ربيع اليمن وأزمة الدولة بين خيارين: ثورة شعبية أم دولة فاشلة؟ (الحلقة الأولى)

عبدالملك العجري

 

 

كانت اليمن ثالث دولة عربية بعد تونس ومصر اكتسحتها موجة ما سمي حينها بالربيع العربي. وفيما عدا هذا القاسم المشترك اتخذت اليمن مسارا مختلفا، في مصر وتونس قادت الدولة الحوكمة الوطنية وتولى الجيش الإشراف على سير العملية الانتقالية والإصلاحات الدستورية والديمقراطية لمؤسسات الدولة في حين كان الأمر مختلفا تماما في اليمن، فقد دخل المجتمع الدولي والإقليمي بقوة على مسار الأحداث وكان دورهم حاسما في ضبط مسار ونتائج الأحداث وتصميم نموذج الانتقال من خلال المبادرة الخليجية والتوجيه المفاهيمي والنظري لمؤتمر الحوار والإشراف على المرحلة الانتقالية، وإبقاء القضية اليمنية قيد النظر الدولي، ورغم إصرار المتظاهرين في الساحات على توصيف أحداث فبراير بالثورة الشعبية نظير ما حدث في تونس ومصر إلا أن مقاربة المجتمع الدولي لليمن على حد ياسين سعيد “أنه بلد أخذ يشكل خطراً على نفسه وعلى أمن الإقليم والمجتمع الدولي”، دولة هشة ونظام منقسم على نفسه وتنذر المواجهات المحتملة بين طرفي النظام بانهيار الدولة ما يستدعي التدخل الخارجي لإرساء الاستقرار على نحو ملح، وعلى حد وثيقة مخرجات الحوار الوطني « عندما أصبح الوضع السياسي في عام 2011 ينذر بحرب أهلية لم يكن تأثيرها ليقتصر على اليمن فقط بل قد يمتد للتأثير على دول الجوار وعلى امن خطوط الملاحة البحرية، ووجد المخلصون من أبناء اليمن ومكوناته أنفسهم – ومعهم المجتمع الدولي عموما والخليج خصوصا – أمام مسؤولية تاريخية وإنسانية تقتضي التدخل السريع لاتخاذ مخرج وحل سياسي ينزع فتيل المواجهة ورسم خارطة طريق للانتقال السلمي عبر المبادرة الخليجية 3 أبريل 2011م».
في مرافعة ياسين سعيد عن الثورة والمبادرة أشار إلى أن الانقسام الرأسي للنظام سهل لصالح تجييره لصالحه في تصوير الوضع على أنه صراع داخلي لكن الأخطر من ذلك أن الانقسام الرأسي للنظام أفرز انقساما رأسيا للمجتمع أيضا ذلك أن أي ثورة تحدث عادة تكون نتيجة للتناقض الشديد بين مصالح الطبقة المسيطرة وبين بقية فئات الشعب المسحوقة ذات المصلحة. وثورة فبراير فـي بدايتها كانت تعبيراً عن هذا التناقض لكن عندما تحولت ساحة الجامعة من منصة لثورة الشعب إلى منصة لإعادة تصدير رجالات العهد القديم المنشقين على صالح من قيادات الإصلاح والجنرال علي محسن وأسرة آل الأحمر، فإنها كفت عن كونها ثورة وطغى عليها الوجه الحزبي سيما أن الفصيل المنشق عنه يتشابه مع نظام صالح لحد التطابق فـي خصائصهما ومصالحهما الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتخلى المتظاهرون عن استقلاليتهم وتمسك جماهير الأحزاب في الساحات بقياداتهم ما دفع الأحزاب الأخرى إلى التمسك بقياداتهم، ودفع جماهير المؤتمر المسحوقة – التي لا يختلف وضعها عن وضع معظم فئات الشعب اليمني – إلى التمسك بقياداتهم، وربما لو حافظ الشباب في الساحات على استقلالهم وواصلوا مطالبهم لما استطاع صالح أن يتمادى في استخدام القوة وربما كان التنازل لصالح ثورة شعبية أسهل على صالح ونظامه من التنازل لصالح شركائه المنشقين عليه .
