منذ تنفس الإنسان اليمني الصعداء. في الأزل كان الفن أول شهقة حب رسم بها هواجسه ومخاوفه على جدار الكهف وجلد الحيوان ولوح الخشب .وعلى واجهات العمائر والمباني والأدوات والكتب والملابس وأخيرا على شاشة الكمبيوتر والهاتف المحمول، لتظل شاهدة على خصوبة القريحة اليمنية وثرائها الإنساني وحتى الزمن الغابر.. وكانت النقوش والزخارف والأقوال والتفنن في انتقائها البهار الذي يفتح الشهية لترتشف الأسماع والأبصار. ما قد يروي الظمأ من كلمات ومشاهد تصل بنا إلى نشوة الثرثرة كالأطفال …نعم هذا هو الحال الذي يستغرق الواحد منا في حضرة سيدة باذخة قررت أن تهبك جمالها بسخاء، خاصة إذا كانت هذه السيدة باقية على شبابها وطراوتها منذ أكثر من عشرين قرنا، وهي تختال بفتنتها على شرفة الزمن كامرأة تجتذب آهات المحبين وشهقات الغيرة والحسد، انها صنعاء القديمة. ناهبة العشاق من كل صوب. يرفعون لحضرتها تحية الدهشة والإعجاب فكيف لا وقد شهد العالم كله بأن هذه السيدة المهيبة من اجمل المدن في اليمن وفي شبه الجزيرة العربية، وصنفت كمتحف إسلامي رائع وتراث ثقافي عالمي. حيث أدرجتها منظمة اليونسكو في قائمة التراث العالمي عام 1986م. وسميت صنعاء القديمة بمدينة سام ابن نوح .الذي أسس فيها قصر غمدان
ما يثبت أنها من اقدم المدن.. كما تذكر الكتب والمؤلفات اسما آخر للمدينة هو مدينة آزال، وارتبط اسم فاتنتنا منذ أكثر من عشرين قرنا باسم صنعاء كما هو مثبت في الموسوعة السبئية وعلى هضبة منبسطة ترتفع عن سطح البحرو2150م، ولدت هذه السيدة يوم كان التاريخ يجهل التدوين ، وقد تحلقت بداية في رحم صغيرة لأرض واسعة امتدت تضاريسها وتنوعت ما بين هضاب كونها الصخر وسلاسل جبلية اختارها الزمن لتكون سوراً وحاميا يفصلها عن المناطق المحاذية من الشرق كالمحاذية من الغرب. وكأنما كتب على الصبية الشهباء منذ البداية أن تكون وسطا..
لقد نجح الأنسان اليمني الأول ،إنسان المدينة النواة، في أن يكتب الحماية لنفسه ولآلاف الأجيال من بعده، وتقوده غريزة البقاء إلى جعل صنعاء خطاً يهدف في ديموته إلى ربط الزمن الضارب وبالأيام الذاهبة نحو المستقبل، حين اختار أن يقيم سكناه على هذا الارتفاع الهضبي الذي تحيط به المنحدرات الغائرة من كل الاتجاهات وسكب عليها من العشق والجمال الذي تمتلئ بهما نفسه، ليري هذا الجمال للآخرين، من يمتلكون نفوسا نقية واستعدادا ذوقيا يهيئ لهم سبل الاستمتاع والاستئناس بهذا الجمال والتأثر به ،ولقد شهد التاريخ ولادة مدن كثيرة شبت وترعرعت وقوى وجودها في ممالك ومراكز حضارية مهمة، إلا أنه ما يلبث أن يطرق حزنا وهو يشهد مدنها الواحدة تلو الأخرى ، فكان له عزا ء حقيقي في صنعاء، وهي تعلن عن بقائها مستمرة في الحياة متنامية ابدأ كشجرة الياسمين السحرية، تتفتح نواراتها في الفصول كلها، كما يذكر ذلك الكاتب السوري وليد اخلاصي
من ينكر أن الأحماض العاتية التي تذيب المعادن العنيدة هي الأشد قسوة من الطبيعة، كذلك يمكن الاعتراف بأن هناك ما هو اكثر تأثيرا في الحياة نفسها افليس هو(حمض الزمن) ونتساءل عمن اذاب الحضارات والأمم والعمائر فطواها في باطن الأرض وغطى عليها بتراب النسيان، افلا يكون حقا هو حمض الزمن أتجاوز الحمض ذاك صنعاء، أم أنها لم تلق بىالا له بل تفاعلت معه، فاستمرت تنمو عبر السنين وتتطور على إيقاع الحضارات المتعاقبة عليها، كمطرقة تشكلها، فلا تمحوها، تغذي اسفنجتها الساحرة كي يتجدد شبابها في الحقب التالية، وهكذ ا اصبح لحمض الزمن وجه آخر مع صنعاء ، فلم يذبها عاجزا إيقاف استمرارها على طريق التجارة…
ربما لأن صنعاء تأخذ المكان المميز في قلب اليمن البلد والإنسان – اليمن ذلك الموقع الأخطر في العالم الذي يمثل حلقة وصل بين شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه، الأمر الذي جعلها مهوى جحافل الغزاة على مر العصور من فرس وأحباش وأتراك وغيرهم، من قبل ومن بعد، حملوا إليها الدمار، فما كان منها إلا أن حملتهم ذكريات القدرة على المقاومة والتمسك بالحياة ، وما كان على المدينة المعتقة بعطر التاّريخ الا الاستمرار في التفتح كزهرة ترتوي بماء الخلود..
