الأمن الغذائي في الإسلام.. الحلقة الثالثة
أصبحت البلاد العربية اليوم مستوردة لكل أنواع السلع الغذائية
كثيراً ما يستخدم كسلاح تضغط به دول الفائض الغذائي على الدول المستوردة
نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة سلطة تمكنها من السيطرة الاقتصادية والسياسية
الثورة / علي أحمد الصوري
تتصدر الحبوب الغذائية قائمة المستوردات الغذائية للبلاد العربية، ويعتبر القمح أهم الحبوب الغذائية المستوردة، حيث تبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي منه في الوطن العربي، وفي عام 1984 نحو 34 % فقط إلا إن هذه النسبة في زيادة مستمرة بسبب الزيادة السكانية .. وعلى أية حال فقد أصبحت البلاد العربية اليوم مستوردة لكل أنواع السلع الغذائية … !!
وعلى الرغم من أن مشكلة الغذاء اقتصادية في المقام الأول، إلا أن لها أبعاداً أخرى كثيرة، وبخاصة البعد الأمني والسياسي. ولذلك، فالمسألة ليست بهذه البساطة ولا يعبر عنها – كما يظن البعض – بالعجز الناجم عن تفوق الواردات على الصادرات، صحيح أن بعض الدول العربية يشكل هذا العجز في إنتاج الغذاء مشكلة اقتصادية لها، إلا أن البعض يستطيع دفع ثمن مستورداته من الغذاء دون مشقة .. لكن .. ليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة في المقام الأول هي مشكلة إنتاج غذاء من مصادر محلية، أكثر من كونها أزمة غذاء .. وجوهر هذه المشكلة يتلخص في أن الغذاء سلعة غير مرنة، لا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها ولو إلى حين، ولهذا السبب، فإن نقص الغذاء وارتفاع أسعاره كفيل بتوليد الكثير من المشاكل الأمنية، كالفوضى والاضطرابات واختلال الأمن داخل البلاد … !!
كما أن الاعتماد المتزايد على الخارج لتلبية حاجات الدولة من الغذاء يعد مسألة خطرة .. فكما رأينا في الصفحات السابقة – أن الغذاء كثيراً ما يستخدم كسلاح تضغط به دول الفائض الغذائي على الدول المستوردة، لتذعن لرغباتها وتنفذ مخططاتها … ومما يؤكد هذا القول أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كلفت خبراءها بوضع تقري-ر بناءً على طلب من وزير الخارجية الأسبق ( هنري كيسنجر) عشية انعقاد المؤتمر العالمي حول التغذية في مدينة روما عام 1974م.
وقد جاء في التقرير ما يلي :
( إن نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة سلطة لم تكن تملكها من قبل، إنها سلطة تمكنها من ممارسة السيطرة الاقتصادية والسياسية تفوق تلك التي مارستها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية .. ).
وهل تغيرت النظرة الأمريكية ؟ .. بالتأكيد لا، بل قامت بتدعيم هذه النظرية عن طريق المعونات التي تقدمها للدول، لضمان تأييدها.
ومن أجل مواجهة هذا التحدي الخطير الذي يهدد الأمن الغذائي العربي.ينبغي وجود تعاون وتضافر الشعوب العربية والإسلامية فيما بينها، لوضع استراتيجية غذائية موحدة تضع في اعتبارها النقاط التالية :
1- إنتاج الغذاء مسؤولية قومية.
2- تنمية الموارد المائية وصيانتها واستغلالها مسؤولية عربية إسلامية.
3- التعاون العربي في صناعة المستلزمات الزراعية.
4- التعاون العربي في بناء البنية التحتية.
5- الإصلاح الزراعي على المستوى العربي.
6- استثمار جزء من الإيرادات النفطية في تنمية القطاع الزراعي ونجاحه فيما يتعلق بإنتاج الغذاء (17).
إذا كانت المشكلة بهذا الحجم من الأهمية .. فإن السؤال هو : لماذا لا يقوم تكتل عربي إسلامي للاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية والخبرات الموجودة في العالم العربي والإسلامي، حتى يمكن لهذا العالم أن يتخطى هذه العقبة الكؤود (18).
والسؤال الأهم هو :
لماذا فرط المسلمون – والعرب – في تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المشرقة حتى وصل بهم الحال إلى هذه الدرجة من التأخر والتخلف في كافة المجالات حتى يظل العالم الإسلامي بالذات يصنف في الدول النامية والمتخلفة .. ؟!!!
