القضايا العالقة تضع الطرفين أمام اختبار النوايا

اتفاق بريتوريا للسلام.. هل يطوي صفحة الحرب الأثيوبية؟

مع بدء الحكومة الفيدرالية الأثيوبية سحب قواتها من المناطق التي كانت قد سيطرت عليها إقليم تيجراي شمالي اثيوبيا وتسليم متمردي الإقليم أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة للحكومة سيكون اتفاق السلام الموقع بين الجانبين في نوفمبر الماضي برعاية الاتحاد الافريقي قد تجاوز المرحلة الحرجة التي ظلت تعرقل تنفيذ بنوده خلال الشهرين الماضيين وسط مخاوف من انهيار الاتفاق الذي يعول عليه بإنهاء أكثر الحروب دموية في القرن الأفريقي.

الثورة / أبو بكر عبدالله

في حضور دولي اتخذ دور الضامن هذه المرة، بدأت السلطات الأثيوبية تخفيف إجراءات العزلة التي تفرضها الحكومة على إقليم تيجراي منذ منصف العام 2021م من خلال فتح المعابر لدخول قوافل المساعدات الإنسانية إلى سكان الإقليم البالغ عددهم 6 ملايين نسمة، بالتزامن مع بدء المتمردين تسليم الأسلحة الثقيلة إلى الحكومة الفيدرالية.

وطبقا لإعلان وزيرتي الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ونظيرتها الفرنسية كاترين كولونا، فإن اتفاق بريتوريا للسلام الموقع بين الحكومة الأثيوبية الفيدرالية ومتمردي حركة تحرير تيجراي، مرشح للمضي قدما، كحصيلة للجهود التي قادها الاتحاد الافريقي خلال الشهور الماضية، في إطار مساعيه لإنهاء عامين من الحرب الأهلية التي خلفت خسائر كبيرة ومأساة إنسانية في الشمال الأثيوبي ليس أقلها نزوح أكثر من مليوني إثيوبي من قراهم في ظل تفاقم أزمة المجاعة الناتجة عن الجفاف.

لكن الثابت أن اتفاق السلام لم يأت كخيار داخلي من جانبي الصراع بل محصلة لضغوط أمريكية وأوروبية قوية مورست على الحكومة الأثيوبية المتطلعة لعودة المساعدات الخارجية التي تمكنها من تجاوز تحديات آثار الحرب واستكمال مشروع بناء اثيوبيا الحديثة، وعلى متمردي حركة تيجراي، الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على الاستمرار في دوامة حرب مفتوحة، في ظل الخسائر الميدانية الكبيرة، للحرب التي حصدت أرواح ما بين 350 ـ 500 ألف نسمة من الجانبين وتصاعد المعاناة الإنسانية للمدنيين بصورة غير مسبوقة بفعل الحصار.

ومن جهة ثانية كان واضحا أنه لم تعد لدى طرفي الصراع الرغبة في عرقلة جهود الوساطة الأفريقية بعد أن أجهضت مواقفهما المتشددة المحاولات التي بذلتها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لوقف الحرب وإحلال السلام خلال عامين.

هذه التداعيات منحت الوساطة الأفريقية أرضية صلبة لقيادة محادثات مثمرة في بريتوريا عاصمة جنوب أفريقيا، أفضت إلى توقيع اتفاق للسلام مطلع نوفمبر الماضي، أوقف الحرب المستعرة منذ عامين، كما دشن عمليات الإغاثة الإنسانية وتدفق المساعدات التي حُرم منها سكان الإقليم الشمالي خلال الفترة الماضية، بالتزامن مع عودة بطيئة للخدمات الأساسية إلى الإقليم المنكوب.

بنود الاتفاق

مثّل اتفاق بريتوريا نجاحا دبلوماسيا كبيرا للاتحاد الأفريقي، بعدما أفلح في حمل طرفي الصراع الحكومة الفيدرالية الأثيوبية برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد وممثلين عن متمردي جبهة تحرير تيجراي إلى وقف شامل لإطلاق النار وضع نهاية لحرب دامية، وُصفت بأنها “واحدة من أكثر الحروب دموية في العالم”.

وتكمن أهمية الاتفاق في أنه وضع أسسا متينة لهدنة تجاوزت اختلالات اتفاق السلام الأول الذي انهار منتصف العام الماضي وتلاه تصاعد مريع لأعمال العنف أدى إلى نزوح ما يقرب من 574 ألف مدني، وقتل ما يقرب من 100 ألف آخرين خلال أسابيع، قبل أن يعاود الاتحاد الأفريقي برئاسة مبعوثه الأول أولوسيغون أوباسانجو والرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، جهودا لوقف النار وتبني  مشروع جديد للسلام تم توقيعه أواخر العام الماضي في بريتوريا واختتم ببيان مشترك من جانبي الصراع أكدا فيه ” على قرارهما إسكات البنادق بشكل دائم وإنهاء عامين من الصراع”.

وهذه المرة تم توسيع الاتفاق الذي جاء بديباجة و15 مادة تبدأ بأهداف الاتفاق والمبادئ العامة التي يقوم عليها وقف إطلاق النار في التعهدات من كلا طرفي الصراع بـ “تنفيذ الاتفاق بحسن نية وتجنب أي محاولات لتقويضه”.

لبى الاتفاق إلى حد كبير مطالب الحكومة الفيدرالية، إذ نص على احترام جبهة تحرر تيجراي، سلطة الحكومة الفيدرالية في مناطق الإقليم وقبولها مقتضيات “التفويض الدستوري للحكومة الاتحادية” بإرسال الحكومة القوات العسكرية والأمنية إلى تيجراي، والالتزام بعدم تجنيد قوات عسكرية أو تدريبها أو نشرها، أو عمل “استعدادات عسكرية” واحترام السيادة الإثيوبية وعدم تقويضها سواء من خلال جبهة تحرير تيجراي أو من خلال “العلاقات مع القوى الأجنبية”.

والأهم من ذلك نزع سلاح المتمردين وتسليم السلاح الثقيل للحكومة الأثيوبية وعودة نفوذ الحكومة الفدرالية إلى عاصمة الإقليم، والتزام جبهة تحرير تيجراي، بعدم اتخاذ أي إجراءات من شأنها فرض أي تغيير في الحكومة بوسائل غير دستورية والالتزام الكامل بمبادئ الدستور الاتحادي الأثيوبي، ونشر الحكومة الفيدرالية قوة الدفاع الوطني الإثيوبية على طول الحدود الدولية لإثيوبيا.

وفي المقابل الزم الاتفاق الحكومة الفيدرالية وقف جميع العمليات العسكرية ضد مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وإعادة ربط الإقليم بالخارج بالتزامن مع سحب القوات المسلحة الأجنبية أو غير الفيدرالية التابعة للأقاليم مع مناطق إقليم تيجراي وإعادة الخدمات الأساسية والضرورية إلى الإقليم في أسرع وقت ممكن، والتوقف عن تصنيف جبهة تحرير تيجراي كمجموعة إرهابية، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق إلى سائر مناطق الإقليم.

كما نص الاتفاق على مشاركة جميع الأطراف الموقعة بجهود حماية سيادة وسلامة أراضي البلاد وأمنها من التوغل الأجنبي، والتأكد من أنه لن يكون هناك أي استفزاز أو توغل من أي من جانبي الحدود، على أن تتولى السلطات الفيدرالية “السيطرة الكاملة والفعالة” على جميع مجالات الطيران والمطارات والطرق السريعة في تيجراي مع تعهد الطرفين بحل قضايا المناطق المتنازع عليها بطريقة تتوافق مع دستور إثيوبيا.

وزيادة على ذلك فقد تضمن الاتفاق آليات مراقبة وتحقيق وامتثال أوكلت إلى وحدة صغيرة مكونة من 10 مراقبين كحد أقصى يشكلها الاتحاد الأفريقي على أن تقدم وحدة المراقبة تقاريرها إلى لجنة الاتحاد الأفريقي التي يرأسها الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو.

استجابة جماعية

كان واضحا منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق أن الأطراف الموقعة استجابت لجهود الوساطة الأفريقية للتخلص من حدة الضغوط الأمريكية والأوروبية، كما هو الحال مع الحكومة الأثيوبية، أو للحصول على فرص لإعادة ترتيب الأوراق أو لالتقاط الأنفاس أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما هو حاصل مع جبهة تحرير تيجراي التي وقعت الاتفاق وهي محاصرة في مدينة مقلي بعد خسائر فادحة تكبدتها على ايدي القوات الحكومية كادت أن تفتك بأكثر قيادات المتمردين ومجموعاتهم المسلحة.

هذا الأمر بدا واضحا في التصريحات التي أعلنها رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد الذي أعلن غداة التوقيع أن التوصل لهذا الاتفاق كان “عملاً هائلاً في دفع إثيوبيا إلى الأمام على طريق الإصلاحات” كما برز بصورة واضحة في وصف بعض الأطراف السياسية في إقليم تيجراي الاتفاق بأنه “اتفاق استسلام” ومطالبتهم بضمانات امنية واضحة قبل القاء الجبهة للسلاح.

وساهم قرار الرئيس أوباسانجو بوضع الحضور الأمريكي الأوروبي كضامن للاتفاق بتشجيع طرفي الصراع على التوقيع وتجاوز المخاوف المتبادلة من جانب الحكومة التي تتهم أطرافاً خارجية بدعم المتمردين وكذلك من جانب المتمردين الذين اشترطوا ضمانات دولية للحماية مقابل شروعهم في تسليم السلاح الثقيل للحكومة الفيدرالية.

زد من ذلك الدور الذي لعبته تاليا بعض القوى الدولية وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت ضمانات لقادة متمردين تيجراي مقابل التوقيع على الاتفاق وتعهدها بالإسهام بدور أكثر حضورا وفعالية في مرحلة التنفيذ.