وأشفق الأهل على سيدتهم حبا وخوفا فزنروها بسور عظيم من الطين والحجر، فكان يرد عنها طمع الغزاة وبات النطاق بأبوابه الستة المنفتحة على الجهات كلها أربعة منها في المدينة القديمة التي لم يبق منها سوى واحد هو الباب الجنوبي( باب اليمن )، وهذا الخط الدفاعي بسوره وأبراجه ومنشآته كان كإطار يحتضن لوحة
مازالت ريشة التاريخ، ترسم عليها خطوطا وظلالا من عمران إن وقوع صنعاء على الخط التجاري المنطلق من ميناء قنا في شبوه مروراً بمارب ومعين ثم الحجاز وفلسطين، جعلها أشبه بالشبكة التي تصطاد الثقافات المختلفة القادمة من الحبش والهند والصين وجنوب شرق أسيا، التي حملتها القوافل، وهي تحط في أكنافها كغنائم تغني حضارتها المتعددة الوجوه .
وانتشرت عشرات الخانات (السماسر) التي وصل عددها إلى ثلاثة وأربعين سمسرة، وهي بالإضافة إلى بقية الآثار كالأسبلة والأسواق والجوامع، زينت المدينة وربطتها بأمهات الحواضر العربية والإسلامية إن لم تكن صنعاء السباقة إلى تقديم النموذج والمثال . وقد استخدمت الخانات (السماسر) كدور للضيافة وإيواء الوافدين من كل صوب من تجار وطلاب معرفة ورحالة وزائرين وتفرد مكان لللاهثين وراء الآثار والتاريخ، وقد شدوا الرحال إليها يعاينون حقيقة المدينة الأسطورة، فكانت الدهشة ترتسم على عيونهم وأقلامهم التي تسجل الوقائع والحجر. كما كان للسماسر وظائف أخرى مثل التخزين والتسويق. وما زال البعض منها باقيا الى اليوم وكأنه أبن العصر لم تصبه شيخوخة كل تلك السنين، وهي تحمل ذكريات القادمين وهم يحولون تلك الأماكن إلى منتديات للمناقشة وتبادل المنفعة . ومن المعالم التي جاءت كنتاج فكر إنساني لتشارك بقية الآثار في تزيين صدر المدينة ..الأسواق.. الأسواق وهي محور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية من أهم وظائفها البورصة الإنتاج الحرفي عقد صفقات البيع والشراء خزن البضائع … وما زالت أسواق صنعاء القديمة تعج بالحياة والعمل وقد احتفظت لنفسها بمكانة المركز التجاري العريق للمدينة وحواضرها والمناطق المحيطة بها. وتألقت لعهود وكأنها من أكبر سوبر ماركات العالم القديم فالأسواق التي تفرعت في أكثر من جهة عن الجسد الطويل لمركزها حفلت بكل ما يحتاج إليه الإنسان يقصدها لمأكل ومشرب وعندما يفتش عن كساء .. أسواق مزركشة بالمنتجات والحرف من كل نوع شاركت في إعطاء المدينة أرضية لنمو الصناعة رديفة التجارة، اللتين حولتا المدينة إلى بؤرة اقتصادية اكتملت بتوسط المدينة لمناطق زراعية هي الأكثر إنتاجا في سائر البلاد
أهي إذن صنعاء، ذلك المطبخ الحضاري القائم، وقد استكمل وسائله لتقديم ذاته أيكون الخلود من صفاتها أو أنها عقدت صفقة البقاء منذ إنسان الكهف الأول إلى كائن النور المعاصر. ولاريب في أنه الى جانب الأسوار القديمة بأبراجها اليقظة ربما كان ثم شبكة سراديب مدت اذرعها كالأخطبوط في بطن الأرض لتصبح الممرات الآمنة تساعد المدافعين عن المدينة وتمثل منافذ آمنة يهرب منها الناس إلى خارج المدينة، اذا ما دهمها الخطر، وهكذا ارتبطت صنعاء القديمة ومن حولها كثير من الدور والمرافق بفضاء التحرير المحيط بها .. وما علينا الآن إلا أن نعترف بدها ء صنعاء في حماية أهلها
تضاريس الطبيعة والإنسان
وكانت التلال الطبيعية التي انتشرت في المدينة قد جاورتها أخرى مصطنعة فجعلت تلك التضاريس الطبيعية تشرف على ما مجموعه ثلاثة وأربعين رقعة زراعية ما بين مقشامة وبستان، وتمثل المساحة الخضراء للمدينة وتشكل خُمس مساحتها تغذيها مجموعة من الجداول ومجموعة من الآبار يصل عددها إلى واحد وخمسين بئراً ومن المعالم الأخرى أيضاً الحمامات البخارية التي يصل عددها إلى عشرة حمامات ساخنة ذات أصل حميري وارتبط اسم الحمام باسم الحارة التي بني فيها، مثل حمام الطواشي ،وحمام الأبهر، ومن الآثار التي كانت تحفل بها صنعاء القديمة
المرانع ويصل عددها إلى سبعة وعشرين مرنع، وهو مسار مبني من الأحجار أو الياجور لسحب المياه من آبار المدينة، بواسطة الحبال التي تجرها البهائم خاصة الجمال وإلى جانبها السبل التي كان يصل عددها إلى ستين سبيل، وسُميت بالمحسنة، وتعني بتوفير مياه الشرب لعابر السبيل وتزويد المباني التي ليس لها آبار إلا أن التضاريس الأهم التي ولدتها المجتمعات المحلية المتواترة أو أنها احتضنتها على مر العصور، فقد عبرت عن حضور تاريخي مدهش لترسم جانباً خطيرًا من الشخصية المحلية والآفاق الروحية للجانب المادي الملموس للمدينة ، وكانت تلك التضاريس في الآثار القائمة والشخصيات الإنسانية وهي تخلف ببصماتها افكارًا ومواقف وإبداعات لتصبح بمنزلة الأوسمة التي تعلق على صدر السيدة الجميلة ،فالآثار القديمة الباقية حتى اليوم هي التضاريس التي صنعها الإنسان كقطع هائلة من الحلي الحجرية، وقد حفظت للتاريخ هيبته الفاتنة، وقد توضعت تلك الآثار في المركز المديني الأول لتطوف من حوله العمائر والأسواق والحمامات العامة والسماسر لتظل شاهدة على روعة المعمار الصنعاني المتمثل في الجوامع والمساجد وهي تشع بالعاطفة على العمائر التي تحلقت حولها وتبسط لها الطاعة وقد منحتها تلك الصفة وحفظت مسيرة الزمن بأمانة منذ أيام بنائها، إلا أن الجامع الكبير هو من أهم الجوامع على الإطلاق وتأتي أهميته ليس من كونه من أجمل المعابد الإسلامية، بل لأنه من الحقائق الباقية الممثلةً لعظمة الزمن المتجسد في هذا الأثر الكبير، ولأنه ثانيا قد أمر ببنائه مباشرةً سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكونه من الرموز الدينية السابقة واللاحقة في تقلبها على المدينة ، ولقد قاوم الجامع كل الزعازع وبقى شاهداً على قيام أسس من الجماليات التي ساهم تضافر الإيمان مع الإتقان بزرعها في التربة الصنعانية، وبات الجامع الكبير يرمز إلى عظمة التوحيد في بناء مجتمع إنساني متكامل، وقد دلت زخارفه ونقوشه ومصندقاته من الداخل على رهافة حس ابن البلد المعمار ليؤكد أنه واحد من التضاريس البارزة ويستدعي استعراض التضاريس الصنعانية المتمثلة في إلا نسان، مئات الحجارين والبنائين والمزخرفين الذين كانوا الصاغة الحقيقيين لجواهر العمارة التي تجدها في الأبنية المشادة والزخارف والنقوش المتقنة ،فقد كون هؤلاء علاقة مبدعة ربطت بين البيئة الطبيعية والتنوع الروحي إلى تطويع الحجر والطين المشوي للحاجات الإنسانية ولتجلي الفن في التعبير عن ثقافة تؤكد وجودها بقوة، وإذا كانت موسيقى الطين والحجر قد أصبحت متعة للعين، فإن الإبداعات الموسيقية التي وطد أشجارها السامقة في الوجدان المحلي والعربي، مئات الملحنين والمغنين والعازفين وشكلت أعمالهم مجلداً موسوعياً من الفن والموسيقى العربي ، وليجعل من صنعاء واحدة من المراكز المهمة القليلة في أرجاء الجغرافيا العربية، وينبوعاً فياضاً من هذا الفن الجميل