الفصل الثاني
أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة النبوية
/1/ الزراعة وأهميتها :
في واد غير ذي زرع، في الجزيرة العربية، بدأ الإسلام على يد النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن الكريم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وألهمه التشريع والحديث، وعلمه ما لم يكن يعلم .. وشرح الله صدور قوم مؤمنين، وانطلق المجتمع الإسلامي يعمر ويوفر الخير لكل الناس في كل المجالات، مسترشداً بنور كتاب الله تبارك وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومستظلاً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، فالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة هما الأساس الفكري لكثير من العلوم الأساسية ثم لكثير من العلوم التطبيقية التي ترتبت عليها وتطورت مهمة نتيجة للدراسات المستفيضة، واكتشاف الكثير عن الحقائق العملية التي تذاع وتنشر.
والأمر الذي يجب تأكيده هنا هو أن القضايا التي كثر الحديث فيها كفضل العلم والعلماء في الإسلام، وعدم تعارض الدين مع العلم، أصبحت معلومات وقضايا محسومة، والعلم بها أصبح ضرورة من الضرورات لكل من يعنيه هذا الشأن، ويكفي أن القرآن الكريم قد قرر أن أكثر الناس خشية لله هم العلماء، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر : 28].
ولا أدل على بطلان دعوى تعارض العلم مع الدين، من أن الله سبحانه وتعالى هو المشرع والخالق، فهو الخالق لكل الكائنات، ومرسي الجبال، ومجري الأنهار والبحار والمحيطات، ورافع السماوات، وباسط الأرض.
وعلى العموم، فإن العقلانية في الإسلام أمر معترف به، اعترف به كل منصف، ومن المعلوم أيضاً أن الكنيسة ورجالها وآباءها السابقين الذين اخترعوا الدين من عند أنفسهم، هم الذين وقفوا في وجه العلم والعلماء، حتى كان الفصام المستمر بين العلم والكنيسة.
ومن المتفق عليه أن القرآن الكريم – كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ملئ بالآيات التي تدعو إلى التفكير في ملكوت السماوات والأرض، وفيه كثير من العبر التي تتصل بالنبات والحيوان، يقول الحق تبارك وتعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [النحل : 13]، ويقول عز من قائل : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية : 4]، ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } [الذاريات : 20 – 23] … ليس هذا فقط، بل إن كتاب الله المعجز مليء بالآيات الكونية التي تلفت أنظار المؤمنين إلى ما في هذا الكون من آيات تنطق بالوحدانية وتدعو المتأمل إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.
الزراعة ونشأة الحضارة .. !
وفي حديثنا عن أصول الأمن الغذائي نجد أن الزراعة تعتبر أول اصل من هذه الأصول، فهي بحق تعتبر البداية الحقيقية لقيام الحضارات واستمراريتها … والإنتاج الزراعي موسمي، فهذه الزراعة صيفية، تلك شتوية وهذه نيلية، وهكذا فمع أن الإنتاج موسمي، فإن الاستهلاك مستمر على مدار العام كله، لا فرق بين صيف وشتاء، وربيع وخريف، وهو ما يؤكد حتمية وجود ما يسمى بـ ( المخزون الاستراتيجي)، أو على الأقل المخزون الذي يكفي حتى يحين موعد موسم الحصاد التالي، ومن هنا كانت حتمية الاحتفاظ بالمنتجات سليمة لكي تفي بمتطلبات الاستهلاك … ونتيجة حتمية أيضاً تنشأ وسائل التخزين وأنماطه وطرقه ودراساته، وغير ذلك كثير.
كذلك، فإن التخصص، والتمنطق، صفة من صفات الإنتاج الزراعي، فهذه الأرض الصفراء أو الطينية أو الخفيفة يجود فيها إنتاج الحبوب، وتلك يجود فيها إنتاج الفاكهة، وتلك يجود فيها إنتاج الألياف والسكريات ومحاصيل الزيوت .. وهذا الاختلاف يؤدي حتماً إلى ضرورة تكامل بين هذه المناطق، فهذه تصدر إلى تلك، وتلك تصدر إلى هذه، حتى تستمر الحياة، ومن هنا كان ( التبادل التجاري) حتمية اقتضتها خصائص الإنتاج الزراعي.
