تائه في مومباي


في العام 1853م انطلق من هنا أول قطار عرفته الهند وما زال منطلقاٍ نحو غايته في إيصال مئات الآلاف يومياٍ نحو وجهتهم كل ما تغير هم الركاب أما محطة مومباي فهي الأكثر تمسكاٍ بفنها ودقة إنجازها لقد صممها المهندس الانجليزي جورج ويتت بمناسبة زيارة أمير ويلز والملكة وها هي اليوم تعمل بدون أية مناسبات غير أن أحداٍ ما يريد الانتقال إلى مدينة أو مكان بعيد بتكاليف أقل وسرعة أكبر.. ذات المصمم قام بهندسة بناء محكمة القضايا الصغيرة وكما تقول وثائقها فإن كل القضايا تبدأ صغيرة ثم تكبر تختص هذه المحكمة بالفصل في القضايا قبل أن تتشعب, كم نحن محتاجون لمثلها فكل صراعاتنا تبدأ متناهية الصغر ثم لا تنفع معها محاكم الدنيا مجتمعة.
أرادت الملكة أن ترى قطعة من لندن تسكن قلب الهند وحققت لها هذه التحفة المعمارية محطة مومباي فهي ذات مظهر بريطاني بحت تشبه إلى حد كبير رجلاٍ انجليزياٍ يرتدي معطفاٍ وقبعة وابتسامة جاء للالتقاط صورة بزيارته لأرض بعيدة, في الأعلى توجد ساعة بجبن تدور ببطء يجعلك تعتقد أنها متأخرة عن الزمن وأنها لم تعد صالحة لاحتساب الوقت الحاضر وهو مجرد ظن فهي ساعة دقيقة الحركة حثت الهند دوماٍ على التقدم نحو المستقبل الذي يلخصه خبر نشرته وكالة الفضاء الهندية التي تمكنت من النجاح في مغامرة الوصول إلى المريخ لتصبح الدولة الثالثة التي تتمكن من ذلك, ما يزيد الخبر نشوة أن الجيران حاولوا لكنهم ما زالوا أبعد عن الوصول إلى مدارات الكوكب.
تجتهد الصين للوصول إلى هنا كجهادها في الفضاء لكنها لم تنجح على الأقل حتى الآن لا وجود كثيف لبضائعها ولا مشاعر إيجابية يحملها الناس بل هناك مخاوف من كل ما هو أجنبي أحياناٍ تتجاوز هذه المخاوف السلع التجارية إلى البشر أنفسهم, أشعر أحياناٍ بفراغات في أعين هندي ينظر نحوي وربما يحاول المطابقة بيني وبين ذلك العربي القاسي الذي لم يحسن معاملة نجيب راعي الأغنام الذي انتقل من كارلا في الهند إلى دولة خليجية بحثاٍ عن تحقيق حلمه في الثراء فوجد نفسه راعياٍ في مزرعة أغنام يقاسي آلام الغربة وضياع الحلم وقسوة صاحب المال الذي يفضل أغنامه على إنسانية نجيب, تصدرت هذه الرواية “أيام الماعز” قائمة الكتب الأكثر مبيعاٍ في معارض الكتاب العام الفائت ونال مؤلفها بنيامين العديد من الجوائز وحقق ثروة عوضته عن شقاء الغربة ومشقة النوم في حظيرة أغنام ليست له.
لم تصنع الرواية واقعاٍ جديداٍ في التعامل بين حضارتين متماسكتين العربية والهندية لكنها صنعت حذراٍ يبديه كل من يحزم أمتعته للرحيل إلينا بحثاٍ عن سبل للعيش.
خلال زيارتي للهند تمنيت القدرة على الاعتذار عن كل ما يبدر من قسوة في التعامل مع أناس مرهفون بأحاسيسهم لم أسمع أكثر من عبارة “لا تقلق” ولم أحلم بعدد الابتسامات التي تلقيتها بدون سبب وهي مصدر لاعتقاد البعض أنها من الفضاضة كما قال المفكر الهندي امارتيا صن فعندما كان يتلقى تعليمه في جامعة كامبريدج قالت له معلمته جوان ريبنسون “اليابانيون مؤدبون أكثر من اللازم وأنتم الهنود تتسمون بفضاضة زائدة أما الصينيون فهم على الوجه الصحيح” وقبل صن التعميم دون جدل لأنه إن رد على ادعائها سيكون قام بتأكيد نظرية المعلمة وسيعطيها دليلاٍ آخر لما تعتقد.