مخاوف داخلية

رغم أن الاتفاق دخل حيز التنفيذ قبل أيام دون مفاجآت إلا أن المشهد العام لم يخل من مخاوف متبادلة من وجود قوى داخلية لديها حسابات خارجية أو مدفوعة بنزعات اثنية قبلت اتفاق السلام على مضض واضطرت لتوقيعه تحت ضغوط خارجية، دون النظر إلى المكاسب الوطنية الكبرى التي تحققت بوقف نزيف الدم المستمر منذ عامين.

هذا الأمر كان قد عبَّر عنه رئيس إقليم تيجراي دبرصيون جبر ميكائيل الذي أكد بعد أيام من التوقع على أن اتفاق السلام الموقع افتقد إلى الآليات التنفيذية، ما يستدعي التفاوض حول هذه الآليات، كما عبَّرت عنه التقارير الحكومية التي تحدثت عن تحركات عسكرية من جانب متمردي حركة تحرير تيجراي تلوح بالإطاحة باتفاق السلام بعد تحريك بعض وحداتها العسكرية في منطقتي راية والماتا، وهما منطقتان كانتا موضع خلاف بين تيجراي وإقليم الأمهره المجاور، حيث شرعت هذه القوات بالانتشار وحفر خنادق استعدادات لمواجهات محتملة، فيما اعتبر تحركاً مهدداً لاتفاق السلام الذي لم يجف مداده بعد”.

لكن الجهود الافريقية والدولية افلحت في تطويق هذه التداعيات بمفاوضات تكميلية شهدتها العاصمة الكينية نيروبي خففت إلى حد كبير من المخاوف التي عبَّرت عنها بعض الأوساط السياسية في إقليمي تيجراي وأمهره، بما في ذلك مصير القوات الاريترية والضمانات الأمنية التي تطالب بها جبهة تحرير تيجراي قبل إلقاء السلاح.

تحديات مستقبلية

يمكن القول إن أفضل ما حمله اتفاق بريتوريا للسلام هو وضعه جميع الأطراف أمام اختبار النوايا تجاه المصالح الوطنية ومصالح الشعب الأثيوبي الذي تجرع الويلات في هذه الحرب، ومدى قدرتها على تجاوز الحسابات الصغيرة للتحالفات التي لم تعد أثيوبيا بحاجة إليها اليوم في ظل التجربة الديموقراطية الناجحة والدستور الفيدرالي الذي أنهى إلى حد كبير فرص الصراعات الأثنية في بلد متعدد القوميات.

ولعل العنصر الإيجابي في الاتفاق أنه استبعد الطرفين من لجان المراقبة التي أوكلها إلى وحدة خاصة يديرها مبعوث الاتحاد الافريقي حيث سيكون تقييم تقارير الانتهاكات والفصل في النزاعات وفقا لتقديرات رئيس الاتحاد الأفريقي موسى فكي وممثله الرئيس النيجيري السابق أوباسانجو، وهي آلية رقابة غير عادية ستمنح الاتحاد الافريقي فرصا أكبر لمحاصرة أي تداعيات ميدانية محتملة.

مع ذلك ثمة مخاوف بأن هناك العديد من القضايا لا تزال عالقة في ملف السلام يتصدرها موضوع مشاركة القوات الأريترية في الحرب ومدى قدرة الحكومة الأثيوبية على تفكيك التحالف القائم بينها والقوات الإريترية، بل ومدى قدرتها على إخراج تلك القوات من الأراضي الأثيوبية استجابة لمطالب متمردي تيجراي الذين يرون في وجودها في الأراضي الأثيوبية دون تفويض من الحكومة الفيدرالية انتهاكا للسيادة.

ورغم أن إريتريا لم تُذكر بشكل صريح في اتفاق السلام الموقع، غير أن الاتفاق تضمن بندا نص على إنهاء “التواطؤ مع أي قوة خارجية معادية لأي من الطرفين” وهو ما يمكن أن يشير على الأرجح إلى إريتريا.

يضاف إلى ذلك مشكلات الجزء الغربي من إقليم تيجراي الذي اجتاحته قوات تابعة لإقليم أمهره المجاور خلال الفترة الماضية وهي المنطقة الخصبة التي تتبع إداريا إقليم تيجراي ويعتبرها حكام إقليم أمهره “أرض الأجداد”.

لكن العنصر الجيد في اتفاق السلام الجديد أنه منح المزيد من الثقة للحكومة الأثيوبية باستبعاده الأمم المتحدة تماما من الاتفاق الذي رعاه بصفة حصرية الاتحاد الأفريقي للقيام بالمهمة، مع السماح للأمم المتحدة والولايات المتحدة والهيئة الإقليمية لشرق أفريقيا بالحضور بصفة مراقبين، دون أن يوقع أي منهم على الاتفاق.

مع ذلك يبدو من الواضح أن فترة عامين من الصراع المرير بخسائره الكبيرة، خلفا قناعات لدى الحكومة الفيدرالية الأثيوبية وزعماء اقليم تيجراي بأهمية التمسك بخيار السلام في ظل تنازلات وضمانات يمكن أن تمنح اتفاق بريتوريا القدرة على الصمود والمضي نحو مرحلة جديدة في تاريخ هذا البلد الذي يواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة.

قد يعجبك ايضا