الحديدة عروس جميلة تنقصها أدوات الفرح

■ وائل شرحة –

تحتضن كتب التاريخ عنها الكثير والكثير.. ففيها نبع العلم وفيها ظهر الشعر والأدب والفن كم سبح المؤرخون في الخيال.. كم حلموا أثناء نومهم وكتبوا أحلامهم ليوهمونا بأنهم موثقون للزمن القديم.. بأنهم بذلوا جهدا كبيرا في صياغة القديم.
لا محال من أنك ستقول هكذا مثلي حين ترى الواقع بعيدا عن ما ورد في كتب المؤرخين.. إذا كنت ممن قرأ عن تاريخ الحديدة ستحدث من حولك أو ذاتك خلاف ما قرأته.. حين تجد نفسك غارقا بين مجلدات الماضي والواقع المعاش.
عروس جميلة.. ينقصها أدوات الفرح.. طال انتظارها لعريسها.. لمستقبلها.. لمن سينتشلها مما هي فيه.. لمن سيزينها كي تصبح عروسا بما تعنيه الكلمة من معنى.
إنها الحديدة.. الواقعة في أسفل ذيل اهتمامات الحكومة تفتقر لأبسط مقومات الحياة.. إنها كارثة حقيقية.. منطقة ساحلية اقتصادية تجارية علمية أدبية ثقافية.. تفتقر لأبسط مقومات التنمية.
لو كنت ممن سمحت لهم الظروف المادية بزيارة الحديدة.. ستتفق معي.. وربما ستتهمني بالتقصير وعدم المصداقية في نقل وضع الحديدة المزري والمبكي.. وسترثي لها معي إذا كنت ممن لم يحظوا بعد بالعيش فيها ومحاورة أبنائها.. أصحاب القلوب الطيبة.. اللينة.. الودودة.. الحاضنة للخير دائما.. والمتفائلة بأن عريس ابنتهم ما يزال في الطريق ولم يصل بعد.. لكنهم متأكدون تماما بأنه أوشك على الوصول.. وأن بعض المطبات التي وضعت في طريقه وقطع الفولاذ الحادة التي تسببت بفطر عجلة دراجته النارية – إن كان لديه – عرقلة مسيرة وصوله وحالت بينه وبين العروسة.
الحديدة وبكل اختصار تنتظر من يعيد لها أمجادها.. تنتظر قائدا يفتتح الفرح ويستمر الحفل إلى الأبد.. وتظل العروسة بكرا تحتفل وترقص وتسمع صوت عبدالحليم وأبو بكر سالم وأم كلثوم وفيروز وماجدة الرومي.. تستمتع بالموسيقى على أصوات الأمواج… وتكون المدينة متلألئة بالنور.. فلا تيار كهربائي منقطعا فينغص حياة العروسة والمحتفلين.. ولا لرائحة المجاري الطافحة في الشوارع..
المناطق الساحلية.. دائما ما تكون من أولويات الحكومات.. تجد فيها الأبراج المعانقة للسحاب.. والكهرباء المستقرة على الدوم دون أي انقطاع لا بعذر أو بغير عذر.. لا يخلو شاطئها من السياح.. ولا فنادقها أيضا.. المواطنون المحليون يقضون إجازاتهم وعطلهم السنوية جوار البحر.. وكذا الزائرون الأجانب لا تخلو المناطق السياحية من برنامجهم وقائمة الأماكن التي سيزورونها ويقيمون فيها.
في الدول الأخرى تجد في مناطقها الساحلية.. أجمل المنتجعات السياحية.. والفنادق الراقية.. والكورنيش الذي يتسابق الجميع إليه.. إنها جنة الله في الأرض.. حاذفة الهموم.. مشطبة الأحزان.. مصدر السعادة والابتسامة لعشاق البحر.. وأمواجه الهادئة.. الهائجة والمضطربة.. المبتسمة.. المتقلبة ما بين الحين والآخر.
وفي اليمن تظل المناطق الساحلية خارج اهتمامات الحكومات المتعاقبة.. الحديدة أكبر دليل على ذلك.. إنها متعبة.. مرهقة.. تلفظ أنفاسها الأخيرة… أبناؤها يعانون من مرارة الحياة.. وما يزالون صامتين.. متفائلين بغد أجمل.. متيقنين بأن بعد العسر يسرا.. والفرج لا يأتي إلا بعد شدة.
حين تسقط الشمس في جيب البحر.. ويظهر القمر بعد صراع ومفاوضات شديدة مع قرص الشمس… يسكن الليل.. يحاول ضوء القمر اختراق الظلام الحالك والمتلبد في سماء الحديدة .. حتى تعود الشمس وتقوم بطرد الضوء الساطع للقمر ملهم الشعراء والأدباء والمفكرين وهواة السياحة والسباحة.
زرتها الأسبوع الماضي برفقة زملاء.. وجدتها وكأنها في آخر أيامها.. لم تكن هكذا خلال زيارتي السابقة لها.. قبل أربعة أشهر.. لقد أفزعني مظهرها وحالتها الصحية المتعبة.. إنها الآن في غرفة العناية المركزة الخالية من الأطباء.. ليس هناك ممرض بجوارها.. يواسيها.. يعطيها الدواء.. يساندها حتى تتمكن من مغادرة هذه الحالة والوقوف على قدميها… إنها تتألم وحيدة في انتظار الطبيب المنقذ..
الكورنيش خال من الإضاءة.. شوارعها محفرة.. مزدحمة بالدراجات النارية.. ممتلئة بمخلفات الصرف الصحي.. أبناؤها يعانون مرارات العيش وحرارة الشمس..
كانت الأمواج غاضبة.. هائجة.. منذ أيام عديدة.. لم تهدأ.. أو تنم.. وكأنها تحذر من كارثة لا محالة من حدوثها.. إنها تعبر عن الغضب المكبوت في قلوب أبناء الحديدة التي تفتقر لكل شيء.. فليس هناك جميل يستحق أو يتطلب ذكره.. سوى طيبة وحسن تعامل ساكنيها..
الحديث عن كل معاناة الحديدة يطول ولن تجد له طرفا أو نهاية, كما أنه لن يجيب على السؤال الذي يطرح نفسه وتنثره رياح البحر القوية.. متى ستلتفت الحكومة إلى عروس البحر الأحمر ولؤلؤة المنطقة الساحلية¿….

قد يعجبك ايضا