذلك أصبح الكثير يعمل تحت شعارات قاتلة، وتحولت الكيانات والتعبيرات إلى شركات أمنية، وشركات عسكرية، تعمل لصالح دول ومصالح دولية، شأنهم في ذلك شأن مقاولي الإنشاءات، يتلقون المواصفات ويقومون بالتنفيذ لتحقيق استراتيجيات دولية، هذه الاستراتيجيات تضع المقدمات للمقاولين فيقومون بتنفيذها، وهي على دراية كاملة بالنتائج التي سوف تصل اليها في ظرف زمني معلوم سلفا، فالعالم قد وصل إلى فضاءات معرفية متعددة، بها ومن خلالها يدير شأنه اليوم، فالمعرفة من ضرورات المراحل كلها، وكانت عنصرا مهما في صراع الشرق والغرب قبل تسعينيات القرن الماضي، لذلك كنا نلمس سباقا محموما بين الشرق والغرب في شتى الفنون، وبعد أن انتصر الغرب على الشرق سيطر الغرب على الموجهات المعرفية واحتكرها في دوائره الاستخبارية، ومال إلى إطلاق الشبكة العنكبوتية التي كان يحتكرها في دوائره الاستخبارية، وأصبحت في متناول الناس كل الناس، وصنع التطبيقات كبدائل من خلالها سيطر على وعي الناس والرأي العام الدولي، وعمل جاهدا على تصدير الهامشي والمبتذل والسطحي، ولذلك تجد مشاهير المرحلة من أراذل القوم والمجتمعات ومن سفهائهم، كل رصيدهم اللغوي كلمات الشتم التي يروجون لها في منصاتهم ويمنحون على فعل ذلك مزايا مالية كبيرة، في حين غاب أصحاب الرأي والمعرفة والفكر في حالة عزلة وإقصاء, ولا تكاد تجد لهم مناصرا أو متفاعلا في المنصات، ذلك أن من مبادئ الرأسمالية هو التضليل وتسطيح الوعي حتى تتمكن من الاستغلال المقيت لثروات الشعوب، والحال هذا مقروء في واقعنا اليوم وقبل اليوم لمن أراد التفكر والقراءة البصيرة بالواقع، فالتراجع في القيمة الموضوعية والفنية للفنون أصبح واضحا وجليا، والتراجع في المنتج الفكري والنقدي والنظري يكاد يكون في أدنى سلم الاهتمامات، والتراجع في صناعة المستوى الثقافي والأخلاقي أوصلنا إلى الحضيض، ولذلك أصبحنا عبارة عن عبارات تعبر من على ظهورنا مشاريع المستعمر دون وعي أو دراية، وربما بدراية، لكن تمر انتقاما من واقعنا .
فالعدو يعمل على تأكيد خاصية النسيان للتاريخ، وقبر الذاكرة في دهاليز الوجع اليومي، وطمس مصادر الوعي، وتسطيح المعرفة ولا بد لنا من اليقظة .
فلا يمكن اختزال حركة الثقافة في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة” كونها ليست جامدة أو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر، وينفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفراد في تكوينه.
ولذلك نقول أنه لا يجوز تحليل الوعي المجتمعي، من خلال مواقع طبقية أو آيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”، وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات لا يمسون فيها كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.