الثورة
تعتبر الهجرة النبوية أهم حدث يفصل بين مرحلتين من مراحل الرسالة السماوية، حيث جسدت الانتقال من مرحلة الدعوة إلى عبادة الإله الواحد بما يشمل من بناء الأفكار وترسيخ المعتقدات وفق هذه العبادة الحقة.. وصولاً إلى مرحلة التطبيق العملي من خلال بناء الدولة الإسلامية التي تتكفل ببناء هذه العبادة في أقوال وأفعال البشرية وحمايتها من تسلط الطاغوت..
ولذلك فقد بدأ تاريخ المسلمين من هنا، من لحظة الانتقال إلى الواقع العملي لمفهوم العبادة، وتجسيدها بصورة مثالية من خلال نشر الخير وبسط العدل وإقامة الحق..
ولأن الهجرة تحمل في طياتها دروساً عظيمة، فقد رأيت أن أطرق هذا الحدث العظيم من جانب آخر، وهو الإشارة إلى دور اليمانيين في نصرة الإسلام قبل وبعد الهجرة، لندرك ما لليمانيين من عظمة منذ أول يوم صدع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الإسلام إلى يومنا هذا، كي لا يزايد علينا أعداؤنا الذين يتبجحون بكفالة الحرمين الشريفين مع سفكهم للدماء البريئة، وانتهاكهم الأعراض النقية.. (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )..
قبل الهجرة
بعد أن جهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته اشتد إيذاء قريش له، واستخدمت كل وسيلة ممكنة لصد الناس عن سماع دعوته والاستجابة له، وكان النبي بطبيعة الحال يبحث له عن حاضنة اجتماعية تقوم بحمايته وأصحابه من إيذاء قريش وتعنتهم..
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغل موسم الحج فيعرض نفسه على القبائل علّه يجد عند أحدهم منعة، لكن القبائل كانت تعرض عنه خوفاً من قريش وبطشها، وربما وجدت فرصة لسب النبي وإيذائه لتكون لها حظوة عند القرشيين..
ومع ذلك فقد سجل التاريخ أول استجابة لرسول الله في أحد مواسم الحج كانت بمثابة قوة كسرت حاجز الخوف لدى الناس، وأسست لمرحلة جديدة..
كانت تلك المبادرة من رجل يماني يدعى: عبدالله بن قيس بن أم غزال الهمداني ثم الأرحبي الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بين القبائل ” من يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعتني أن أبلغ رسالة ربي ” فأجابه الهمداني: أنا يا رسول الله، فقال له رسول الله: أو عند قومك مَنَعة ؟، قال: نعم يا رسول الله.. ثم قال لرسول الله: آتي قومي فأخبرهم ثم آتيك في السنة القادمة.. فرجع ابن أم غزال قاصداً قومه ليخبرهم بأهم بشارة تكسوهم فخراً وعزاً لولا أنه استُشْهِد وهو في طريق عودته على يد ذياب أحد مقاتلي قبيلة زُبَيْد المذحِجية لثارات قبلية..
هذه المبادرة من قِبَلِ اليماني وفي أشد الظروف حساسية حين كان يدسّ الناس رؤوسهم في التراب خوفاً من بطش قريش وأذيتها يدل على قوة بأس وشجاعة نادرة لفتت نظر رسول الله حتى همَّ أن يذهب إليهم ليباشر نشر الرسالة من هناك حيث المنعة والقوة التي تحميه من أذية القرشيين..
وقد كانت هناك بادرة أخرى تدعو رسول الله إلى أن يستوطن اليمن ويحتمي بأهلها ليتمكن من تبليغ رسالة الله، فهذا قيس بن مالك بن سعد الهمداني الأرحبي أتى رسول الله إلى مكة وآمن به، وطلب منه أن يصطحبه معه إلى اليمن.
فقال له: (أتأخذوني بما فيَّ يا معشر همدان؟)، قال: نعم بأبي أنت وأمي!