في النهاية كان مقاربة المجتمع الدولي والإقليمي هي التي حكمت المرحلة الانتقالية، والخيار الذي فرضه الرعاة الإقليميون الدوليون على النخب السياسية في السلطة والمعارضة، وكل ما في الأمر أن تقديم المشترك نفسه معبرا عن الثورة سهل للمجتمع الدولي والإقليمي إيجاد طرف للإمساك به لاحتواء وتكييف الثورة وضبط حدود التغيير، بما يخدم مصالحهما الاستراتيجية، وفي نفس الوقت إظهار لاستجابة لتطلعات الشعب بالانتقال السلمي للسلطة، فاليمن أصبح لديه زعيم جديد الذي هو مطلب اللقاء المشترك سيما الإصلاح وآل الأحمر.
لا نريد هنا أن ندخل في سرد مسار أحداث وقائع العملية الانتقالية أو محاكمة أهداف المتظاهرين بقدر ما نريد استكشاف أهم المفاهيم والتدابير التي يستعين بها المجتمع الدولي لإعادة بناء الدول الفاشلة في ضوء قدرتها على معالجة أزمة الدولة اليمنية وحتى تتضح الصورة من المهم أن نلقي نظرة سريعة على خلفية الدولة الفاشلة من مفهوم دولي وتقييم الأساليب، والأدوات التي يعتمدها لإعادة بناء الدولة الفاشلة.
يعد مفهوم الدولة الفاشلة من أهم المفاهيم الاستراتيجية توجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة والمجتمع الدولي بداية من التسعينات مع نهاية الحرب الباردة، حيث اعتبرت الدولة الفاشلة أو الهشة خطرا يهدد الاستقرار والأمن الدوليين، تُعرَّف الدولة الفاشلة أو الهشة بأنها تلك التي تعاني من عجز في القيام بوظائفها في رعاية وحماية مواطنيها ومسؤولياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية وعجز الطبقة السياسية حل مشاكلها لوحدها والخروج من دورة الفشل من دون تدخّلات خارجية مكثّفة.
ارتبط ظهور مفهوم الدولة الفاشلة، بالتغيّر الحاصل في هيكليّة النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، وأثر الفراغ الذي تركه سقوط الاتحاد السوفييتي على انهيار الدولة في عدة مناطق من العالم والتهديدات المرتبطة بها، والانتهاكات الخطيرة تسببت فيها لحقوق الإنسان في الصومال وهايتي وكمبوديا والبوسنة وكوسوفو، إضافة لبروز الولايات المتحدة الأمريكية الدولة القائدة للنظام العالمي، واعتمادها رؤية استراتيجية جديدة لإعادة هندسة النظام الدولي.
وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001م لتعد المسرح لأجندة مختلفة تتصل بتهديدات أمنية جديدة زاد من الاهتمام العالمي بمخاطر الدول الفاشلة وراج توجه سياسي وأكاديمي يربط ما بين ظاهرتي الدول الفاشلة والأنظمة السلطوية وانتشار الإرهاب والهجرة، والفقر، ودعا إلى دمج سياسة التدخل الخارجي لإعادة بناء الدولة الفاشلة على جدول الأعمال الدولية، وتطوعت الولايات المتحدة لحمل هذه المهمة، وفرض الديمقراطية كاستراتيجية لمحاربة الاستبداد والإرهاب بحجة منع تحول هذه الدول لملذات آمنة للإرهاب الدولي، وتهريب السلاح، وتدفق المهاجرين وغيرها من المخاطر باعتبارها شرطا أساسيا لتوفير الأمن العالمي .
وساعد التحول الديمقراطي السهل والسريع لدول أوروبا الشرقية – بمساعدة الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي – وارتفاع عدد الدول التي تتبنى النظام الديمقراطي وأعداد الناس الذين يعيشون في ظل نظام ديمقراطي وتوسع الالتزام العالمي باقتصاد السوق الحر، على انتشار روح تفاؤلية تقدم الديمقراطية الليبرالية كحل سحري لكل المشاكل، وأنها يمكن أن تنتشر في أماكن وفي أي ظروف بنفس المرونة (سنعرج لاحقا على أسباب سهولة انتشارها في أوروبا الشرقية)، ومن ثم أصبح جوهر عملية إعادة بناء الدولة يركز على قضايا التحول الديمقراطي الليبرالي وحقوق الإنسان والمشاركة والإصلاح السياسي والاقتصادي.
