رغم مؤشرات الانفراج في الأزمة السودانية التي ظهرت بعد موافقة قوى المعارضة المدنية على ملاحظات وتعديلات قدمها مجلس السيادة الانتقالي بشأن بعض بنود مسودة الإطار الدستوري المقترح من نقابة المحامين السودانيين إلى “الآلية الثلاثية” لصياغة اتفاق يخرج السودان من نفق الأزمة، إلا أن التداعيات الأخيرة أشارت إلى انسداد وشيك على صلة بقوى سياسية اقصتها ثورة ديسمبر 2019 وتحولت اليوم إلى عقبة حقيقية تعرقل جهود التسوية.
الثورة / أبو بكر عبدالله
يمكن القول إن كل ما فعلته تفاعلات الأيام الماضية بشأن التسوية السياسية المحتملة للأزمة السودانية على أساس مسودة الإطار الدستوري الانتقالي المقدم من نقابة المحامين، هو أنها كسرت الجمود الذي كان سائدا خلال العام الماضي وأعاد أطراف الازمة إلى طاولة الحوار السياسي، في حين لا تزال بعض القوى السياسية والاجتماعية خارج دائرة التوافق، وسط توقعات بأن تؤدي إلى عرقلة المسار التفاوضي.
مؤكداً أن مشروع الإطار الدستوري الانتقالي المقترح من نقابة المحامين، أفلح في إحداث اختراق كبير في جدار الأزمة بإعادته في المعارضة، ممثلة بتحالف الحرية والتغيير المجلس المركزي ومجلس السيادة العسكري، إلى طاولة المفاوضات، بعد أن لبت الجزء الأكبر من مطالب المعارضة المدنية ومطالب المكون العسكري، ووضعت الأسس الملائمة لعودة الاستقرار واستئناف التمويلات الدولية التي تحتاجها السودان في الوقت الراهن، لكنها لم تقدم حلولا لبعض القوى السياسية التي وجدت نفسها بعيدة عن العملية السياسية وخارج دائرة التوافق.
ورغم الشلل الذي أصاب جهود “الآلية الثلاثية” التي تضم بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” خلال الفترة الماضية إلا أنها عادت مؤخرا إلى الواجهة من خلال مشروع الإطار الدستوري الانتقالي كرافعة تدعمها المجموعة الرباعية المؤلفة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، يمكن أن تدفع القوى السودانية للتوصل إلى اتفاق بشأنها ينهي الأزمة ويضع السودان في المسار الانتقالي الصحيح.
حتى اليوم تشكل شبه إجماع على مسودة الإطار الدستوري كأساس يحظى بالتوافق لحل الأزمة، سوى في بعض الجزئيات التي تقود “الآلية الثلاثية” حاليا مفاوضات بشأنها على صلة بقضية الحصانات القضائية الكاملة أو الجزئية التي يطالب بها مجلس السيادة الانتقالي، والعدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري وتفكيك بنية النظام السابق.
هذا الأمر عزز آمال الشارع السوداني بإمكانية تجاوز الخلافات بعد اعلان المكونات المدنية المشاركة الموافقة على تعديلات اقترحها المكون العسكري على وثيقة مشروع الدستور الانتقالي تمنع اتخاذ أي إجراءات قانونية في مواجهة شاغلي المواقع القيادية العليا بالأجهزة النظامية عند صدور الدستور بحكم مناصبهم الدستورية أو العسكرية بشأن أي مخالفات قانونية تم ارتكابها قبل توقيع الدستور الانتقالي لسنة 2022، بسبب أي فعل أو امتناع قام به أعضاء أو أفراد الأجهزة النظامية ما لم يكن ذلك الفعل أو الامتناع موضوع المخالفة ينطوي على اعتداء جسماني أمرت به القيادة العليا فردًا أو عضوًا بشكل مباشر بارتكابه”.
يضاف إلى ذلك الموافقة الأولية للمعارضة المدنية، على مقترحات المكون العسكري الداعية إلى عدم إلغاء القرارات التي اتخذها مجلس السيادة بعد الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 والاكتفاء بمراجعتها، وعدم ملاحقة كبار ضباط الجيش قضائيا وأخرى تقضي بتبعية قوات الدعم السريع للقوات المسلحة ويحدد القانون أهدافها ومهامها مع اقتراح أن يكون رأس الدولة قائدا أعلى لقوات الدعم السريع، ضمن خطة إصلاح أمني وعسكري تقود إلى جيش مهني قومي واحد، ويتم دمج الدعم السريع في القوات المسلحة وفق الجداول الزمنية المتفق عليها ومنح الجيش صلاحية تسمية قائدة العام.