قال: (فاذهب إلى قومك فإن فعلوا فارجعْ أذهبْ معك)..
فخرج قيسٌ إلى قومه فأسلموا واغتسلوا وتوجهوا إلى القبلة، ثم خرج بإسلامهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: قد أسلم قومي وأمروني أن آخذك،
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم “نعم وافد القوم قيس! وفيْتَ وفى الله بك!)) ومسح بناصيته وكتب عهده على قومه همدان..
هاتان المبادرتان ترسمان لنا أبعاد الهجرة التي كان يتطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها، والذي يظهر أنه لا بد أن تتوفر في من سيهاجر إليهم القوة التي تمنع رسول الله من بطش قريش إذ كانت تعتبر قوة عظمى آنذاك باعتبار مكانتهم وتحالفهم، ولذا قال لابن أم غزال “أو عند قومك منعة”؟ وقال لقيس الهمداني “أتأخذوني بما فيَّ يا معشر همدان”؟ إشارة إلى الخطر الذي سيلحقهم لو هاجر إليهم، ولا شك أن رسول الله كان يدرك بأس اليمنيين، لأن الله لم يصف قوماً بالقوة وبالبأس الشديد مثلما وصف أهل اليمن (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وبالتالي كان يتطلع إلى الهجرة إليهم لولا أنه كان ينتظر أمر الله في ذلك..
بيعتا العقبة
لم يأذن الله لرسوله أن يهاجر إلى اليمن، لكنه هيأ له رجالاً من أهل اليمن، كانوا قد تركوا أرضهم وهاجروا منها إلى يثرب، وكانت البداية حين التقى جماعة من الخزرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وكان ذلك في موسم الحج سنة 620م، فسألهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوالهم وعن علاقتهم باليهود، وحدثهم عن الدين الجديد، وبيّن لهم أصوله وتعاليمه، ودعاهم إلى الدخول فيه، وتلا عليهم بعض آيات من القرآن، فتأثروا إلى حدٍّ كبير بما سمعوا.
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله إنه النبي الذي تتحدث عنه اليهود وتهددنا به، فأسلم ستة منهم، ووعدوه بنشر الإسلام بين أهلهم..
وفي تلك الأثناء كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ينتظر أخبار هؤلاء الستة الذين وعدوه بالمجيء في الموسم القادم، ليرى أثر دعوتهم في المدينة، ومضت الأيام وأقبل موسم الحج عام 621م وفيه وفد من اثني عشر رجلًا من أهل يثرب، فأزالت أخبارهم السارة كل هموم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما لاقاهم في المكان المتفق عليه مع الستة الذين أسلموا في الموسم الماضي “عند العقبة بالقرب من منى”.
وحينما التقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوفد المدينة حدثوه بأن أهل بلدهم ينتظرونه ليلتفوا حوله ويعتنقوا رسالته حتى يمكنهم من الانتصار على اليهود ويتخلصوا مما يحيط بهم من الخلاف والشقاق.
فرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلقاء الوفد، فلقد زاد عدد المسلمين إلى اثني عشر رجلًا، ومن ورائهم أهل يثرب، وهم في حالة استعداد لقبول الدعوة الإسلامية وحماية صاحبها، وفي هذه المقابلة تمت بيعة العقبة الأولى.
فكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة ثانية أعظم من البيعة الأولى، وأوسع مما كان يدعو إليه أهل مكة ومن حولها..