سرد هذه الواقعة جعلني أتذكر أن التصرفات لا تفهم دائماٍ بوجهها الصحيح بل يساء فهمها أحياناٍ كثيرة فالابتسامات التي تزين وجوه أغلبية الهنود خلقت معها العديد من قاطبي وجوههم الذين احتجت وقتاٍ لأعرف أنهم لا يقلون لطفاٍ عن سواهم, وفجأة قفز إليِ سؤال له شرعيته: أين اختفت هذه اللطافة في العام 2002 م في المواجهات العنيفة التي أخذت معها عشرات الضحايا من طرفي الخلاف هندوساٍ ومسلمين لسبب كان يمكن تجاوزه بدون الموت, تعيد التحليلات المحايدة حول الموضوع الأمر بالكامل إلى المتطرفين من الطرفين الذين أرادوا إشعال فتنة بين شركاء الوطن الواحد ليحققوا مكاسب سياسية وقد فشلوا في مرادهم.
في الانتخابات التي تلت الأحداث 2004 اعتذر الطرفان لبعضهما بطريقة لا تقبل اللبس انتخب الجميع ممثل الحزب الأكثر اعتدالاٍ في البلاد حزب المؤتمر الذي تتزعمه سونيا غاندي وتمضي به نحو مواطنة يتساوى فيها الجميع وقد حملت نتائج فوز هذا الحزب الخالي من كل متعصب مفاجأة ليس للهند وحدها بل للعالم خاصة بعد أن أقدم الحزب على اختيار رئيس للحكومة من جماعة السيخ وهم أقلية لا تتعدى نسبتهم الـ2% من إجمالي السكان ورئيس للبلاد من المسلمين وشكلت حكومة لا علاقة لها بالتقاسمات التي توسع الشروخ الطائفية وتوقظ الحروب الدينية .
في الهند يعلو الإنسان فوق المكان يصعب الاستمرار في الحديث عن الأماكن دون محاولات فهم الإنسان أولاٍ قد تكون سمة شرقية, ففي مومباي تغلب أمواج البشر موج البحر وتعلو طموحاتهم مستوى المباني العالية لا تهتم الهند بتشييد الأبنية وترى أماكن متواضعة تضم عقولاٍ رائدة وتحقق نتائج مذهلة على مستوى الإنجاز وفقاٍ لعبارة دقيقها قالها الزميل وليد البوكس فإن العالم كلما خطا إلى الأمام تحجز الهند لها مكاناٍ وهو يطابق الواقع بشدة فالمباني متناهية الصغر تخرج من أحضانها سلع وأدوات يصعب التصديق أنها أنجزت هنا.
تصمم أعظم برامج الكمبيوتر في غرف عادية يديرها عباقرة الهند الطامحون وهو ما دفع مايكروسوفت لإقامة أكبر مركز لها على المستوى العالمي بعد مركزها في الولايات المتحدة.
سعة النفس
ألم تنتج عشرات الأفلام الوثائقية لتخبرنا أن هذه المدينة الأكثر ازدحاماٍ على مستوى العالم يبدو الأمر في الواقع نقيض ذلك, ثم ألم يجتهد مصطفى الجبزي وهو دبلوماسي زار الهند منذ أشهر في إظهار كل ما ينفر من هذه الأرض جعلها شائكة حلبة للمصارعة لا بقاء فيها إلا للأقوى وهو ما غاب عن إدراكنا.
الجميع يمضي لا أحد يتوقف لا البشر ولا الآلات لثوانُ يكون الوقوف أمام إشارات المرور نادراٍ ما يحدث.. الاكتظاظ الذي لا يغيب يومياٍ عن شارع الزبيري وسط صنعاء مثلاٍ وفي التوقف القصير تدور الأسئلة من سيارة إلى اخرى يبحث أحدهم عن عنوان فيجيبه الآخر أو يمرر له السؤال إلى سائق آخر فيحاول أن يجيب قبل أن تأذن الإشارة بالانطلاق حقاٍ “الهندي الشغوف بالجدل ” كانت تصحبني هذه العبارة في مثل هذه اللحظات.
تلك الرقصات في كل فيلم عشرات الأغاني في كل فيلم هندي الشجارات التي لا تتوقف قادة العصابات الذين يشعلون الأرض لا أثر لكل هذا في الواقع, بين مئات التنقلات التي خضناها نادراٍ ما صعدت إلى سيارة وسمعت فيها أغنية يكتفي الناس بالغناء الذي توفره الأفلام يكتفون بالصراعات التي يخلقها المخرجون ويتفنون في صناعتها ويصبح كل صراع أو اشتباك هو جزء من فيلم حين تكسر القاعدة ويدخل اثنان في شجار وعنف يجتمع المارون في دائرة واسعة كتلك التي تكررها المشاهد السينمائية ويظلون يتابعون مجريات الأحداث لا يتدخلون للفصل بين المتصارعين حتى يقتنع الاثنان أن قرارهما لم يكن صائباٍ نتعامل مع الأمر كما لو كنا نشاهد فيلماٍ تفصلنا عنه شاشة تجبرنا على عدم التدخل لفض الاشتباك هذا ما تبرع به أحد الأصدقاء الهنود مزيحاٍ عني الحيرة .