ورغم أن بعض القوى المدنية المشاركة في مفاوضات التسوية قبلت ببعض التعديلات المقترحة من المكون العسكري، بما يمنح القيادات الأمنية والعسكرية الحصانة من المحاسبة الجزائية، إلا أن قوى مدنية أخرى لا تزال ترفض ذلك بل وغير راضية عن العديد من بنود التسوية وتتمسك بمحاسبة الضالعين بقمع التظاهرات واستكمال أهداف الثورة كشرط أساسي لأي تسوية مرتقبة في السودان.
خلافات جزئية
على أن جهود الآلية الثلاثية افضت مؤخرا إلى ما درج البعض على تسميته “الاتفاق الإطاري” الذي يعبّر عن جميع القوى المرحبة بمشروع الدستور الانتقالي لنقابة المحامين السودانيين، إلا أن البعض يشعر أن ثمة تباطؤاً مفتعلاً في جهود صياغة الاتفاق النهائي بين المكونات السودانية للخروج من الأزمة، بعد أن تم الإعلان عن جولة مفاوضات مصغرة يفترض أن تتم قريبا تتناول البنود العالقة ذات الصلة بملفات الحصانة والعدالة الانتقالية، وتفكيك النظام السابق، وإصلاح قطاعي الأمن والجيش، واتفاق جوبا للسلام.
بعض هذه الخلافات أفصح عنها مؤخرا تحالف الحرية والتغيير الذي أعلن” تمسكه بموقفه المعلن سابقا بشأن منح الحصانة القضائية لبعض قادة الجيش، وقضايا الإصلاح العسكري التي تقود لبناء جيش قومي مهني واحد وخضوع جميع القوات العسكرية والأمنية للسلطة المدنية، وإنفاذ عملية شاملة للعدالة والعدالة الانتقالية تكشف الجرائم وتحاسب المنتهكين وتنصف الضحايا، بما يضمن عدم الإفلات من العقاب وعدم تكرار الجرائم مرة أخرى وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية”.
يضاف إلى ذلك مطالب لجان المقاومة التي أعلنت رفضها المشاركة في أي عملية سياسية تبقي على قادة الجيش في الحكم، وتمسكها بإسقاط رئيس مجلس السيادة الفريق الأول عبد الفتاح البرهان ومعاونيه ومحاكمتهم على مقتل نحو 119 متظاهرا، قضوا برصاص قوى الأمن منذ الخامس والعشرين من أكتوبر 2021.
مستجدات مفاجئة
مع أن الشارع السوداني كان يتوقع أن تُفضي الجهود الآخيرة لـ “الآلية الثلاثية” للمضي بتشكيل الحكومة المدنية وتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية إلا أن المشهد بدا محاصرا بتعقيدات، مع ظهور تكتلات سياسية جديدة ترفض خطة التسوية الانتقالية التي اقترحها مشروع نقابة المحاميين، يتصدرها تكتل “قوى الحرية والتغيير الكتلة الديموقراطية” الذي ضم مجموعة التوافق الوطني وبعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا وحزب البعث السوداني، والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل وعدد من الأحزاب الصغيرة ولجان المقاومة.
استبقت قوى التكتل الجديد التقدم المحرز في جهود “الآلية الثلاثية” المستندة على مشروع الدستور الانتقالي لنقابة المحامين” ووقعت اتفاقا أكد التزامها بالوثيقة الدستورية التي صدرت عام 2019 وتعديل عام 2020 كأساس لحل الأزمة، مع إجراء تعديلات عليها استهدفت قطع الطريق على خارطة التوافق المستندة على مشروع الدستور الانتقالي المتوافق عليه من أكثر قوى الداخل والمجتمع الدولي.
ظهور هذا التكتل في هذا التوقيت، بدا غير بعيد عن المناورات التي تحاول أطراف الأزمة لعبها قبل الاتفاق النهائي، ولا سيما المكون العسكري الذي سعى خلال الفترة الماضية إلى إيجاد تيار سياسي مدني موازي يدعم التوجهات التي يتبناها تيار داخل المكون العسكري يرفض ابعاده عن هياكل السلطة الانتقالية في أي تسويات قادمة مقابل القوى المدنية والثورية التي تطالب بإبعاده.
والمواقف السياسية التي تبناها التكتل الجديد حملت رسالة واضحة للداخل والخارج بأن القوى المدنية والثورية المطالبة بابعاد المكون العسكري من العملية السياسية، لا تعكس بالضرورة الشارع السوداني بأطيافه المختلفة وأكثر منها التأكيد على أن الحل السياسي لم يعد محصورا بيد القوى المدنية والثورية المناهضة لمجلس السيادة الانتقالي.
هذا الأمر بدا واضحا في التعديلات التي طالب بها التكتل السياسي الجديد على الوثيقة الدستورية إذ ذهبت مقترحاته إلى إنهاء هيمنة قوى “الحرية والتغيير” الائتلاف الحاكم السابق، باعتباره ممثلا للقوى السياسية المدنية، وابداله بإطار سياسي أوسع يمثل “القوى السياسية والمدنية وحركات الكفاح المسلح وأطراف العملية السلمية” يما يمنح قوات الجيش الحاضن السياسي المدني الذي تفتقده.