وفي الموسم المقبل جاء حجيج المدينة إلى مكة، مؤمنهم وكافرهم، وكان فيهم 75 مسلمًا، 73 رجلًا وامرأتان، 62 من الخزرج، و11 من الأوس، ولما علم الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم بمجيئهم ورغبتهم في لقائه اتصل سرًّا بزعمائهم كي لا تعلم قريش بالأمر فتعمل على إلحاق الأذى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه، وتفسد عليه وعلى المسلمين خطة اجتماعهم، كما أخفى مسلمو يثرب أمرهم عن من هم معهم من المشركين، فانتظروا حتى انتهى موسم الحج وحان الموعد، فخرجوا من رحالهم بعد انقضاء ثلث الليل مستخفين كي لا ينكشف أمرهم، ووصلوا العقبة وعلى رأسهم اثني عشر رجلًا الذين بايعوا النبي البيعة الأولى، فقاموا ينتظرون مقدم صاحب الرسالة، فلما قدم صلى الله عليه وآله وسلم تكلم وبدأ حديثه بآيات من القرآن الكريم كما كانت عادته قبل البدء في الحديث، ثم دعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم “أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم”.. فأخذ سيدهم البراء بن معرور – وكان له في تلك الليلة المقام الكريم بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه ذرارينا؛ فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب ورثناها كابرًا عن كابرٍ، فتبعه الباقون، ومدوا أيديهم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واحدًا بعد واحد يبايعون، وجاءت بعدهم النساء يبايعن أيضًا..
ولما فرغوا من البيعة قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم “أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم أمراء”.. فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء النقباء” أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي “..
وبذلك تمت البيعة الثانية وذهب كل إلى رحله في ظلام الليل، وهم على ثقة ويقين من أنه لا يعلم بهم أحد إلا الله..
شكلت هذه الحادثة صدمة للقرشيين فقد رأوا فيها نقطة تحول في مسار الدعوة الإسلامية بعد أن أذعنت له جماعة من الأوس والخزرج اليمانيين، وبعد أيام بدأت قوافل الحجاج تعود إلى أوطانها، ولما مضى على رحيل أهل يثرب بضعة أيام تأكد لدى قريش أن ما علموه من أمر البيعة صحيح، ووقفت على تفاصيل ما دار في بيعة العقبة، فعرفت عدد الذين بايعوا ولم يخف على قريش كذلك ما تعاهدوا عليه من حمايتهم للرسول والدفاع عنه، لذلك قامت قيامتهم وخرجوا يتعقبون الركب المدني للإيقاع به، فلم يدركوا منهم إلا سعد بن عبادة وكان قد تأخر عن القافلة، فأخذوه وردوه إلى مكة مسحوبًا من شعره الطويل وعذبوه حتى أجاره جبير بن مطعم بن عدي، وأطلق سراحه ثم عاد إلى المدينة..
بعد الهجرة
لا يخفى ما للأوس والخزرج اليمانيين من دور في نصرة الإسلام بعد هجرة رسول الله إليهم، وقد سماهم الله في القرآن بالأنصار ومدحهم في أكثر من آية، منها قوله تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وغيرها من الآيات التي أثنى بها عليهم مع المهاجرين..
ولكي لا نطيل في سرد الأحداث التي تدل على دور الأنصار في نصرة الإسلام ورسول الإسلام بعد الهجرة النبوية نكتفي بالتعريج على عدة مواقف:
– الموقف الأول: تنافس الأوس والخزرج في نصرة رسول الله، ما يدل على أنهم قد أشربوا حب رسول الله، وباعوا نفوسهم فداء لهذه الرسالة السماوية، فقد روي في تاريخ الطبري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: – الأوس والخزرج – كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً فيه عن رسول الله غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذا فضلاً علينا عند رسول الله في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً فعلت الأوس مثل ذلك، فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله قالت الخزرج:
لا يذهبون بها فضلاً علينا أبداً، فتذاكروا حينها: مَن رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العداوة كابن الأشرف!؟.. فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج ثم من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود، حليف لهم من أسلم، فخرجوا وأمّر عليهم رسول الله عبدالله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة، وأن ينفذوا أمره في قصة طويلة انتهت بقتله.
