جميل مفرح
تجربة مضيفة
عند التعاطي بفاعلية واهتمام مع تجربة الشاعر الأنيق محمد محمد اللوزي –عموماً-، يدرك القارئ أنه يتعامل حقاً مع نص إبداعي حر ومنفلت من القوالب والمحددات والفرضيات، وما أسهل وأسرع أن تدرك، حين تندمج مع نصوصه كونك تتلقى صوتاً جديداً له ميزاته الخاصة وانسيابه المتفرد به دون غيره، فتوقن أنك أمام تجربة أدبية جديدة عن حق.. إذ أن التجارب الإبداعية الحقيقية هي التي تؤسس للفن الإبداعي الجاد في مختلف ألوانه وفي مقدمة ذلك فن الشعر.. نعم إنها التجارب المعطاءة التي تستطيع الإضافة إلى الموجود دون مرجعيات موجهة أو دلائل وعلامات هدي وإرشاد، ليتناولها فيما بعد الدرس النقدي والبحث الأكاديمي، مؤسساً، عليها وعلى مداركها ومنجزاتها، نظرياته وقراءاته. أي أن المتلقي والمنظر هو من يكون تابعاً لها منفعلاً بها ومتفاعلاً معها.. وليست تلك التي تنبثق من زحام المعارف وتأتي من مجاهل التوجيه النقدي والدرسي، فالنقد بطبيعة الحال تالٍ للإبداع ومؤسس عليه وليس العكس.. وإنما واستدراكاً لما قد نقع فيه من مصادرة وظلم فإن النقد الأدبي يتماشى مع المنتج الإبداعي ويسايره ثم يوفر مفاتح وموجهات للقراءة والتعريف بمسارات الكتابة وتاريخها، أي أنه يوجه التلقي والقراءة وليس الإنتاج والكتابة..
علاقة تأثر وتأثير
والمتتبع لتجربة الشاعر محمد محمد اللوزي -منذ البدايات- يجد بسهولة أن الكائن المبدع في هذه التجربة تخلَّق حراً في شرنقته الخاصة فكان الشاعر.. بعيداً عن لوثات وضجيج التصنع والتصنيع وحركات التفاعل المفتعلة التي كثيراً ما تظهر وتشتهر في الحركات والمشاهد الإبداعية، فينتج عنها تجارب مصنعة ومؤطرة وغير حقيقية في كثير منها، وسرعان ما تسقط في أول اختبار نصي أو نقدي.. ذلك حينما يقف القارئ والمتلقي المتذوق والعارف مع نتاجها الموجود وتفاعلها وتعاملها مع الكتابة كنتاج إنساني له خصوصيات الإبداع والابتكار والإضافة..
ولمحمد تجربة تكونت ونبتت في بيئتها الخاصة والحرة كنبتة معروفة تنبت في البرية التي هي بيئتها الطبيعية، دون حواضن ورعايات وموجهات.. وحين شبت وجدت بل أوجدت نفسها بما تمتلكه من مبررات وإمكانات في الواقع الثقافي والمنتج الإبداعي الكائن، لتكون جزءا منهما ومؤثرا فاعلاً من مؤثراتهما وبالتالي منتجاً من منتجاتهما وليست نتيجة من نتائجهما..
وعي خارج الوعي
والحقيقة أنه إذا كان ثمة أثر بين تجربة هذا الشاعر وواقع الإبداع من حوله، نتيجة احتكاكه به أو بالأصح تواجده فيه، فهو في غالب أمره أثر إيجابي يحسب لتجربة اللوزي، الذي تطور تعامله مع الكتابة من منطلق مميز وهو منطلق الوعي بالكتابة أولا، ثم من خصوصية وتميز تجربته الإبداعية.. وتأسيساً على ذلك نجده وقد أدرك الواقع ونتاج الواقع وما عليه أن يقدمه هو.. وكيف يقدمه، ليكون هو نفسه فقط، الصوت (الخاص) أو ليثبت منتجاً نوعياً جديداً وإضافة ضافيةً إلى الموجود ومتميزة فيه وحتى عنه أيضاً..