ولقد كانت التجارة بالمنتجات الزراعية عاملاً مهماً من عوامل انتشار الإسلام في منطقة آسيا، وبخاصة جنوب شرق آسيا، مثل : ماليزيا وإندونيسيا وغيرها.
وإذا كانت الزراعة أساس المنتجات، فإنها بل شك أساس التصنيع، وخاصة في الصناعات القائمة على المواد الخام الزراعية، غذائية كانت أم كسائية، بل لقد نشأت علوم التسويق والتعبئة والتغليف وغير ذلك، نتيجة لهذا التخصص والتمنطق (19).
أولا : الزراعة وفضلها وحث الإسلام عليها :
/1/ القرآن الكريم كثيراً ما يتحدث عن ضرورة الزراعة وأهميتها :
يقول الإمام القرطبي عند قول الله تبارك وتعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 261]، إن الآية دليل على أن اتخاذ الحرث من أعلى الحِرَف للمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولهذا ضرب الله بها المثل (20).
كما أن كثيراً من الآيات القرآنية تتحدث عن المحاصيل الزراعة وتنويعها، بما يعط إشارة قوية إلى ضرورة الاقتداء والمحاكاة، حتى لا يكون الإنتاج الزراعي أو التصديري معتمداً على محصول واحد بما يكتنفها من المخاطر الاقتصادية المعلومة، يقول الحق تبارك وتعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99]، ويقول الحق تبارك وتعالى : { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد : 4].
كما أن آيات القرآن الكريم فيها ما يربط الزراعة بغيرها، فهناك ما يربط الإنتاج الزراعي بالإنتاج الحيواني ويبين التلازم بينهما ….. يقول الحق تبارك وتعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } [السجدة : 27].
كما أن بعض آيات القرآن الكريم يربط مراحل الإنتاج الزراعي، من حرث الأرض واستصلاحها وسقيها بالماء ثم بعد ذلك الحصاد والتخزين … وهذا كله واضح في قوله الحق تبارك وتعالى : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً } [عبس : 24- 28].وقول الحق تبارك وتعالى : { …… فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ } [يوسف : 47].
/2/ أما السنة النبوية فيها من الحض على الزراعة والإعلاء من شأنها:
يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )(21).
فقد تميزت الزراعة دون سائر أوجه النشاط الإنساني، بل دون سائر أوجه النشاطات الاقتصادية الأخرى ( كالتجارة والصناعة)، بأنها أساس الاستقرار والحضارة والتنمية، وقد تمارس ابتغاء المثوبة من الله سبحانه وتعالى، وهذا ظاهر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يوضح أهمية هذا العمل ويتضح هذا بصورة رائعة حين نعلم أن مثوبة الزارع والفارس ممتدة إلى ما بعد الموت وصدقة جارية إلى يوم القيامة .. ففي رواية : ( فلا يغرس المسلم غرساً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة )(22).
ولقد اهتم الإسلام في تشريعاته كثيراً بأمر الزراعة، وخاصة في المناطق الخالية – كما سنوضحه فيما بعد ..
/3/ إن أفعال الصحابة كلها تدل على الاهتمام بالزراعة وتنميتها والمحافظة عليها، وليس أدل على ذلك مما جاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – في كتابه لواليه على مصر، قال له : ( وتفقد أمر الخراج ما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في جباية الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب الأرض) (23).
تقلص البقعة الزراعية وهدى الإسلام في زيادتها والمحافظة عليها …
من المتفق عليه أن مصر – مثلاً – تبلغ مساحتها مليون كيلو متر مربع، وأن المساحة التي يستفاد بها هي المنطقة في وادي النيل ودلتاه، وهي تبلغ 4.5 % فقط من إجمالي المساحة، ولذلك – ومع الزيادة السكانية المستمرة، فإن مساحة الرقعة الزراعية تتقلص وتنكمش يوماً بعد يوم، ولهذا قامت خطط التنمية الشاملة على أساس زيادة مساحة الأراضي الزراعية من ناحية، ووقف الانفجار السكاني من ناحية أخرى … وعلى الرغم من خطط التنمية المستمرة، فإن البلاد لم تصل إلى هذه النتيجة بعد، بل ما زالت التحذيرات المستمرة يومياً من الانفجار السكاني وإهدار الموارد، وخاصة مياه النيل .. الخ، كانت الخطة الخمسية الأخيرة تهدف إلى زيادة الرقعة المستخدمة لتصل إلى 25 % من مساحة مصر الإجمالية، لكننا لم نصل إلى هذا الرقم بعد…
يأتي الإسلام – بما سن من تشريعات – ليعطي العالم كله البداية الحقيقية لحسن الاستفادة من الأرض، والعمل على الانتفاع الحقيقي من الموارد البشرية والطبيعية المتاحة، وذلك بإفساح الطريق أمام القادرين على العمل ليأخذوا مكانهم الصحيح وسط دولاب العمل، ليس عن طريق التوظيف ولكن عن طريق التمليك وشتان بين الاثنين.
