أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
المخالفون للقوانين والأنظمة يسعون إلى فرض الأمر الواقع وحماية مكتسباتهم الناتجة عن مخالفاتهم وتحصينها عن طريق أحكام التقادم المسقط للحقوق والمسائلة، وهذا الأمر مضر للغاية بالحقوق والمصالح العامة، ولا ريب أن للقضاء دوراً مشهوداً في حماية الحقوق والمصالح العامة عن طريق التطبيق الخلاق للنصوص القانونية وارساء المبادئ التي من شأنها تفعيل الحماية وتكريسها.
وفي هذا السياق يأتي الحكم محل تعليقنا وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية في جلستها المنعقدة بتاريخ 11 /12 /2012م في الطعن الجزائي رقم (46138) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم في أن نيابة المخالفات أتهمت احد الأشخاص بأنه قد خالف الترخيص الممنوح له، الذي حدد المساحة الخاصة به فقام بالبناء خلافاً لما ورد في الترخيص واستحوذ على مساحة من المرافق العامة، وأمام المحكمة الابتدائية تقدم المخالف بدفع بتقادم تلك المخالفة لمضي أربع سنوات من تاريخ وقوع المخالفة، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة المتهم وتغريمه ثلاثة الأف ريال للخزينة العامة وإلزامه بإزالة المخالفة على نفقته، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (وحيث إن الدفع بانقضاء الحق في تحريك الدعوى الجزائية بالتقادم، لإن قرار الاتهام قد صدر بعد مضي أربع سنوات من تاريخ قيام المخالف بالبناء في حمى الشارع مستنداً في ذلك إلى المادة (7) من قانون الأحكام العامة للمخالفات ،وبالنظر إلى طبيعة المخالفة موضوع قرار النيابة وهي إقامة جزء من البناء في حمى الشارع العام، فقد تبين للمحكمة أن تلك المخالفة من المخالفات التي توصف بأنها مخالفات مستمرة، تعتبر واقعة في كل لحظة، أو في كل جزء من الزمن ممتدة فيه طالما أن تلك المخالفة لا زالت قائمة دون إزالتها ،لذلك فإن مدة التقادم بالنسبة لهذه المخالفة التي شملها قرار الاتهام لا تكون قد بدأت بعد ،فبدء احتساب تلك المدة سيكون عند زوال تلك المخالفة ،الأمر الذي تبين معه أن الدفع غير قائم على أساس قانوني، ليس ذلك فحسب بل نجد أن المادة (12) من اللائحة التنفيذية لقانون الأحكام العامة للمخالفات قد استثنت مخالفات البناء من قاعدة سقوط الدعوى بالتقادم، الأمر الذي يتعين معه القضاء برفض الدفع) فلم يقبل المتهم بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه إلا أن الشعبة الجزائية أيدت الحكم الابتدائي للأسباب ذاتها الواردة في الحكم الابتدائي، فلم يقنع المتهم فقام بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي، إلا أن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا أقرت الحكم الاستئنافي ، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (أما من حيث الموضوع فأن الطاعن قد نعى على الحكم المطعون فيه بانه قد خالف القانون حينما لم يفصل في دفعه بعدم قبول الدعوى الجزائية للتقادم، والدائرة تجد أن هذا النعي مردود عليه بما هو ثابت في أسباب الحكم المطعون فيه التي استندت إلى نصوص صريحة بأن مخالفات البناء لا تحتسب مدة التقادم بالنسبة لها إلا من وقت إزالة المخالفات لأن هذه المخالفات مستمرة على النحو المبين في الحكمين الابتدائي والاستئنافي، ولذلك فإن الشعبة الجزائية قد فصلت في الدفع الذي أثاره الطاعن، وبنت حكمها على أسباب سائغة تكفي لحمل الحكم عليها ،الأمر الذي يتعين معه الحكم برفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الآتية :
الوجه الأول : تقادم المخالفات العامة :
ورد في قانون الأحكام العامة للمخالفات، حكم عام في المخالفات بصفة عامة بصرف النظر عن نوعها حيث نصت المادة (7) من القانون المشار اليه على أنه (ينقضي الاتهام بوفاة المخالف أو بمضي سنة على وقوع المخالفة دون اتخاذ إجراء فيها ولا يجوز أن تطول هذه المدة لأكثر من نصفها اذا وجدت أسباب توقف الإجراء وتقطع المدة) فهذا النص يقرر صراحة تقادم المخالفات التي تقع من المخالف بصرف النظر عن نوع المخالفة والمخالف ومكان وقوعها، وهذا يعني أن حكم التقادم في هذا النص عام ينطبق على كل المخالفات، وقد تمسك المخالف في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا بهذا النص.
