واقع الاقتصاد اليمني وسيناريوهات المرحلة القادمة في ظل الحراك التفاوضي القائم
د. يحيى علي السقاف
على مدى ثمان سنوات من العدوان والحصار الاقتصادي على اليمن، عمدت دول تحالف العدوان إلى تدمير كافة مقومات الحياة من منشآت إنتاجية وخدمية وبنى تحتية وقد واجه اليمن ظروفا اقتصادية واجتماعية وإنسانية وسياسية وأمنية وعسكرية غير مسبوقة بسبب العدوان والحصار والحرب الاقتصادية للعام الثامن على التوالي والتي أدت في السنوات الأولى من العدوان إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع المستوى العام للأسعار، مما خسر الأفراد ما يعادل أكثر من ثلثي دخولهم وتوقف جزء كبير من الأنشطة الاقتصادية وتوقف البرامج الاستثمارية الحكومية وجزء كبير من الاستثمارات الخاصة وانسحاب أغلب المستثمرين الأجانب وخروج رأس المال الوطني إلى الخارج بحثا عن بيئة آمنة وانخفاض الإيرادات إضافة إلى تكرار الأزمات الحادة في السيولة النقدية وفي الوقود والكهرباء؛ الأمر الذي يشير إلى أن اليمن يواجه وضعاً غير مسبوق في تدهور مؤشرات التنمية وتراجع أداء المؤسسات وتفاقم الأزمة الإنسانية، حيث تشير التقارير إلى أن ما يقارب (90 % ) من السكان تحت خط الفقر و(35 % ) منهم وصلوا إلى المرحلة الخامسة من المجاعة.
ومن المعلوم أن اليمن من الدول التي طالما عاشت سياساتها الاقتصادية في ظل تدخل الدولة المباشر والمفرط في جميع الأنشطة الاقتصادية وسيطرة القطاع العام بشكل تام على قطاع الإنتاج والخدمات والتجارة والسوق ما أضعف القدرة التنافسية للاقتصاد اليمني وأدى إلى عدم دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى اليمن والمتمثلة بصورة شركات كذلك عدم الاستفادة من الخبرات الدولية في جميع المجالات سواء كانت إنتاجية أم خدمية وبعد أن شرعت الحكومة في إقرار قانون الاستثمار وإنشاء الهيئة العامة للاستثمار اتجهت اليمن إلى تبني ثقافة السوق القائمة على مبدأ الانفتاح والمنافسة، ما يستوجب تبني بعض السياسات بهدف إصلاح الاقتصاد الوطني بجميع مفاصلة.
وتعكس خطط ومؤامرات دول العدوان لنهب الثروات السيادية في محافظات اليمن الغنية بالنفط والغاز خطورة الوضع القائم عالميا وإقليميا وبدرجة رئيسية أهمية تلك المحافظات جغرافيا واقتصاديا لعدة أطراف إقليمية ودولية وأن تنفيذ هذه الأجندات الاستعمارية بمثابة إعلان ومباركة صريحة وعلنية من دول العالم والأمم المتحدة بأن العدوان على اليمن يأتي تلبية لرغبة الكيان الصهيوني في السيطرة على الثروات الاقتصادية من النفط والغاز في اليمن بشكل خاص ودول الشرق الأوسط بشكل عام وأن هذا يعكس الحصار الاقتصادي والقرصنة على السفن في ميناء الحديدة، وما كل ذلك إلا تدمير ممنهج لليمن أرضا وإنسانا وفق مخطط أمريكي إسرائيلي خبيث تقوده أذرع إقليمية ممثلة بالنظامين السعودي والإماراتي ومن تحالف معهما لغرض السيطرة على اليمن وممراتها وموانئها الاستراتيجية ونهب ثرواتها وركائزها الاقتصادية .