(أ) إحياء الموات :
ويقصد به إحياء الأرض الموات … وهو أن يعمد شخص إلى أرض لم يتقدم عليها ملك لأحد فيحييها بالسقي أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه ..
وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر إحياء الأرض الموات إنما هو عودة للمبدأ القديم الذي بدأت به ملكية الأرض في الدنيا .. ففي بداية تعمير الأرض عند بدء الخليفة كان المبدأ الذي يجري به العمل أن كل أرض عمرها أحد الناس وأصلح شأنها وجعلها قابلة للانتفاع فهو أحق بها، وهذا المبدأ من عطايا الفطرة البشرية .. وقد عبر الفقهاء عن استغلال قشة الأرض عن طريق تعميرها بالزرع والغرس بالإحياء اقتباساً من قول الحق تبارك وتعالى : { وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس : 33].
ثم جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتحفز الأفراد إلى التعمير والتنمية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( من أعمر أرضاً ميتة ليست لأحد فهو أحق بها) (24).. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )(25) .. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحاط حاطاً على أرض فهي له )(26) .. وقال عليه الصلاة والسلام : ( من سبق إلى ما لم سبقه إليه مسلم فهو له )(27).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الإحياء وتحقيق التنمية وعمارة الأرض إنما هو هدف في حد ذاته قبل أن كون وسيلة للملكية، وأن الإسلام يستغل فطرة الإنسان التي فطره الله عليها – من حب التملك – في تحقيق الهدف المقصود، وهو إعمار الأرض والاستفادة بها ومنها ..
ولعل أهم ما يمكن تحقيقه من وراء تشريع إحياء الموات ما يلي :
(1) حفز الأفراد على العمل والقضاء على البطالة، باستغلال الطاقات المعطلة في عملية إحياء الأرض، فلو تم توجيه طاقات الشباب المتعطلين والذين يشكون من البطالة إلى هذه الوجهة لرأينا العجب العجاب، بشرط توفير البيئة المناسبة لهم وعدم قتلهم وقتل آمالهم البيروقراطية والروتين الحكومي الذي قتل كثيراً ممن قبلهم.
(2) زيادة رقعة الأرض المنتجة، وزيادة القدرة المادية والمالية للدولة(28)، وهي الهدف الذي تنشده الدول قاطبة – صغيرها وكبيرها غنيها وفقيرها – وهو ما نسعى إليه لتحسين الأوضاع الاقتصادية للعالم الإسلامي …. ففي عملية الإحياء استفادة كبيرة من الموارد الطبيعية المعطلة، واستفادة أكبر من الطاقات البشرية المعطلة وتوجيهها الوجهة السليمة.
(3) ويمكن القول : إنه بالنظر إلى المساحات الشاسعة القابلة للزراعة – والتي يتمتع بها العالم الإسلامي – فإنه يمكن للأقطار الإسلامية، أو المؤسسات المالية الإسلامية التي تملك القدرة على الإحياء والاستصلاح الزراعي، أن تقوم بهذا العمل في ظل تنسيق وتكامل اقتصادي إسلامي، متخذة من أحكام الإسلام في إحياء الموات – والتي يرجع إليها في كتب الفقه – دليلاً لها، خاصة مع وجود المساحات الشاسعة القابلة للزراعة بالرغم من ضآلة المزروع فيها.
وإذا كانت بلدان العالم الإسلامي تعاني من النقص الحاد في الحبوب الغذائية – وأهمها القمح – فإنه يمكن لها مع التخطيط الاقتصادي السليم – بعد عملية إحياء الأرض الميتة – أن يستفاد بهذه المساحات الشاسعة في تأمين الغذاء لكل مناطق وأفراد العالم الإسلامي .. ويكفي أن نعلم – على سبيل المثال – أن بالسودان وحده ما يزيد على (200) مليون فدان صالحة للزراعة، لكن تنقصها الأيدي العاملة وحسن الاستفادة والتمويل اللازم ..