وكان وما يزال هذا هو الدرب الذي سلكته وتسلكه تجربة اللوزي منذ البدايات وفي كل أعماله التي تؤكد في مجملها على ما نقوله ونلمسه في تجربة هذا الشاعر الجميل من وعي خارج الوعي بالشاعرية المطلقة لا الشعرية المقولبة..
فطرية الموهبة
الملفت للانتباه أن القارئ لنصوص اللوزي سريعاً جداً ما يقتنصه الاستئناس بها، وذلك نتيجة لما تتميز به من اندفاق شعري لذيذ، لا يهتم لحظتها بشكله، ولكن قد يفعل ذلك لاحقاً إن تطلب الأمر، ولا أظنه يحدث كثيراً.. تشعر وكأنه يلتقط اللغة كأواني أو أصاصي يضع فيها دفقاته النصية ويقدمها للقارئ مهتماً بمحتوى ما يقدمه ومسئولاً عنه، وليس بالمحتوي أو الإناء الذي يقدمه فيه.. ومع ذلك ونتاجاً للممارسة الدائمة والخبرة ومهارات الاكتساب والتثاقف، يولد انسجام حيوي بين ما ينتجه وما يقدم فيه منتجه، فيبدو في غالب نصوصه وكأنه انسجام فطري مطلق.. وهنا تبرز السمة الحقيقية التي تنم عن موهبة فطرية حقيقية وفطنات ومدارك مكتسبة توالياً وتراكمياً..
لا أريد أن أبدوا منظِّراً ومقايساً أو محكماً يعرض عليه تمثال فيلتقط سكينه ويحاول تشذيب التمثال وهو يتناول جمالياته ومآثر نحاته، ليبدو ذا خبرة.. لا أريد إلا أن أعرض ما لمسته قراءتي في هذا الشاعر وشعرت به في نتاجه الإبداعي بكوني قارئا وشاعراً ومحرراً ثقافياً تعاملت كثيراً جداً مع الكثير من التجارب ومن أزمنة وأجيال مختلفة.
محطات تزود وعطاء
من نافل القول ربما التأكيد على أن التجارب الحقيقية والأصوات الإبداعية التي لديها ما تعطي لا تعدم وسائل وكيفيات جلب الاهتمام إليها، ولأن تجربة اللوزي قد لفتت الانتباه إليها باكراً وكنت أنا أحد المهتمين بشكل شخصي وحباً في الاطلاع ومتابعة ومسايرة كل منتج ومنجز جديد باعتبارنا من نتاج وأصوات ذات الحقبة والجيل تقريباً.. وقد تابعت هذه التجربة ضمن عدد من التجارب الجديدة والمجددة، التي مثلت بالنسبة إليه محطات تزود وعطاء، ابتداء من كتاب (الشباك تهتز العنكبوت يبتهج 2001م) ومروراً بـ (إجازة جيري 2008م) و (حبة خال في ساق الفراشة 2015م) ووصولاً إلى واحد من أحدث مؤلفات محمد اللوزي الشعرية وهو كتاب (قهقهات الفتى الأخرس).. وهو كتاب يطوي في اثنتين وتسعين صفحة من القطع الصغير على ثمان وخمسين نص أو لوحة شعرية، تقدم صوتاً جديداً، وليس مرحلة كما يفضل آخرون.. ذلك أن الشاعر والمبدع الحقيقي هو الذي يتغير ويتبدل في تجربته تبدلاً شاعرياً كلياً وليس على مستوى الكيفيات والأدوات والطرق وحسب..
إذ ينبغي على المبدع في كل منحنى من منحيات إنتاجه أن يكون مضيفا للمنتج الحاصل وأن يقدم صوتاً جديداً وشاعراً أكثر حيوية وتفاعلاً ومسايرة للكتابة في مختلف أزمانها ومحطاتها، متبرئاً من الشاعر الذي كان عليه قبل لحظة أو موعد الإعلان عن إصدار ونشر جديده.. وإلا فما فائدة تكرار الطباعة والإصدار إن لم يكن ثمة جديد فيما يقدمه..؟!
