أمام عظمة الشهداء الأبرار الكرام يجف مداد الأقلام خجلاً، وفي حضرتهم ينعدم الحِبر وتفنى الكلمات، وتنهمر دموع العين من فرط الشوق والحنين واللوعة وَالفراق، فتمتزج دموع الاشتياق بدموع الرضا والتسليم وابتسامة الحمد والشكر لله رب العالمين، الذي وفَّقهم للفوز واصطفاهم من بيننا شهداء، ومن هنا ومن حَيثُ نحن نزفّ إلى مقامهم الطاهر العظيم وَمن صميم قلوبنا أرق التهاني وأعظم التحايا ونهدي أزكى سلامنا إلى أعظم وأصدق وأوفى الرجال الأحياء الكرام في دار الخلود، من يشاركونا إحياء المناسبة وهم في عليائهم، من أرخصوا الأنفس والأرواح والدماء فداءً لدين الله والوطن، إلى من تحملوا المشاق والمعاناة وخاضوا غمار المعارك حفاظاً على دين الله وعلى عزة وكرامة هذه الأُمَّــة، إلى من صمدوا وثبتوا في الجبهات وتحملوا المشاق وقاسوا الصعاب وعانوا البرد والجوع والعطش والتعب والسهر في سبيل الله بلا تشك ولا ضجر ولا ملل، إلى شهدائنا الذين فارقونا وتركوا جوار الأهل والأحباب والأولاد وفضّلوا جوار الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد آتاهم الله من فضله وكرمه وأن هذا لهو الفوز العظيم والشرف الكبير.
ففي ذكرى الشهداء نحيي ذكراهم وهم الأحياء المخلدون الباقون فينا والذين لم يغادرونا، وهم الحاضرون معنا والموجودون بيننا، حَيثُ ونحن نرى أن كُـلّ أيامنا ذكرى الشهيد وَالمفقود نعيش معهم ويعيشون معنا في كُـلّ لحظاتنا، نشتاقهم نحِنُّ إليهم، نذرف الدموع لفراقهم، ونحن ملتزمون بوصاياهم، متمسكون بأهدافهم، وسائروت على النهج الذي ساروا عليه، وثابتون على ذات الخط الذي رسموه لنا بدمائهم الطاهرة الزكية، نحيي ذكراهم لنحيا مجددين لهم العهد والوفاء، مستلهمين منهم الصمود والإرادَة والإباء، حاملين رسالتهم، نوضح للعالمين سبب استشهادهم، نحدِّث الأجيال عن ملاحم الصمود وَالثبات والبطولة التي سطرها الشهداء، وعن الإنجازات والانتصارات التي تحقّقت لشعبنا وبلدنا بفضل تضحيات هؤلاء العظماء، الذين آثروا حب الله على حب الأهل والأحباب وأرخصوا الأنفس والأرواح نصرة لله وَللدين والوطن، وما يسلينا في فراقهم أنهم الأحياء العظماء المكرّمون عند الله تعالى، عزاؤنا الوحيد فيهم أنهم صناع النصر الذين أعادوا لهذه الأُمَّــة عزها ومجدها وكرامتها، نشتاق إليهم نعم ونتقطع شوقاً إليهم ومن قال إننا لا نشتاق إلى إخوتنا وفلذات أكبادنا الذين فارقونا وهم في عز شبابهم وتركونا خلفهم مشتاقين، أما عني فَـإنَّي أبكيهم شوقاً واشتياقاً وكيف لا أبكي على فراق الأخ الشقيق الشفيق الحنون من كان لي السند والعضد بعد الله، أذرف الدموع على فراق فلذة الكبد الذي هو قطعة من قلبي “ابني” من كان نبض الفؤاد وسلوة الروح وضياء العين، من كان سعادة أيامي وفرحة عمري والسنين، أبكيهم نعم وسأظل ولكنه بكاء الشوق والفقد لا الضعف وَالانكسار.
ما رحلوا عنا إلَّا وقد علّمونا أننا في مسيرة بذل وعطاء وصمود وإباء ووفاء لا وجود ولا مكان فيها للضعف ولا للهوان.
علّمونا أننا بمسيرة جهاد وفداء، تضحية وإباء، صبر وعطاء، صدق ووفاء، وأنها مسيرة الأنبياء والرسل والآل الكرام المجاهدين النجباء.
تعلّمنا من شهدائنا أننا أهل إيمَـان وجهاد وأنه لا يليق بالمؤمنين المجاهدين في سبيل الله أن يضعفوا ولا يمكن لليأس والإحباط أن يتسلل إلى قلوبهم.
تعلّمنا من عظمائنا أننا ما دمنا مع الله وما دمنا نضحي مِن أجلِه وفي سبيله ونصرةً لدينه محتسبين الأجر من الله تعالى وحده وما دامت الغاية هي نيل رضا الله والجنة فَـإنَّ الله تعالى لا يضيع عنده أجر صبرنا وصمودنا وجهادنا وَهو مع الصابرين ويحب الصابرين وهو من قال «وبشّر الصابرين»، لنعلم ونتيقن أن ما هنالك خسارة أبداً ما دمنا مع الله سبحانه وتعالى.
علّمنا الشهداء العظماء أن مسيرتنا مسيرة جهاد وعطاء، نقدم فيها التضحيات بنفوسٍ راضية وقلوبٍ صابرة، وبقناعةٍ تامة وبإيمَـانٍ ويقينٍ راسخ بأن ما عند الله هو خير وأبقى، نضحي في سبيل الله ونحن رافعو الرؤوس شامخو الجبين وكلنا فخر واعتزاز بما قدمنا وبما سنقدم في سبيل الله تعالى وهو القائل سبحانه: (فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
ويكفينا هذا الحُبُّ الإلهي وكفى بذلك عظمةً وشرفاً ومجداً وفخراً، فالسلام على الشهداء العظماء، السلام على صناع النصر والمجد والكرامة، السلام على من غادرونا ليحل العز والشرف بلادنا وديارنا، السلام على من كتبوا لنا الحياة بدمائهم الغالية، الصلاة والسلام على شهدائنا الخالدين في الليل إذَا يغشى والنهار إذَا تجلى في كُـلّ وقتٍ وحين وإلى يوم الدين.