كذلك اقترح حذف اسم “مجلس السيادة الانتقالي” واستبداله بـ “السلطة السيادية” التي منحتها التعديلات سلطة تعيين رئيس الوزراء ومجلس الوزراء وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة برئاسة القائد العام للجيش، تمثل فيه الأجهزة النظامية الأخرى ويتولى مهام حماية البلاد ودعم التحول الديمقراطي فضلاً دعوته انشاء مجلس للأمن والدفاع يرأسه رئيس الوزراء، ويمثل فيه قائد الجيش والحركات المسلحة وجهاز المخابرات.
هذه التوجهات كانت كافية لإثارة الشكوك حول التكتل الجديد وأهدافه، خصوصا وهي جاءت متعارضة كليا مع ما ذهبت اليه مسودة الإطار الدستوري الانتقالي المقترحة من نقابة المحاميين والتي اقترحت إلغاء الوثيقة الدستورية الخاصة بالمرحلة الانتقالية لعام 2019 وإلغاء كل القرارات التي صدرت في أو بعد الخامس والعشرين من أكتوبر 2021.
وخطوة تشكيل الائتلاف الجديد على أنها بدت مناورة سياسية من تيار بداخل مجلس السيادة الانتقالي، إلا أنها كشفت عن وجود تباينات بداخل المجلس حيال الإعلان الذي أعلنه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه حمدان دقلو “حميدتي” بشأن القبول بالإطار الدستوري المقترح من نقابة المحامين وتعهدهما مغادرة العملية السياسية وترك الأمر للمدنيين لتشكيل حكومة توافقية تتولى مهام المرحلة الانتقالية.
ورغم أن التكتل السياسي الجديد بدا وكأنه نتاج طبيعي لحالة الخلاف العميقة بين المكونات المدنية والثورية وعجزها عن التوافق لتشكيل حكومة انتقالية مدنية وفقا للشروط التي طرحها المكون العسكري إلا أن المُرجح أن هذه الخطوة لن تقود إلى تلبية هذه الشروط، كونها وضعت عراقيل كبيرة أمام شرط التوافق على تشكيل الحكومة المدنية، ما يُرجح عودة الجميع إلى المربع الأول في ظل تعقيدات، قد تقود الشارع السوداني الذي يعاني كثيرا من الأزمة الاقتصادية إلى الانفجار.
أزمة غير متوقعة
أسوأ ما يمكن للسودانيين توقعه حيال عقبات التسوية الراهنة، أن ما سبق لن يكون المعرقل الوحيد امام قطار التسوية المنتظرة، ففي مقابل المواقف المؤيدة التي أعلنها مجلس السيادة الانتقالي وقوى المعارضة الرئيسية لمشروع الدستور الانتقالي كأساس للحل، إلا أن هذا التأييد لم يمنح الوثيقة الشرعية الكافية لقيادة لتحول الديموقراطي الانتقالي مع الظهور القوي للتيار الإسلامي الذي خرج من سباته جنبا إلى جنب مع حركات مسلحة وقوى سياسية تتبنى مواقف رافضة للمشروع.
أضف إلى ذلك الأزمة العميقة التي ظهرت إلى الواجهة مؤخرا في إقليم شرق السودان مع المساعي التي بدأها مجلس نظارات البجا ذي الحضور الفاعل في الإقليم في طرح قضاياه على الطاولة كشرط لوصول الحكومة المدنية إلى السلطة ومنحها الشرعية التوافقية لبلوغ اهداف لمرحلة الانتقالية.
وعلى أن قبائل شرق السودان ظلت مهمشة على مدى عقود من حكم نظام الرئيس السابق عمر البشير، وحملت السلاح ضده بين 1994 ـ 2006، إلا أن سياسة التهميش استمرت بحقها حتى بعد عامين من الانتفاضة التي أطاحت نظام البشير.
هذا الأمر فسر مواقفها المتشددة في عدم اعترافها بسلطات الحكومة المركزية في الخرطوم، ورفضها تعيين حكومة مؤقتة لشرق السودان، ناهيك عن رفع سقف مطالبها إلى المطالبة بحق تقرير المصير، ورفض المشاركة في أي تسوية أو حكومة قبل إلغاء مسار الشرق الخاص باتفاق جوبا للسلام.
والمطالب الأخيرة على أنها جاءت في سياق أزمة تتوالد، إلا أنه اثار مخاوف جدية لدى البعض من احتمال أن يتحول اللعب بورقة انفصال الشرق إلى واقع قد يضع الدولة السودانية امام تهديد وجودي في ظل اعتمادها الكبير على منافذها الشرقية المطلة على البحر الأحمر، ما يعزز حقيقة أن أي مرحلة جديدة في السودان لا يمكن أنجازها دون مشاركة جميع الأطياف بلا استثناء.