دولة المؤسسات بين الشريعة والقانون

يكتبها اليوم/ عبدالعزيز البغدادي

لست بحاجة إلى التذكير بمواقف من دفنهم التسلط بعد أن عاشوا في غيبوبة الغرور بمواقعهم العليا التي احتلوها في غفلة من الزمن وهُم مَن هُم ؛ وعلى أي حال ما تزال الغفلة تسيطر على كل من تشغله السلطة أو يشغلها لأن لها عند البعض كما هو واضح سحر يجعلهم يعيشون متاهة لا يدركون تبعاتها إلا بعد أن يغادرهم الكرسي اللعين أو يغادرونه مرغمين إلى ممتحَنٍ آخر بأوزاره وتبعاته وتبابعته الذين لايتبعهم أحد إذا جدَّ الجِدُّ ولا يدرك هذه الحقيقة المؤلمة إلا قلة ممن اختصهم الله برحمته واصطفاهم للتأمل في قدرته من المعتبرين بمن سبقهم بهذا الامتحان الأصعب ، قال أحد الإخوة المسؤولين لمن حاججه بضرورة احترام القانون في عمله : مالي وللقانون ، أنا ملزم بالشريعة ،هل يختلف هذا المنطق عن منطق داعش ؟!؛ غفلة عجيبة مستفزة تبين بأن ذلك المسؤول وأمثاله كثر وأقصد كبار المسؤولين يتعاملون مع الموقع الذي يحتلونه تعامل الملّاك لا تعامل المسؤولين ، ويجهلون أن روح الشريعة أكثر سعة وأكثر رحمة من القانون ، وكأن من وضع القانون لا علاقة له بالشريعة وقال آخر: (القانون مش قرآن) وهذه العبارة تنطوي على جهل واضح بالقرآن والقانون ومن يرددها من المسؤولين كمن يدعي بأنه صاحب الامتياز الحصري في تفسير القرآن والتخاطب باسمه ، ومعلوم أن القرآن كتاب هدي عام لم يتناول كل تفاصيل المعاملات ، وتسيير مؤسسات الدولة يعتمد على القانون بما يحتويه من قواعد وأحكام تفصيلية تخرج المسؤول من حالة التخبط والتوهان بين أقوال الفقهاء وآرائهم وأيها أرجح وتُلزمه بما ينبغي عليه فعله وهو يؤدي وظيفته ، ومن المؤكد أن المجلس التشريعي المفترض انتخابه من بين المؤهلين للتشريع هو من يقوم بمناقشة المذاهب المتعددة والآراء المختلفة واختيار الأنسب لتضمينها قواعد القانون وأحكامه ومبادئه ، وعلى السلطة القضائية والتنفيذية الالتزام بتنفيذها لا أن تشغل نفسها وتشغل الناس بما ليس من اختصاصها وهو مناقشة أحكام الشريعة وآراء واختلافات الفقهاء واجتهاداتهم المتباينة والمتضاربة أحياناً ،والمجلس التشريعي الحقيقي ينتقي من هذه الآراء والاجتهادات ما يحقق المصلحة التي تختلف من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى آخر، ومن أهم مزايا الشريعة الإسلامية بقاء باب الاجتهاد مفتوحا لتلمس رحمة الله وسماحة الشريعة التي تتمحور حول المصلحة المشروعة ومن القواعد الفقهية الموجهة لعمل التشريع : (أينما تكون المصلحة فثمَّ شرعُ الله).
لابد أن يفهم من يدير مؤسسة أو هيئة أن موقعه الرسمي ليس ملكه ولا ملك من وضعه فيه وأن السلطة التشريعية قد ناقشت أين تكمن المصلحة قبل أن تضمنها قواعد القانون الواجب احترامه، وهو الشكل الجديد المعبر عن المصالح الذي لا يتناقض البتة مع قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول ) ضمن الآية (59) من سورة النساء لأن ما كان يقوم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أعمال السلطة الدنيوية هو نفسه ما تقوم به اليوم مجمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تطبيقاً للدستور والقوانين وهذا التطور الطبيعي اقتضته الظروف والتطورات.
والمسؤول الذي يحرص على تطبيق القانون حينما يكون فيه واجب على المواطن ويتنكر له إذا تضمن حقا له إنما يسيء استخدام سلطته وإساءة استخدام السلطة جريمة يعاقب عليها القانون ، والتنكر للقانون من قبل أي وزير أو رئيس هيئة أو مؤسسة أو أي مسؤول مهما علت درجته أو دنت تعبير فج عن الرغبة في إبقاء باب المزاجية مفتوحا على مصراعيه ونفي واضح لأي رغبة في بناء الدولة الحديثة التي تقوم على احترام مبدأ سيادة القانون لمصلحة الجميع وعلى الجميع ، وأصحاب المواقع العلياء يجب أن يكونوا الأكثر التزاماً بهذا المبدأ واحتراما له وإلا فإن الانتقائية في تطبق القوانين من حيث الأشخاص الذين يطبق عليهم أو لهم عمل ينافي مبادئ الشريعة الإسلامية القائمة على مبدأي العدل والمساواة ، والعدالة في الدنيا ضوابط وقواعد وأحكام بها تقوم الدول ومن خلال تطبيقها تقاس العدالة الدنيوية التي تختص بها الحكومات والسلطات في الدنيا أما بعد ذلك فهذا يعود لفضل الله وكرمه ولا دخل لسلطات الدولة فيه ، والإسلام من أحرص الأديان على أن يكون المسلم حر الاختيار ، وأن تنمى لديه الثقة والأمانة ، ليكون شريكا حراً في تنفيذ ما عليه من التزامات مادية أو طقوس ، أي أنه المعني الأول بما عليه من التزامات إذا كنا بالفعل نريد تنمية حرية الاختيار لبناء مجتمع الأحرار لا مجتمع العبيد.
رحمة الله تملأ الكون حقاً * لو ملَكنا العقولَ والأبصارَ.

قد يعجبك ايضا