تتألف استجابة الدولة لمواجهة مخاطر الدولة الفاشلة من أدوات سياسية ودبلوماسية وتنموية واقتصادية وأمنية وعسكرية حسب درجة المخاطر لإعادة بناء الدولة الفاشلة أو الضعيفة، فقد تكون مباشرة تنطوي في أغلب الأحيان على عمليات قسرية أو عسكرية، كما حصل في العراق وأفغانستان، أو عن طريق الإشراف الأممي أو الإقليمي على الحوكمة الوطنية، أو غير مباشرة قرارات مجلس الأمن وممارسة الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية وأدوات الهيمنة الناعمة لتطويع الدولة المستهدفة، إضافة لجعلها ركيزة أساسية في عمل المؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين اللذين أصبح على عاتقهما – على حد الدكتور الأفندي – التأثير في السياسات الاقتصادية للدول في الاتجاه الذي يرسخ نظام الحرية الاقتصادية وإطلاق المبادرات الخاصة، وعلى المستوى الرسمي سعت الإدارات الأمريكية ومجتمع المانحين إلى ربط عونها ودعمها الاقتصادي لدول العالم الثالث بإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية.
لكن حصاد ثلاثة عقود من التدخل لبناء الدول الفاشلة أو المتهمة بالفشل الذي حملت لواءه الولايات المتحدة جاءت مخيبة لكل التوقعات ومثّل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان بعد عشرين عاما من الجهود الأمريكية بحجة بناء دولة ديمقراطية في أفغانستان قمة الانكشاف، ولا يختلف الوضع في العراق (اليمن كما سيأتي يقدم شاهدا إضافيا على فشل الحوكمة التي يهندسها ويشرف عليها الخارج)، وبحسب العديد من المراقبين أدت هذه التدخلات إلى إجهاض قدرة المجتمعات والنخب الوطنية على ابتكار الحلول الوطنية وإجهاض التطور الطبيعي للدولة، و بدلا من دعم قدرات الدول الضعيفة والتكامل معها طغي عليها وحشرها خارج عملية البناء، أي حين يجري أداء وظائف الدولة فإن القدرة الأهلية لا تتزايد – على حد عبارة الخبير الأمريكي فوكوياما.
التدخل الدولي في تعامله مع الدول الفاشلة مثل الطبيب الذي يقدم ذات الوصفة لكل مرضاه ولكل الأمراض وكما لا يتوقع تماثل أي منهم للشفاء، كذلك التدخل الدولي يقدم مصفوفة معالجات جاهزة وموحدة لكل البلدان المعنية في كل مكان وتحت أي ظروف وشروط لذلك لا نجد دولة واحدة نجحت، وفشلت اقتصاديات السوق والسياسات الاقتصادية المشروطة للدول المانحة وصفات البنك والصندوق الدوليين التكيّف الهيكلي» في تحقيق الأحلام الوردية التي قطعتها لدول ما بعد الاشتراكية، وكان الاعتقادٍ أن هذه الإصلاحات: الخصخصة ورفع الدعم وزيادة الضرائب كفيلة لوحدها بتحقيق النموّ والتطوّر والقضاء على الفقر، وجاءت نتائجها مغايرة فتحرير التجارة والتوسع في الانفتاح الاقتصادي -على حد عدد من الدارسين -كانت إحدى آليات إنتاج الفقر على نطاق واسع لأن البيئة الاقتصادية العربية لا تمتلك الشروط الضرورية للكفاءة الإنتاجية والتنافسية، وهو ما أدى إلى زيادة نسبة البطالة إلى تكريس التخلف والتبعية وتدمير الرعاية الاجتماعيّة، وإثراء النُخَب، والتمييز الطبقي، وتنظيم المجتمع على مبادئ الربح والجشع، لا على مبادئ خدمة الحاجات الإنسانيّة. وباعتراف ميلتون فريدمان – عميد اقتصاد السوق الحر عام 2001م، الذي قال في العقد السابق – “كان لدي ثلاث كلمات للدولة المتحولة من الاشتراكية وهي خصخص خصخص خصخص، لكني أخطأت بعد أن تبين لي أن حكم القانون ربما أكثر محورية من الخصخصة”، انظر (ص 66، بناء الدولة)
