في مدنية الدولة بين العقل والدين
يكتبها اليوم / عبد العزيز البغدادي
إلى روح الشهيد / أحمد عبد الرحمن شرف الدين
الدولة الراشدة أو دولة الخلفاء الراشدين مصطلحان يجري استخدامهما في الوعي الجمعي عند المسلمين استخداماً يخالف العلم ويجانب المنطق من حيث النظرة الموحية بتقديس بشر حكموا فأصابوا وأخطأوا شأن كل البشر ، وقد نُسب إلى الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة استلام الخلافة سنة 11 للهجرة قولته المشهورة:( لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني ، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه) إلى آخر الخطبة وبهذا نفى عن نفسه العصمة أو الرشاد المطلق ونظرة التقديس للحاكم التي تحول دون تقييم أدائه لوظيفته كحاكم ، وهذا يؤكد مبدأي الشراكة في الحكم والرقابة والمحاسبة( وهما مبدآن حديثان في نظرية السلطة ، والخطبة تشبه أداء القسم ممن يتولى منصباً من مناصب سلطات الدولة العليا حالياً)، وفي ما ورد من روايات أن أحد الصحابة قد رد على أبي بكر قائلاً : ( والله لورأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ) إنه مشهد مثالي لمجتمع افتراضي يتعامل مع السلطة تعاملاً مسؤولاً لدرجة تنعدم فيها الفوارق بين من يمارس السلطة ومن يمارس الرقابة والمحاسبة والمعارضة وتتعزز لديه القناعة بأن من يتولى السلطة لا بد أن يتم التعامل معه كإنسان يخطئ ويصيب ، ومن أولى خصائص الحكم المدني قابلية عمل الحاكم للنقد كحق للمجتمع ، ومن يحكم باسم الدين ينبغي أن لا يتخذ من الدين لباساً يمنع الناس عن تقييم ممارسته للسلطة ومساءلته إن أخطأ وفق القواعد القانونية وإلا كان ذلك مضيعة للدين والدنيا وتحميلاً لنفسه البشرية المسكينة ما لا تحتمل من مسؤوليات أمام الله والناس مهما سعى لتحصين نفسه بالقوة والجبروت.
لابد أن تبقى السلطة خاضعة للتقييم في الدنيا قبل الآخرة، أما وصف الحكام والحكم بالرشاد فإنه باب مفتوح يعمي عن رؤية الحقيقة ويضيع الحقوق وينشر المظالم ويؤدي إلى انهيار الدولة.
العلاقة المنشودة بين من هم في الحكم ومن هم خارجه لا بد أن تبقى علاقة إنسانية مسؤولة لا تشوشها نظرة التقديس أو التدنيس المطلقين، وهذا جوهر الرؤية القرآنية حتى في علاقة الناس بالأنبياء كما أمر الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في الآية (110) من سورة الكهف: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ، إنها رؤية للعلاقة التكاملية المفترضة بين السلطة والمجتمع نواة الدولة المدنية أو دولة المواطنة التي يطلقون عليها بالمتساوية، وفكرة المساواة هنا إنما تُفهم بمنطق تمتع كل فرد في المجتمع بكامل الحقوق التي يتمتع بها باقي أفراد المجتمع ويلزم ويلتزم بذات الواجبات التي يلتزم ويلزم بها غيره ممن تنطبق عليهم نفس الشروط الموضوعية للعلاقة محل الالتزام أو الإلزام.
والقول بإنسانية الحاكم بقدر ما فيه من حفظ لحقوق الناس فيه تنزيه للدين عن أخطاء البشر لأن الحاكم يصبح مسؤولاً مسؤولية كاملة عن أخطائه أمام المجتمع ، ولا تقوم أي دولة ولا تقوى إلا بسلطة قوية في حرصها على إحقاق الحق وإبطال الباطل وتحقيق العدل ، ورقابة شعبية ومعارضة قوية تقوم اعوجاج السلطة ، والقول بأن هناك خلافة راشدة ينافي هذا المبدأ ويخالف القرآن في الآية (110) من سورة الكهف وما أكده أبو بكر في خطبته ورد الصحابي عليه كما أسلفنا ، وقد أشارت الآية (3) من سورة المائدة في حجة الوداع إلى إغلاق باب الوحي وبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً لكل من يمتلك أدواته كطريق للاستفادة من الرواية والدراية دون تقديس لآراء الفقهاء المجتهدين ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛
فالفقه بكل أشكاله نشاط بشري إنساني اجتماعي اجتهادي خاضع للتطوير بحسب الزمان والمكان والظروف المحيطة ، وفي اعتقادي أن عين الرشد إدراك الناس وبخاصة من بيدهم القرار أهمية وضع أسس للشراكة في الحكم تقوم على الحوار الجاد المسؤول ، ومن يحاول تحويل عمل الفقهاء إلى عمل مقدس فإنه معادٍ للحياة ويسعى للمستحيل وهو إيقاف عجلة التاريخ واحتكار الحكم ، يكفي الأمة ما عانته وتعانيه نتيجة تغليب الرواية في كيفية الحكم وعدم إعمال العقل والاستفادة من الاختلاف الطبيعي والتنافس الخلّاق وليس النزاع والتناحر المدمر لا بد أن تبقى العقول حية منفتحة أمام ما يستجد إيجابا وسلباً وللإنسان الحر العاقل أن يختار .
رُبَّ ظُلمٍ بكيت منه فلمَّا * خلتهُ ماضياً بدا مستهلَّا