الموقف الثاني: علاقة رسول الله بالأنصار، وحبه لهم، إذ كان يرى فيهم عشيرته وأهله وملاذه الآمن، وكيف لا، وقد كانوا هم أول من آواه وحماه حين تخلى الناس عن حمايته ونصرته، وقد تجلى ذلك عندما لم يعطِ رسول الله الأنصار من غنائم حنين..
وقد كان رسول الله قد أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن للأنصار منها شيء، وقد وجد الأنصار في أنفسهم ولم يكن وجدهم على رسول الله طمعاً في الغنائم كما يصوره المؤرخون، ولكن كما قال قائل الأنصار: لقد لقي والله رسول الله قومه.. بمعنى أن الأنصار رأوا أن رسول الله قد تحول بحبه عنهم عندما وجد قومه وآثرهم.
فدخل سعد بن عبادة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي.. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار: ما قاله))، بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار.. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفرقوا.
الموقف الثالث: حنكة القادة اليمانيين في اتخاذ القرارات، وبالذات فيما يتعلق باليهود ألد أعداء الإنسانية على طول التاريخ وعرضه، وقد تجلت في حكم سعد بن معاذ على يهود بني قريظة بعد أن طال حصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم.. ما اضطر اليهود إلى المهادنة والصلح، وهنا جاء نفر من الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجونه و يلحون عليه في أن يعفو عنهم و أن يجليهم عن المدينة كما أجلى يهود بني النضير، حلفاء الخزرج، فقالوا: يا رسول الله، احسن في موالينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم، قالوا: بلى، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن معاذ ليحكم في قريظة، وكان في خيمة رفيدة الأسلمية بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما وصل راكباً على حماره إلى مقر قيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله: قوموا إلى سيدكم.. فقاموا إليه وقالوا: يا سعد إن رسول الله قد حكمك في بني قريظة لتحسن في موالينا، و كرروا هذا الكلام مرات على مسمعه و هو ساكت لا يتكلم، وبعد أن استمع سعد بن معاذ إلى رجاء هؤلاء النفر من الأوس، وقف يقول: أيرضى بحكمي هؤلاء؟ – مشيراً إلى المسلمين، وفي مقدمتهم قومه الأوس – فقالوا: نعم يا سعد، فقال سعد و قد غض بصره عن الجهة التي يجلس فيها رسول الله تأدباً في الحديث معه ومخاطبته: أيرضى بحكمي هؤلاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نعم يا سعد.. وكان يهود بني قريظة قد اختاروه طمعاً في محاباتهم لأنهم حلفاؤه في الجاهلية.. أنصت الجميع ليسمعوا حكم سعد، فقال سعد: آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ثم قال: أحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية، فنزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد فأتى على حماره، فلما دنا من المسجد، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قضيت بحكم الله.
نصرة اليمانيين للإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لا يخفى دور اليمانيين في الدفاع عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء من كانوا في أرض اليمن أو من كانوا من الأوس والخزرج “الأنصار” فمواقف اليمانيين مع الإمام علي “ع” في الجمل وصفين والنهروان مشهورة، وقد توجها أمير المؤمنين “ع” بقصيدته المشهورة التي امتدح بها همدان بعد أن رأى بأسهم وشدتهم أيام قتال القاسطين في صفين وهي التي قال في آخرها:
ولو كنت بواباً على باب جنة.. لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
كما أن التاريخ سطر مواقف جليلة لتلك الهامات العظيمة التي وقفت مع الإمام علي “ع”، أمثال: عمار بن ياسر المذحجي، ومالك بن الأشتر النخعي، وخزيمة بن ثابت الكندي، وحجر بن عدي الكندي.. الذي قتله معاوية لأنه رفض لعن الإمام علي “ع”.. وكذلك: أويس القرني، وأبو الهيثم بن التيهان الكندي، وسعيد بن قيس الأرحبي.. وغيرهم الكثير من الذين يحتاج ذكرهم وذكر مواقفهم إلى مجلدات..