وانطلاقا من خلال وضع تصور عن سيناريوهات للمرحلة القادمة في اليمن خاصة في ظل الحراك التفاوضي القائم من افتراض انتهاء العدوان والحصار على اليمن والوصول إلى تسوية تقوم على مسارين، الأول مسار التوقف المؤقت للمواجهات العسكرية مع دول العدوان من خلال الهدن الثلاث المتتالية التي سبقت ذلك من بداية إبريل من العام الماضي حتى يومنا هذا وما حققه الجيش اليمني واللجان الشعبية والقوه الصاروخية والطيران المسيَّر من انتصار كبير في جميع الجبهات، والمسار الثاني في المفاوضات الجارية بين الوفد الوطني ودول العدوان بقيادة السعودية وعبر الوسيط التفاوضي المتمثل بسلطنة عمان، ونظرا لعدم نضوج هذا المسار الأخير والتقلبات الشديدة التي تعتريه فقد حصرنا تحليل وتوقعات السيناريوهات المحتملة على سيناريوهين الأول سياسي والثاني اقتصادي كالتالي:
السيناريو الأول: انتهاء العدوان على اليمن والتوصل إلى توقيع اتفاقية تمهد لتسوية دائمة ووفقا لذلك تتوقف المعارك والمواجهات العسكرية في جبهات القتال بين تحالف العدوان ومرتزقته وبين الجيش اليمني واللجان الشعبية وبالتالي قد يعمل ذلك على الوصول لتهدئة دائمة وشاملة تبدأ كمرحلة أولى في تحقيق الاستقرار عن طريق معالجة الملف الإنساني وتنفيذ الاستحقاقات الواجبة التي طالب بها الوفد الوطني واعتماد التعويضات والتكاليف لإعادة إعمار ما دمره العدوان وكمرحلة ثانية إقرار مرحلة انتقالية لبناء المؤسسات العامة وتحقيق التنمية الاقتصادية.
ولكن ذلك سيكون مرهوناً حسب تأكيد لمجلس السياسي الأعلى بتنفيذ شروط الاتفاق ومنها خروج المستعمر من كل شبر من أرض اليمن وهذا خلاف أجندات دول العدوان الرامية إلى تقسيم المناطق التي تقع تحت سيطرتها إلى أقاليم متفرقة ووجود عوامل أخرى قد تعزز استمرار الصراع للواقع الذي أفرزته سياسة الاستعمار في مارب وعدن وحضرموت وشبوة من إنشاء مليشيات تتبع دول تحالف العدوان وهذا ما يجعل من إمكانية نجاح ذلك ضعيفة جدا وقد يكون منعدما نظرا لعدم الوصول لصيغة أسس مشتركة لعملية سياسية مستقبلية وسيبقى الأمر مرهونا في هذا السيناريو بشرط حسم الوضع الميداني عسكريا في جميع جبهات القتال وتحقيق النصر الكبير بإذن الله.
والسيناريو الثاني: يستمر التدهور الاقتصادي في اليمن في مفاقمة المعاناة الإنسانية ويتجلى ذلك بوضوح في انخفاض القوة الشرائية للريال اليمني وارتفاع مستويات البطالة والفقر وانقطاع مرتبات الموظفين وغالبا ما يركز الاهتمام الدولي العابر بالتدهور الاقتصادي في اليمن على القطاع العام ويتغاضى عن التحديات الضخمة التي يواجهها القطاع الخاص ومما لا شك فيه أن هناك حاجة ماسة إلى تسوية سياسية للملف الاقتصادي ولكن المشكلة تكمن في أنه من الصعب التوصل إلى اتفاق وتسوية اقتصادية طالما أن السيطرة على المنشآت الاقتصادية ومصادر الدخل والثروات السيادية من النفط والغاز في اليمن تأتي على رأس أجندات وأهداف دول تحالف العدوان وأن لها مصلحة خاصة في استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه، وبلا شك هي الطرف المسؤول عن الأزمة الإنسانية في اليمن، لأن أهدافها الاقتصادية تطغى في نهاية المطاف على اهتمامها بمعاناة الشعب اليمني، ويثبت على ذلك جهودها الدبلوماسية الكاذبة في اتفاقية ستوكهولم وعدم مصداقيتها في التنفيذ، وهو ما تترتب عليه خطورة الوضع الاقتصادي والإنساني في المرحلة القادمة إن وجدت تفاوضات وبناء عليه فإن اليمن تستعد لأسوأ سيناريو اقتصادي مستقبلا وهو الانهيار التام للاقتصاد اليمني وعملته المحلية وخاصة في المناطق المحتلة.