وتلك الآثار الباقية مع العمران الحديث بمنزلة الجسد الصنعاني، فإن اللغة تمثل روحها المتجلية في مختبرها الخاص، وقد تفاعلت عبره وداخله العوامل المختلفة من ثقافات متعاقبة على المدينة، وستحظى اللغة بغرام المجتمع ونبضاته الروحية والنفسية والمادية التي كانت مشعل الحضارة، بحيث يضم معجم مفردات لهجة صنعاء التي احتوت مقابلتها مع غيرها، قواعدها ،أمثالها، حكمها،تهكماتها،تشبيهاتها،إستعاراتها،مجازاتها،كناياتها،تورياتها،جناسها،معتقداتها،خرافاتها،خطاباتها،سبابها تمجكاتها ،شعرها، مواويلها، اُغنياتها، الغازها، تصحيفاتها، معاضلاتها، دعواتها لفلان وعلى فلان، مزاجها، نوادرها، هنوناتها، مناغاة امهاتها، شدياتها، عاداتها، ملابسها، مطابخها، اهازيجها، قراها، بواديها، حارتها ألعاب سهراتها، تملقاتها، من نداء باعتها من أدبائتها وتعبيراتهم المدنية، من عكاكيز كلامها، من تندراتها، ومن العابها، ومن عنجهياتها، ومن لخماتها ،وكان في هذه الأحفورة اللغوية مدخل الى رسم لوحة بانوراميةً لشخصية صنعاء القديمة في عمق تجذرها التاريخي ..ويطالعنا دليلها السياحي .إاًن عدد الحارات داخل سور المدينة يبلغ 56 حارة. وهي مجموعة من الوحدات والمباني السكنية والتي تتكامل فيما بينها بمنظومة وظيفية حضرية. تشكل المباني السكنية عنصراً أساسياً من نسيج المدينة والمعمار الصنعاني، ويصل عدد المعالم الى حوالي 11777مبنى ومعلماً منها 9440مبنى سكني و2337محلات ومبان تجارية أما الجوامع والمساجد فيصل عددها الى46، جامعاً ومسجداً أهمها الجامع الكبير كما قلنا، تتوزع داخل محيط سور المدينة وتعتبر من أهم المعالم الدينية المرتبطة بأحداث تاريخية واجتماعية مختلفة. .
صنعاء…المكان والزمان
وحين اُتيح لصنعاء أن تتمدد في المكان والزمان والأمان لجأت المدينة في تسمياتها لشوارعها واحيائها وساحاتها الى استدعاء الأسماء التي كان لها دور بارز في تحولاتها، منها، ش هائل، ش على عبده المغني ،ش السلال، ش مجاهد، ش المقالح، حي الأصبحي . ميدان السبعين .حي شميلة حي السبعين بالإضافة الى انفتاحها على الكون العربي والعالمي لاختيار رموز ساهمت من أجلها منها مثلاً، شارع جمال عبدالناصر ثانوية ناصر، جولة كنتاكي ، وذهبت المدينة في عشرات الأسماء التي أطلقت على شرايينها الى مدن عربية منها ، ش القاهرة، ش بغداد، ش دمشق، ش بيروت، ش عمان، ش الرياض، ش أبو ظبي، ش الكويت، ش الدوحة، ش الجزائر، ش طرابلس، ش الرباط. ش. تونس..ش….
العطاء الخصب
أهي عاصمة العطاء، مدينة تقودك دوماً الى تلمس واقع خصب لنمو مجتمع مدني يكاد يتكامل بمدارسه ومكتباته وخاناته (السماسر) وأسواقه وحماماته واسبلته التي تسقي المقيم وتسعف العابر، وما نظام الوقف في تاريخ صنعاء الإسلامي بخاصة والديني بعامة إلا شبكة متكاملة متماسكة لبنية اجتماعية قدمت أشكالاً من التعاون والتكافل، ضمنت لطلاب العلم والمحتاجين والغرباء مساندة لا تنسى، وكانت الجداول ومياه الآبار شريان صنعاء التي وجدت لها مساحة من الزمن والمكان تتمدد فيها، فهل بات لصنعاء صفة أخرى غير الوفاء ..
كثيرة كثيرة هي مدن العالم الأشبه ما تكون بحكاية، أو رواية لها حدود مرسومة، أما صنعاء فهي كالملحمة التي يتوجها فصلً فتحت نهايته على الاستمرار والديمومومة، ملحمة أقدامها في تراب أرضٍ عذراء ورأسها يعانق الفضاء المترامي الأطراف
تصوير/حامد فؤاد