ومن أبرز المواقف لليمنيين مع الإمام علي “ع” في صفين عندما قال أمير المؤمنين “ع” لصاحب لواء همدان ” أكفني أهل حمص فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم “.. فتقدم وتقدمت همدان، وشدوا شدة واحدة على أهل حمص فضربوهم ضرباً شديدًا متداركاً بالسيوف وعمد الحديد حتى الجأوهم إلى قبة معاوية، فارتجز رجل من همدان يقول:
قد قتل الله رجال حمص.. حرصاً على المال وأي حرص
غروا بقول كذب وخرص.. قد نكص القوم وأي نكص
وكذلك الأوس والخزرج الأنصار، فمواقفهم مع الإمام علي “ع” كبيرة وعظيمة.. من تلك المواقف ما ذكره ابن أعثم في الفتوح: أن علياً لما عبأ أصحابه يوم صفين وتقدمت الأنصار بين يديه براياتها وأعلامها، قال معاوية: من هؤلاء الذين خرجوا في هذه التعبئة، فقيل له: هؤلاء الأنصار، قال: فدعا معاوية بالنعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد- ولم يكن معه من الأنصار غيرهما- فقال لهما: يا هذان! ماذا لقيت من قومكما الأوس والخزرج، قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم وأقبلوا يدعون الناس إلى المبارزة حتى إني والله ما أسأل عن فارس من فرسان الشام إلا قيل: قتله فلان الأنصاري، ألا يرجعون إلى أكل التمر والطفيشل ويتركوا الحروب لأهلها؟! قال: فغضب النعمان بن بشير من ذلك ثم قال: يا معاوية لا تلم الأنصار لإسراعهم إلى الحرب، فإنهم هكذا كانوا في الجاهلية، وأما دعاؤهم الناس إلى النزال، فقد رأيتهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورأيت بلاءهم بين يديه، وأما التمر فإنه كان لنا، فلما ذقتموه غلبتمونا عليه وشاركتمونا فيه، وأما الطفيشل فإنه كان لليهود، فلما ذقناه غلبناهم عليه..
قال: وبلغ ذلك قيس بن سعد بن عبادة، فقال: يا معشر الأنصار إن ابن آكلة الأكباد قال كذا وكذا، وقد أجاب عنكم صاحبكم النعمان بن بشير، ولعمري لئن وترتموه في الإسلام فقد وترتموه في الجاهلية، وأنتم اليوم مع ذلك اللواء الذي كان جبريل عليه السلام عن يمينه وميكائيل عن يساره، واليوم تقاتلون مع لواء أبي جهل بن هشام ولواء الأحزاب..
وقوف اليمانيين إلى جانب أهل البيت “ع”
وقف اليمانيون بعد استشهاد الإمام علي “ع” مع الإمام الحسن “ع”، وبالذات بعد تلك المحنة التي جرت على الإمام الحسن “ع” نتيجة خذلان الناس له وجريهم وراء أموال معاوية وبريقها الساحر..
ومواقف اليمانيين عديدة مع الإمام الحسن “ع”، أبرزها عندما أرسل الإمام الحسن بن علي عليهما السلام عمرو بن سلمة الأرحبي مع محمد بن الأشعث بن قيس في الصلح بينه وبين معاوية، فأعجب معاوية ما رأى من جهر عمرو وفصاحته وجسمه..
فقال معاوية له: أمضري أنت ؟
قال: لا.. ثم قال عمرو الأرحبي:
إني لمن قوم الله مجدهم.. على كل باد في الأنام وحاضر
أبوتنا آباء صدق نمى بهم.. إلى المجد آباء كرام العناصر
وأماتنا أكرم بهن عجائزا.. ورثن العلا عن كابر بعد كابر
جناهن كافور ومسك وعنبر.. وليس ابن هند من جناة المغافر
أنا امرء من همدان، ثم أحد أرحب.. فأفحم معاوية..