الوجه الثاني : التقادم الخاص بمخالفات البناء :
المخالفة التي حكم فيها الحكم محل تعليقنا هي مخالفة من مخالفات البناء ، وحكم التقادم بالنسبة لمخالفات البناء تنطبق عليه المادة (12) من اللائحة التنفيذية لقانون المخالفات التي نصت على أنه (باستثناء مخالفات البناء ينقضي الاتهام بوفاة المخالف أو بمضي سنة على وقوع المخالفة دون اتخاذ إجراء فيها ولا يجوز أن تطول هذه المدة لأكثر من نصفها اذا وجدت أسباب توقف الإجراء وتقطع المدة) فهذا النص صريح في استثناء مخالفات البناء من أحكام التقادم، وتبعاً لذلك فإن أحكام التقادم لا تسري على مخالفات البناء، وهذا النص هو الذي استند اليه الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثالث : أسباب استثناء مخالفات البناء من التقادم :
مخالفات البناء عبارة عن استيلاء على أجزاء ومساحات من الأرصفة والشوارع والساحات والحدائق والأماكن العامة والاختصاص به دون بقية المواطنين مع أن هذه الأماكن مخصصة قانونا بموجب البناء وقانون أراضي الدولة. مخصصة للنفع العام أي لعامة الشعب، ولذلك فانه يترتب على مخالفات البناء تعطيل كلي أو جزئي لمنافع الشوارع والحدائق والأماكن العامة فيكون هذا التعطيل دائماً ومستمراً وهذا ما أشار اليه الحكم محل تعليقنا، فلو جاز تطبيق أحكام التقادم في هذه الحالة لترتب على ذلك التعطيل الدائم لمنافع الشوارع والأماكن العامة ،ولترتب على ذلك تعطيل مصالح وحقوق المجتمع كله، وهذا الأمر غير مقبول شرعاً وقانوناً، إضافة إلى أنه لو جاز تطبيق أحكام التقادم على مخالفات البناء لترتب على ذلك تشجيع المخالفين على الاعتداء على الشوارع والأماكن العامة وزيادة الاعتداءات عليها.
الوجه الرابع : مخالفات البناء مستمرة لا تتقادم إلا من وقت إزالتها :
قضى الحكم محل تعليقنا بأن مخالفات البناء مستمرة لا تتقادم إلا من وقت إزالتها، فهذه المخالفات قائمة ومستمرة بالوجود المستمر على أرض الواقع وتكرار وقوعها واستمرار تعطيلها الكلي أو الجزئي لمنافع الأماكن العامة، وهذا اجتهاد صائب يناسب طبيعة مخالفات البناء وخطورتها والآثار الخطيرة المترتبة على تطبيق أحكام التقادم على مخالفات البناء.
الوجه الخامس : عدم تقادم مخالفات البناء وعلاقة ذلك بعدم جواز البسط على المراهق العامة:
يقرر قانون أراضي وعقارات الدولة عدم جواز البسط أو الاستيلاء على أراضي وعقارات الدولة بما فيها المراهق والأماكن العامة وأن ذلك جريمة يعاقب عليها القانون وأن هذه الجريمة لا تتقادم حسبما ورد في المادتين (7 و47) من هذا القانون، وبما أن الأماكن العامة والشوارع مراهق ومرافق عامة فإنها من أراضي وعقارات الدولة المخصصة للشوارع والأماكن العامة ،ومن خلال ذلك يظهر أن مخالفات البناء لا تتقادم بموجب قانون أراضي وعقارات الدولة، والله اعلم.
أستاذ بكلية الشريعة والقانون