يُقال أن إدارة الصراعات من أصعب المهام على وجه العموم، فصغائر الأخطاء فيها قد تصبح من العظائم وقد تترك أثراً نفسياً واجتماعياً وثقافياً مدمراً ولذلك فإن الذين يديرون مثل ذلك الصراع لابد أن يكونوا استثنائيين ومتميزين وحالة التميز والتفرد ليست حالة اعتباطية ولكنها تتطلب جهدا عضليا مضاعفا ونشاطا ذهنيا متوقدا وقرارا حاسما متى كانت الضرورة قد فرضته في واقعها الاجتماعي.
ويبدو أن اليمن يعيش وضعا لا يحسد عليه، فالأطراف السياسية التي كان يفترض بها أن تكون عونا له أصبحت عبئا على المرحلة والاستقرار وعلى عملية الانتقال في حد ذاتها فالصراع على الأرض ونتائجه كاد أن ينحرف بمسار التسوية السياسية والاستغراق في الحالات الانفعالية قد يفضي إلى المزالق الخطرة والمدمرة والذين وقعوا تحت حالة (عمه الطغيان) لم يفكروا بالعودة إلى حالة الاستقرار النفسي وتغليب العقل والحكمة والمصلحة الوطنية العليا، فالثأر السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف السياسية لم يخرج من دائرة الطغيان ودائرة العنف إلى دائرة العقلنة التي يجب أن تكون سمة غالبة في المراحل التي يهددها الانهيار واختلال القانون العام والطبيعي.
اليمن مر تاريخياً بحالات مماثلة للحال الذي هو عليه اليوم وإدراك كنه التاريخ وحقائقه الموضوعية يجعلنا أكثر وعيا باللحظة وبالتالي أكثر إدراكا ووعيا وسيطرة على المستقبل ولا يمكن الوصول إلى مرحلة الوعي الحقيقي دون شعور وطني جامع بالإشكالية ودون شراكة وطنية عالية القيمة والمسؤولية والوعي ودون توافق على المشترك واصطفاف كامل للخروج من إشكالات اللحظة إلى سعة الانتماء والتنافس الحضاري القائم على البناءات الناهضة للمشاريع السياسية الحقيقية، فالثأر السياسي الذي يستغرق نفسه في الموت والفناء والتدمير بقيم سلبية مدمرة وقاتلة يمكن أن يتحول إلى قوة إيجابية وطاقة ناهضة من خلال البناء على المشروع السياسي التنافسي الذي يرى في منظومة فشل تجربته قاعدة انطلاق نجاحه في المراحل القادمة والقضية ليست صعبة فالطاقة الانفعالية المدمرة بقليل من التفكير قد تصبح طاقة حياة من خلال الاشتغال على فكرة المشروع، فالسياسة ليست غنيمة كما هي في محددات العقل العربي القديم، بل هي عملية إنتاجية تفاعلية ناهضة، وقيمتها تكمن في حركتها وتطورها وفي نهضة المجتمع وأسس تنميته وتفاعله الحضاري بصورة إبداعية وابتكارية لا اجترارية كما كان يحدث في الماضي، وأمام مثل ذلك فقد أصبح الخروج من وعي المؤامرة ووعي الأزمة ضرورة اجتماعية وسياسية في الآن معا، إذ إننا في حال ارتهاننا لمثل ذلك الوعي – أقصد وعي المؤامرة ووعي الأزمة – لن نبرح مكاننا فالجديد وتبدل العلائق والمصالح وعلاقات الإنتاج وأدواته صيرورة زمنية وحضارية وثقافية، وحالة من حالات الانتقال والتدافع ولن تكون مؤامرة، ومثل ذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها خوف الثبات وخوف الفساد في الأرض.
ومن يظن في نفسه القدرة والذكاء على دفع فطرة الله والتجديف ضد سننه فقد وقع في الخطأ، ولا سبيل لكل الماضي الذي كان في رخاء ونعيم إلا التكيف مع الجديد والتفاعل مع أدواته وعلائقه وبصورة أكثر تناغما، وأكثر إدراكا له، أما سبيل الدم ومفردات الموت والفناء فلن يكون إلا سبيلا خاسرا، فالدلالة الرمزية إلى المسارعة إلى دار النعيم والخلود ليست بالموت وإراقة الدم، ولكن بالعمل وبالابتكارات الإبداعية التي تحمل نفعا للبشرية لا دمارا لها، ولا أظن اليمن التي شهدت كل ذلك الدم المراق على ترابها بحاجة إلى المزيد منه، ولكنها بحاجة إلى الحياة والاستقرار والأمن من الخوف وكذا الأمن من الجوع، ولن يتحقق لها ذلك طالما ظل كل طرف سياسي يتربص بالآخر الدوائر، وطالما ظل الاستقرار حالة جدلية تديرها ردود الأفعال والشعور الطاغي بالخوف من الآخر.
من الخصائص الجوهرية للإسلام أنه أشتغل على اليقين وعلى السلام وهما خاصيتان لو تحولتا إلى ثقافة لأصبحنا أمة ذات شأن عظيم بيد أننا أهملناهما وانشغلنا بالصغائر ولو انشغلت عليهما الأطراف السياسية الوطنية اليمنية لأصبح اليمن ذا شأن عظيم متصل الحلقات بماضيه الحضاري، وقادر على التفاعل مع المقومات الحضارية والثقافية الحديثة، يعي لحظته الجديدة ويؤمن بالتعدد، وبحرية الآخر، وبحقه في الحياة والعيش الكريم.
وثمة تجارب في عالمنا المعاصر يمكن التأمل فيها كتجربة الهند إذ يرى الكثير من المفكرين أن الهند نجحت في التعالي على الأجانب لا عبر هدايتهم إلى الديانة أو الثقافة الهنديتين بل عن طريق التعامل مع تطلعاتهم بقدر رفيع من الاتزان ورباطة الجأش، فقد دأبت على التعامل مع المستويات الحضارية الجديدة وأذابتها في بوتقة الحياة الهندية دون خوف، فعظمة الهند تكمن في قدرتها على التحدي ضد أي تأثير غريب ولذلك فرضت تأثيرها وشروطها على النظام العالمي الجديد، وهي تجربة إنسانية فريدة يمكن الاستفادة منها، وإن كان لدينا أسس هذا النوع من التعايش تجسدت بذرته في «وثيقة المدينة « لكن الفكر العربي ظل محكوما بالنص، ولذلك تقيدت حركة تطور المجتمعات.
وحتى نعي المستوى الحضاري الجديد الذي وصل إليه البشر لابد أن نسلم بالحقيقة الجوهرية الثابتة التي ترى أن الفكرة الدينية فكرة ثابتة لا يمكنها التغير في بعديها العقائدي والأخلاقي بقطعية النصوص، ولكن المشروع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قابل للتحول والتبدل ويمكن ابتكاره وإبداعه من تفاصيل الزمن الحضاري، ولذلك فقضيتنا لا تنحصر في موضوع الدعوة وفرض ثقافتنا وعقائدنا على الآخر فقد حصرها النص الديني بالبلاغ والبلاغ قابل للتحقق من خلال المشروع الاجتماعي والسياسي وشواهد التاريخ دالة على ذلك.
Prev Post