ها هو صوت أذان الفجر يعلو في إحدى مآذن الحي الذي نسكنه ما أن يكمل المسلمون أداء فريضتهم حتى يعلو صوت جرس المعبد معلناٍ عن وصول متدين جديد فكل من يصل إلى المعبد عليه أن يتوقف ويحرك بإحدى يديه المسمار النحاسي المتوسط للجرس فيصدر صوتاٍ يوقظ من مازال نائماٍ, في الأوقات الأخرى من اليوم يبتلع ضجيج مومباي كل الأصوات الدينية بما فيها الأناشيد التي تصدر عن معابد تحتضن الأفراح والأحزان وتمارس طقوساٍ تثير غرابة لدى من يراها لأول مرة تنتشر المعابد في مبانُ مختلفة الحجم وتتضمن تماثيل ولوحات لرموز دينية مختلفة.. يصحو مالك الفندق الذي نزلنا فيه ليضع إكليلاٍ من ورود حول لوحة لرمز ديني وتطوف يده بمبخرة يصدر منها دخان كثيف حول اللوحة ثم ينهي طقوسه بوضع يديه على ثلاثة مواضع في وجهة أعلى الجبهة وعلى جانبي الوجه, في الشارع تتوقف دراجة نارية أو حتى سيارة أمام معبد مفتوح يمكن رؤية الرمز الديني فيه وتلقى التحية من المتوقف الذي يعود للانطلاق من جديد آخرون يكتفون بوضع الرمز الديني في سياراتهم أو منازلهم هناك من يضع أكثر من رمز على مقربة من مقود السيارة.
تتفق معظم ديانات الهند في تقديس الحياة ومعاملة كل المخلوقات بما لا يمس حقها في الحياة وتلتقي ديانات عدة عند تحريم أكل اللحوم فالهندوسية والسيخية واليانية وغيرها من الأديان تحرم حرمان أي كائن حي من التمتع بحياته فلا غرابة إذاٍ أن ترى الأبقار تتجول بخطوات واثقة من مكان إلى آخر تحرسها أعين الناس وطقوسهم أو أن تشاهد الحمام تحلق قريبة منك والغربان لا تخاف من خطواتك تجاهها لقد كان ابني ضياء ذو العامين من عمره مندهشاٍ من بقاء الحمام في أماكنها القريبة منه وهو يخطو نحوها ويلوح لها كي تحلق عالياٍ بينما هي تنظر نحوه باستغراب أيضاٍ كما لو أنها لم تعتد أن يلاحقها إنسان بغية إخافتها أو جعلها تطير وكانت تكتفي بالسير بشكل أسرع أو بالتراجع إلى الخلف حين تحس اقتراب يد الصغير منها لم تفكر حتى بالطيران هرباٍ.. يعيش الجميع بسلام واحترام متبادل ينتهون من تقدير البشر إلى تقدير الكائنات الحية الأخرى التي تراها في شوارعهم تقاسمهم العيش والأمان.
أعود إلى الأسئلة التي توقظها مومباي: هل ثمة علاقة بين قدرة الإنسان على التعايش مع جميع الكائنات وبين قدرته على العيش مع من يختلفون معه بالأفكار فقط¿ فمن لا يقبل العيش بوجود من يختلف معه بفكرة كيف سيقبل أن يرى كل لحظة مخلوقاٍ آخر يختلف عنه بكل شيء شكلاٍ ومضموناٍ ما لم ينته هذا التعايش بأن يصبح أحد المتعايشين وجبة للآخر¿
لا أحد هنا يمكنه أن يصدقك أن مدننا تخلو من كل مظاهر الحياة وأن حمامة وحيدة تحلق عالياٍ لا يمكنها الاستمرار في الحياة ما لم يكن هناك من يحرسها وما لم يكن طيرانها مرتفعاٍ بحيث لا تقدر أحجارنا وكراهيتنا اللحاق بها, لم أستطع رؤية حجر آخر في يد غير تلك التي في يد ابني الصغير رغم أني بذلت جهداٍ في تحريك عينيِ طويلاٍ.. بعد أسابيع تخلى ضياء عن البحث عن الحجارة وأصبح صديقاٍ لكل ما يتحرك.

قد يعجبك ايضا