خلاصة خطة التدخل الدولي لإعادة بناء الدول الفاشلة وتحويلها لدول ديمقراطية تبدأ بفرض مصفوفة من التعديلات الهيكلية والدستورية تسمح بوجود شكل من التعددية والانتخابات غالبا ما تكون شكلية، والالتزام بالوصايا العشر للبنك والصندوق الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية تقدم شروط الاعتماد في نظام السوق العالمية، وباعتبار الولايات المتحدة هي الراعي العالمي لنظام العولمة تتولى السفارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي توزيع صكوك القبول وخلع الألقاب الديمقراطية على القوى والأحزاب التي تسمع الكلام، وصكوك الحرمان الديمقراطي على الأحزاب والقوى والدول الخارجة على إرادة راعي النظام العالمي مهما كانت شعبيتها وحجم تأييدها الشعبي، وتضع القيود وتفرض العقوبات على من يحاول الخروج عن الوصايا العشر للبنك الدولي ومجتمع المانحين أو يخفق في محاكاة القيم الغربية كقيم كونية، وبجانب السفارات تقوم منظمات المجتمع المدني الغربية بتدريب النخب السياسية والمدنية كيف يكونون ليبراليين لائقين، ونظرا لعدم وجود تعريف محدد للدولة الفاشلة معترف به دوليًا (فمثله مثل الدول المارقة ومحور الشر ورعاية الإرهاب وحقوق الإنسان.. الخ يتم تسييسه وتكييفه لخدمة مصالحها أو استخدامه مبرّرا لاجتياح بلدان معينة، ويكفي أن تخفق دولة ما في محاكاة السلوك المتوقع منها من قبل ما يسمى العالم الحر ليقصفوها بالدعاية الإعلامية السوداء وتشويه صورتها محليا وعالميا وإخافة قطاع المال والاستثمار منها، ويمطروها بأصناف العقوبات السياسية والاقتصادية، وانتهاك سيادة الدول دون وجود قيود قانونية دولية واضحة على سياسة التدخل، إذ يكفي أن يراود دولة من الدول القوية بعض مشاعر القلق من الدول الأضعف في جوارها أو حيث مصالحها لتبرير التدخل الاستباقي عسكري وغير عسكري “وعلى حد فوكوياما” واجب الغرب التدخل ونزع السيادة عن الدول الضعيفة وتولي حكمها نيابة عن المجتمع الدول ضمن مفهوم جديد للسيادة المشتركة”.
وغير ذلك يكون الهدف الأساسي للتدابير التي يتخذها تحقيق المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى والنافذة أكثر من تركيزه على المشاكل الداخلية، كما يتم إغفال دور السياقات الخارجية في إفشال الدول النامية، وتأثير الطبيعة الاجتياحية والمتوحشة لنظام العولمة في توسع رقعة الاضطرابات الاجتماعية، وغياب العدالة والتكافؤ بين دول الغرب الغنية ودول الجنوب الفقيرة، والارتفاع الدراماتيكي لديون دول البلدان النامية، وانتهاك سيادتها وتهديدها بالتفكيك، وصعود ظاهرة الإرهاب المعولم.
النتيجة التي يمكن استخلاصها من كل هذه التجارب كما يقول مؤلف كتاب انتقام الجغرافيا بأن موروث الجغرافيا والتاريخ والثقافة تفرض حدودا لما يمكن تحقيقه في مكان بعينه.. وأن المقدر للعالم أن تحكمه أنواع مختلفة من الأنظمة «وأن الطريقة الأسلم أن يترك للشعوب فرصة التطور بقدراتها وخصائصها الذاتية وأن تصل إلى الديمقراطية بطريقتها الخاصة وفي وقتها المحدد، وأن يترك لها أن تتعلم من الغرب ما يحتاجه وما هو مستعد له والانفتاح على تجارب بلدان شرق آسيا الناجحة ومؤسساتها الإقليمية التي توفر تنمية أكثر عدلا، بدلا من فرض القيم الغربية والوصايا العشر للبنك ومنظمة التجارة على الشعوب كقيم عالمية وبعبارة أخرى نعم للتحديث ولا للتدخل”..

قد يعجبك ايضا