وكذلك فعل اليمانيون مع الإمام الحسين “ع”، فقد وقفوا معه في تلك المعركة الأشد دموية في تاريخ البشرية كلها، بل كانوا يتصدرون جبهة الوفاء حين تقهقر الناس عن نصرته خوفاً من سلطة يزيد وطمعاً في هذه الدنيا الفانية..
فإذا كان عدد الشهداء مع الإمام الحسين “ع” 87 شهيداً، 54 منهم كانوا من اليمانيين، منهم: زهير بن القين البجلي، وعابس بن شبيب الشاكري..
ومن أبرز تلك المواقف العظيمة لليمانيين أيام كربلاء: أنه لما سمع مسلم بن عقيل بقدوم عبيد الله بن زياد إليه ليقتله خرج مسلم من الدار التي كان فيها في جوف الليل وأتى دار هانئ بن عروة المذحجي اليماني فنزل عنده، وجعل يأخذ البيعة للإمام الحسين “ع” سراً، ويكتب أسماءهم، ويأخذ عليهم العهود والمواثيق حتى بايع مسلم بن عقيل نيف وعشرون ألفاً، ولما علم عبيد الله بن زياد بمكان مسلم بن عقيل أتى إلى منزل هانئ بن عروة المذحجي، ووجه بالشرط يطلبون مسلماً، وهنا طلب عبيد الله من هانئ بن عروة أن يخبره بمكان مسلم بن عقيل، فرفض هانئ أن يتحدث عن مكانه، وقال لعبيد الله: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها لك ابداً لتقتله..
فازداد غيض عبيد الله بن زياد، فقتل هانئ شر قتلة..
وكذلك هم اليمانيون مع الإمام زيد بن علي “ع”، فقد وقفوا معه في تلك اللحظة التي خذله فيها الناس وجعلوها حسينية، ومن أبرزهم: نصر بن خزيمة العبسي، الذي ثبت مع الإمام زيد “ع” حتى استشهد وصلب معه في كناسة الكوفة..
واستمرت رحلة اليمانيين الجهادية مع أئمة أهل البيت “ع” عاماً بعد عام إلى أن استدعوا الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين “ع” في القرن الثالث، واستجلبوه من الرس، ليقيم الدولة الإسلامية في أرضهم اليمن، وخصوصاً بعد تفاقم الخلافات، وتشتت الدويلات، وتفشي الانحرافات، فدخل الإمام الهادي “ع” إلى اليمن، وأقام فيها الدولة العادلة التي ظهرت كأرقى دولة إسلامية على مر التاريخ..
ومنها ابتدأت مرحلة جديدة من مراحل أهل البيت “ع” جهاداً وتعليماً، وأهل اليمن معهم لا يحيدون عنهم قيد أنملة عبر السنوات المتلاحقة، وإلى زماننا الحاضر..
خاتمة
ليس بمستنكر ما نراه اليوم من بأس اليمنيين ووقوفهم في وجه أعتى الدول أمريكا وإسرائيل، ومن يمثلها من كافة الدول الأجنبية والعربية، خصوصاً الخليجية وعلى رأسهم السعودية، التي تقود علينا أشرس عدوان عرفه التاريخ، فإن تكن المخططات الأجنبية قد فشلت مساراتها في أرض اليمن، وتكسرت أحجارها على أيدي المجاهدين في الجبهات، وجهود المخلصين من أبنائها، فلأن هؤلاء من أولئك، فهؤلاء هم أحفاد أولئك الذين كان لهم دور بارز في كسر شوكة الكفر وأهله في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مروراً بالإمام علي “ع”، وإلى أئمة أهل البيت “ع”، وهكذا عبر السنوات المتعاقبة، وها نحن نراها تتجلى أكثر في هذا الزمان، حيث أصبح اليمنيون هم من يغيرون موازين القوى، ويحرفون معادلة القوة في العالم كله..
وصدق النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال ” إذا اشتدت الفتن فعليكم باليمن “، وعندما قال “الإيمان يمان والحكمة يمانية” و«إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن».