تكررت أزمات الوقود وارتفعت أسعارها، وخاصة مادة غاز الطبخ المنزلي طوال أعوام العدوان والحصار الـ 8 في عموم المدن اليمنية وفي الأرياف خاصة، الطلب على مادتي الحطب والفحم كبديل للغاز، والذي وفر بدائل سدت بعضا من فجوة حاجة السكان إلى الوقود، لكنه- في الوقت نفسه- أعاد ظاهرة التحطيب الجائر التي تهدد بالقضاء على ما تبقى من الغطاء النباتي في البلاد بشكل نهائي، سيما تلك الأشجار المعمرة لمئات السنين كأشجار السدر التي شاهدناها تتعرض للتحطيب الجائر في مديرية العشة بمحافظة عمران.
تحقيق/ يحيى الربيعي
أشجار السدر في العشة -عمران امتازت بقوة عائداتها في تغذية النحل ومراعي الماشية، إذ تسعف مربي الثروة الحيوانية من أبناء المنطقة بالأعلاف في مواسم الجدب، ويحضر إليها النحالون من جميع نواحي اليمن في موسم العلب في شهر نوفمبر، بالإضافة إلى نحالي المنطقة، وينتج منه أجود أنواع العسل العصيمي، حسب إفادة المواطنين هناك.
و”العشة” هي إحدى المديريات التابعة لمحافظة عمران، حيث الشعاب الواسعة من أشجار السور والسُمُر وأشجار عديدة نادرة، ناهيك عن انتشار الكثير من الشجيرات والأعشاب الطبية والعطرية على مسافات تقدر بالكيلومترات.. حيث المراعي والفقراء المعدمين، وحيث لا رقيب ولا حسيب يحافظ على الغطاء النباتي من التصحر عدا بعض المراقيم العرفية التي عطلت بفعل موجات القحط وأزمات الوقود التي دفعت الناس، اضطرارا، إلى قطع الأشجار وبيعها لسد حاجتهم ليوم من الغذاء.
ففي تلك المراعي الشاسعة الممتدة على طول وعرض وديان وهضاب عزل وقرى مديرية العشة الشهيرة لا تتوقف المعاول عن قطع الأشجار المعمرة من جذوعها وخاصة السدر، إنها سنوات عدوان وحصار لا تحصد فقط أرواح الناس، بل وأشجارهم أيضاً، ولا يباع الحطب يابساً وكفى، وإنما يباع أخضر.
وفي المدن، انتشر باعة متخصصون لبيع الحطب، فقد مثلت الظاهرة حلولاً لمشاكل الكثير من الأسر خاصة ذوي الدخل الضئيل، حيث صعوبة الحصول على أسطوانة الغاز، وارتفاع سعرها.. إنه وضع يبعث على الحزن والأسى في النفس ويوجب تدارك المشكلة والحفاظ على ما تبقى من الشجر، ما لم فإن اليمن الأخضر السعيد، سيصبح اليمن اليابس والخالي من الأشجار، رغم وجود مراقيم موقعة من قبل أبناء وأعيان القبائل تحظر تحطيب الأشجار الخضراء، وتحذر من مخاطر موجة الاحتطاب الكبيرة التي يقوم بها الأهالي، من جَرَّاء استمرار أزمة الوقود وتفاقمها منذ أكثر من ثمان سنوات.
في سطور هذا الاستطلاع، يقول المواطن علي قايد رواعي (فارس تنموي)، وهو من مواطني “العشة” عزلة المعراضة والواسع: “قطع الأشجار من جذورها، يمثل اعتداء على الحياة.. وأضاف، وهو يتأمل كميات حُزم الحطب، المرصوصة فوق بعضها، على جوانب الطرق الممتدة على طول المديرية من جوانبها الأربعة “هذا عدوان غاشم، أين سنرعى أغنامنا؟!”. ويمضي شارحا العلاقة الروحية المقدسة بين الإنسان اليمني والشجرة: ” أشجار السدر المعمرة تسبِّح الله منذ مئات السنين، ومن يعتدي عليها ظالم لنفسه ولماشيته ونحله”، وأخرج من جيبه مرقوما قبليا يفيد بتراقم أهالي المنطقة بتجريم قطع الأشجار الخضراء (ننشر هنا صورة له).
فيما يوضح مدير مكتب الزراعة بمديرية العشة عبدالله بعران أن وزارة الزراعة والري ممثلة بمكتب الزراعة بالمحافظة وقيادة المحافظة عملتا على تعزيز الوعي لدى المواطنين بأهمية الحفاظ على البيئة الخضراء والغطاء النباتي وخاصة أشجار السدر وغيرها من الأشجار المعمرة في المحافظة عامة، وفي مديرية العشة خاصة، حيث تنتشر أشجار السدر المعمرة والكثير من الشجيرات والنبات الطبية والعطرية.
وأكد بعران أن المكتب منع وأخطر المواطنين بعواقب تحطيب الأشجار وعدم الحفاظ على الشجيرات والأعشاب الطبية والعطرية، وزود “الثورة” بوثائق مراقيم بين القبائل تفيد بتجريم ومنع تحطيب الخضراء، منوها نسعى في الزراعة وحماية البيئة والأمن لتثبيت إجراءات وقائية وأخرى أمنية لمنع الظاهرة وضبط المخالفين لهذه الأعراف الموقعة بين القبل في المديرية.
فيما أشار المواطن عبداللطيف قعبان (فارس تنموي) إلى أن أهالي المنطقة يحتاجون إلى أشجار السدر لإطعام أغنامهم في أيام الشتاء والجدب.. لذا، فهم يحافظون على هذه الأشجار كحفظهم للمحاصيل الزراعية الأخرى المتواجدة في المنطقة، فاهتمام المواطن هنا بالسدر لا يقل عن اهتمامه بزراعة الحبوب وغيرها من الزروع.. ظاهرة- تحطيب أشجار السدر- انتشرت لأول مرة في تاريخ المنطقة، حيث تم قطع حوالي 20 % من أشجار سدر العشة المعمرة التي أسميت في صحيفتكم الغراء “الثورة” “بشجرة الآلهة” عندما أجرت استطلاعا في أوساط المواطنين عن أهمية هذه الشجرة.. صحيح قطعت فروع كبيرة ومعمرة، ولكن- بحول الله وقوته- سوف تعوض هذه النسبة من جذور الأشجار التي قطعت، لأنها قابلة للنمو، فهي تنمو في شهور، وكل سنة تكبر وتتفرع حتى تعود كما كانت عليه قبل قطعها وأفضل.
كما يضيف المواطن عابد محمد باقي: “فترة الجدب التي أصابت المنطقة في الموسمين الماضيين أتلفت على الناس في القرى وخاصة مناطق الغطاء النباتي المزارع، حيث تعرضت المواشي للموت جوعا، أسهمت بالتزامن مع عودة الناس في المدن إلى الطريقة التقليدية في استخدام الحطب بسبب غياب المشتقات النفطية والغاز لاسيما المخابز عوضًا عن الغاز أو الكيروسين، الأمر الذي تسبَّب في رواج تجارة الحطب وزيادة الطلب عليه”.
ليس هذا فحسب، فقد بلغ الطلب على الحطب حد أن صار الاحتطاب مهنة، قُطعت في سبيلها المئات من أشجار السدر المعمرة من قرى وعزل العشة وبيعت لتجار الحطب بمئات الآلاف دونما إدراك من الفاعلين لعواقب ما يخلفونه من دمار للبيئة التي من المحتمل أن تتحول إلى التصحر، ناهيك عن حتمية فقدان مراعي الماشية والنحل، فالحاجة الماسة إلى الحطب رفعت أسعاره إلى حدٍّ بعيد، ففي أحد أسواق صنعاء يقف باعة الحطب على سيارات نقل كبيرة يبيعون حزمًا من الحطب، تشكل مصدرَ دخل وفيراً لهم، كما يؤكد مزارعون في العشة: “نبيع فروع شجرة سدر عملاقة بنحو 200 – 400 ألف ريال، ونبيعها اضطرارا لسداد قيمة احتياجات الأسرة من الغذاء والملبس والعلاج.
وبالعودة إلى سجلات الهيئة العامة لحماية البيئة نجد أن إحصائيات ما قطع في العام الواحد من الأشجار تزيد على 860 ألف شجرة من مختلف مناطق الجمهورية، وذلك لسد حاجة أفران العاصمة صنعاء فقط، البالغ عددها 722 فرنًا، إذ تحرق نحو 17 ألفًا وخمسمائة طن من الحطب سنويًّا.
وهذا يقضي على مساحة قدرها 780 هكتارًا من الأراضي المزروعة بتلك الأشجار”، وأشارت الهيئة إلى أن المسح شمل فقط محافظات اليمن التي تعاني من أزمة الوقود، حيث ملايين الأشجار التي تتعرض للاحتطاب الجائر سنويا.