وهذا بالفعل ما ينطبق على تجارب الكثير من الشعراء وكتاب القصة والتشكيليين الذين برزوا في عقد التسعينيات وطوروا تجاربهم ونتاجاتهم بما يتماشى مع حراك ثقافي وإبداعي متميز، بل هو الأبرز تقريباً في مراحل وأجيال الإنتاج الإبداعي أدبياً كان أو فنياً في الحياة الثقافية اليمنية المعاصرة وما جاورها من مشاهد ثقافية عربية وأجنبية..
ومن هذه التجارب والأصوات تأتي تجربة اللوزي كواحدة من أهم العلامات نظراً لتميزها في التعاطي مع الكتابة الشعرية وبكيفيات جديدة وطرق التعامل معها ووسائل التواصل والاتصال التي كانت حاملاً وعاملاًً ناجحاً في خروج المبدع اليمني من قوقعته الاختيارية لعقود من الزمن ولأجيال متتالية حتى مطلع عقد التسعينيات، الذي كان، في رأيي، منفذاً إلى عوالم أكثر اتساعاً واحتكاكاً واطلاعاً، وبالتالي أكثر تنوعاً وتجدداً ومسايرة للمنتج الإبداعي خارج خارطة الجماعة أو الشلة أو المؤسسة الأدبية المحلية..
وعي وثراء
وعوداً على محمد اللوزي شاعر هذه الوقفة وعلى كتابه (قهقهات الفتى الأخرس 2018م) فما أسرع ما نلحظ أننا أمام تجربة جادة على عكس ما يراها البعض ممن يستسهلون الكتابة والتعامل معها ويستهلكون أحكامهم عليها، باعتبار الصداقات والشلليات ومثيري النعرات والحساسيات الجوفاء والتعصب الأخرق في المشاهد الإبداعية حول الأواني والمحتويات وأعني بها الأصناف والألوان والأشكال الكتابية، التي تتعايش في هذا المشهد أو ذاك سواء على المستوى المحلي أو على المستوى القطري والإقليمي..
تجربة اللوزي في هذا الكتاب تأتي لتؤكد رؤيتنا بكونها بالفعل تقدم صوتاً شعرياً جديداً، انحنى وينحني لمظاهر التغيير والتجديد في الشكل، كما هو ذلك في المضمون والمعالجة أيضاً، على مختلف مظاهر ومستويات التباين والتغيير في البنية الأصلية للنص.. إلا أن ثمة نسقاً خفياً وحساساً يستطيع إدراكه المعني بالكتابة الجديدة والمتابع الجاد لمسيرتها.. هذا المتابع هو من يستطيع أن يدل على منتج هذا العمل وتمييزه عن ذاك، فضلاً عما هو معروف سابقاً من أسلوب ولغة وأدوات فنية أخرى..
ففي ققهات هذا الفتى يبدو محمد اللوزي بتلك البساطة والتلقائية البريئة والجميلة رغم مكتسباته وخبراته ومؤثرات التجديد الخارجية والداخلية، التي عاشها وحصدها وتعامل معها طوال أكثر من عشرين عاماً من التعاطي مع الكتابة الشعرية (الجديدة في غالب الأحوال) ومتابعة أحوالها والانغماس في مجتمعها الزاخر بالتنوع والتعدد، والجماعات والتوجهات وقضاياها من جديد وكلاسيكي وموزون ونثري إلى معنوي وإدراكي وشكلي ووصفي وجماهيري ونخبوي وقضايا وموضوعات حساسة كثيرة شغلت وما تزال تشغل معظم كتاب ونقاد ثلاثة أجيال أدبية متوالية، هنا على المستوى المحلي شأنها شأن ما هو كائن هناك على المستوى العربي..
لقد أثرى اللوزي من هذه وتلك ثراء مناسباً ومتوازياً مع ما تتطلبه تجربته ويقتضيه تعايشه وانفعاله مع الكتابة وجديدها ومتجددها، فظهر في كل من إصداراته بهيئته الجديدة وبمفهومه المتجدد للكتابة ما يبرر بجدارة ويستدعي بثقة تجديد إعلانه عن نفسه هنا أو هناك.. وهذا بطبيعة الحال ما يلزم كل تجربة نوعية لها حضورها وتفاعلها مع الواقع الإبداعي من حولها.