ولكن التكهن بعكس ذلك قد يكون بمثابة مهدئات وحلول مؤقتة تتمثل في تنفيذ بعض الشروط مثل توسع جزئي في فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة وصرف مرتبات الموظفين دون وجود أي ضمانات لاستمرار صرفها وكل ذلك يعود تنفيذه للمعادلة التي فرضتها حكومة صنعاء في توقف مسلسل نهب النفط اليمني والغرض من دول العدوان هو استئناف تصدير النفط والغاز وحاجتها لذلك نظرا للأحداث الدولية التي طرأت على المجتمع الدولي وتبقى الحقيقة هي أن الاعتماد الاقتصادي لدول العدوان على النفط والغاز اليمني يوفر مفاوضات ومساعدة قصيرة الأجل وحسب وليس حلاً شاملاً‘ واستقرارا طويل المدى للاقتصاد اليمني .
وما يؤكد ذلك أيضا هو سعي دول العدوان ومرتزقتها في فرض مزيد من الإجراءات المالية والنقدية الفاشلة وإغراق اليمن بالديون الخارجية بغرض زيادة فجوة الفوارق وزيادة التباينات للوضع الاقتصادي بين حكومة صنعاء وحكومة المرتزقة في عدن، ويعتبر ضمن وضع المعوقات لصعوبة التوصل مستقبلا لحل اقتصادي في اليمن، ويعتبر الحل للخروج من الأزمة الاقتصادية ومعالجة جميع الإشكاليات هو تفعيل الاقتصاد المقاوم والاعتماد على الثروات والمرتكزات الاقتصادية المتاحة كخطوة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي .
وعليه كان من الضروري التحرك لبناء اقتصاد قوي من خلال تغيير المفاهيم الاستعمارية المغلوطة في جميع المجالات المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولا يستقيم ذلك إلا من خلال أهداف وبرامج وسياسات ومعالجات ضرورية تعتمد على الإنتاج المحلي زراعيا وصناعيا وفق برنامج عمل يركز على أولويات تثبيت الاستقرار الاقتصادي في حده الأدنى ومواجهة العدوان والحصار الاقتصادي والحد من آثاره وتداعياته الكارثية وتعزيز صمود الجبهة الداخلية وتوفير كل ما يتعلق باحتياجات المواطنين الأساسية فعملية التنمية لا تقتصر على الإمداد ببعض الإسهامات على المستوى الاقتصادي والتقني وإنما الحضور الفعال والقوي للدولة من خلال وضع القواعد التي توضح كيفية استعمال هذه الإسهامات ذلك أنه بدون إدارة قوية لا يمكن الوصول إلى تنمية شاملة.
كما يتعين على الدولة لتحقيق استراتيجية عامة للتنمية، توحيد آفاق مستقبلية تعتمد على عنصري الموارد الطبيعية والبشرية، حيث تعتبر وفرتها وجودتها نقطة بداية المسار الزراعي والصناعي، خاصة ما يتعلق بالموارد الطبيعية التي ترتبط بالطاقة والعمل على التخطيط الاستراتيجي القائم على المعايير العلمية والخطوات العملية بمشاركة المجتمع وجميع المؤسسات الحكومية لإحداث تنمية مستدامة والاستفادة من التجارب الدولية في مجال التنمية والتركيز على البرامج التي تتلاءم مع بيئة الريف وإشراك جميع الأطراف في عمليات بناء الاستراتيجية الوطنية وفق المناهج الحديثة للتخطيط الاستراتيجي.
وكيل وزارة المالية
كاتب وباحث في الشأن الاقتصادي