وحتى تتضح الصورة كاملة، وللتعرُّف على نسبة تدهور أراضي المراعي والغابات وأنظمة التكامل الزراعي، تظهر الهيئة العامة لحماية البيئة في دراسة ميدانية لها أن مساحة الغابات في اليمن تقدر بنحو 1.5 مليون هكتار، وتبلغ مساحة المراعي والتكامل الزراعي الحراجي 22.6 مليون هكتار، تمثل مجتمِعةً مصدرًا مهمًّا لتغطية الاحتياجات الغذائية للثروة الحيوانية وحياة السكان، غير أنها تعاني من سوء إدارة واستخدامات غير منظمة تسببت في تناقُصها نوعًا وكمًّا على نحو مفجع.
الأدوات الحديثة كالمناشير الآلية، وسعت دوائر الاحتطاب الجائر واجتثاث الأشجار والشجيرات البرية، دون الاكتراث للآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة على ذلك كما تؤكد الهيئة العامة لحماية البيئة.
ويشدد المعنيون في الهيئة على ضرورة احتساب استهلاك بقية المخابز في المحافظات والمدن الأخرى، من الحطب، واحتساب الاستهلاك المنزلي في المدن والأرياف، بالإضافة إلى احتساب كمية الفحم الذي يجري إنتاجه للاستهلاك المحلي والتصدير.
فالاحتطاب الجائر يعد من أخطر العمليات المؤدية إلى تدهور الغابات بمعدلات سريعة ومتزايدة، بالإضافة إلى الآثار السلبية المتعددة المضرة بالبيئة والمجتمع على المديين القريب والبعيد، أبرزها انتشار بعض الظواهر مثل الجفاف واختلال التوازن البيئي، وفقًا لدراسة الهيئة.
كما أن تدهور البيئة يجعل التربة عرضةً للتعرية الهوائية والمائية، ما يسبب انخفاضًا في كمية المياه التي تغذي الطبقات الحاملة للمياه الجوفية، ويزيد معدل حدوث الفيضانات والسيول الجارفة التي تسبب خسائر بشرية واقتصادية، إضافة إلى الاحتطاب الجائر الذي يجعل الحياة البرية عرضةً للخطر بسبب هجرة بعض الطيور والحيوانات بعد فقدها موائلها الطبيعية، وهذا كله سيؤدي إلى الإخلال بتوازُن النظام البيئي.
ولفتت الدراسة إلى أن الجهات الرسمية قابلت هذه الكارثة البيئية الوشيكة بكثير من اللا مبالاة باستثناء بعض الجهود الرسمية الخجول الرامية إلى وضع أسس فاعلة لإدارة مستدامة للموارد الطبيعية، في الوقت الذي تستمر فيه أزمة الاحتطاب الجائر في الفتك بالبيئة.
وهنا يشدد المعنيون في هيئة حماية البيئة في تصريحات صحفية على ضرورة إجراء دراسات رسمية متكاملة للمناطق التي تتعرض لتدهور مستمر؛ بغية وضع خطط وبرامج للحد من هذا التدهور، ووقف الاحتطاب الجائر من قِبَل السكان المحليين، ومن ثَم وضع خطط تنموية لإعادة تشجير تلك المناطق المتضررة بفعل التحطيب والقطع.
ويحث المعنيون في هيئة حماية البيئة جهات الاختصاص في وزارة النفط والشركات التابعة لها على ضرورة الاضطلاع بمسؤولياتهم في توفير الوقود من الغاز المنزلي ومشتقات النفط بأسعار خاصة ومعقولة؛ للحد من الطلب على الحطب، وإنقاذ الغطاء النباتي وتوازن البيئة.
كما ناشدوا السلطات المعنية في الحكومة والسلطات المحلية والمجالس المحلية والمشايخ والأعيان والشخصيات الاعتبارية والمثقفين والجمعيات وفرسان التنمية وكل قادر على النهي وإن بكلمة، بإنقاذ ما تبقى من هذه الأشجار، التي طالتها معاول القسوة والجور بصورة لم تشهدها المنطقة من قبل، فمع دخول مناشير الخشب الكهربائية الحديثة ووصولها إلى أيادي “الحطّابين”، تكون البيئة النباتية في اليمن على وشك التعري التام.