في العلاقة الملتبسة بين القاضي والمحامي! (2): (قاعة المحكمة)
يكتبها اليوم / عبد العزيز البغدادي
القضاة الحكماء المتمثلون والممثلون لجوهر العدالة بما تعنيه وظيفتهم الهامة وموقعها الأساس في بناء دولة يشعر معها كل مواطن بالسلام والسكينة وبأنه شريك فاعل في بنائها وإصلاح أوضاعها، هؤلاء القضاة الأفاضل يدركون معنى علو منصة الحكم المادي والمعنوي ولماذا وضع القاضي في المكان الأعلى بقاعة المحكمة.
ولكن بعض القضاة وبخاصة الشبان منهم حين يعتلون منصة الحكم يعتليهم الزهو ويتبرعم لديهم الغرور منذ لحظاتهم الأولى في قاعات الدرس بالمعهد العالي للقضاء إما لقصور في الفهم أو للغرس الخاطئ أياً كان الغارس، أي من داخل المعهد أو من خارجه وهذا يفقدهم الحكمة والوقار مما يشوش ويشوه عليهم ولديهم طريق بناء هيبة القاضي والقضاء المعبَّد بالتواضع وسمو الأخلاق التي تكسبهم حب الله والناس، وما يعني الناس هو ما يمس حياتهم ويحقق لهم العدالة في الدنيا لأن وظيفة القاضي حاكما في ما يعرض عليه وليس واعضاً أو مرشداً.
وبعض الفاقدين للحكمة من القضاة يدفعهم الغرور والعنجهية إلى خلق أجواء سلبية من التجاذبات بينهم وبين المحامين أو موكليهم ويدفعهم فهمهم الخاطئ عن استقلال القضاء وما منحهم القانون من سلطات وصلاحيات إلى التجرُّؤ أحياناً على من هم أسفل المنصة بإخراج من يشاءون من القاعة ، وأحياناً أخرى قد يأمرون بإيقافهم بمن في ذلك المحامين وكأن المحكمة ملك خاص وهذا يعكس حالة من حالات تورم الذات وضيق الأفق لديهم غير مدركين أن الاستهانة بمكانة مهنة المحاماة استهانة بمكانة القضاة لأن المحامين شركاء في تحقيق العدالة وليسوا أتباعا، صحيح أن من المحامين مع الأسف الشديد من لا يحترم المهنة ولا يقدِّر مكانتها ومن الحضور في قاعة المحكمة كذلك من يستحق أن يتخذ القاضي بحقه الاجراء المناسب قانوناً ولكني هنا أتحدث عن الأمزجة والأهواء التي تسيِّر بعض القضاة الذين لا يجيدون التمييز بين ألوان الممارسات وليس لديهم ملكة إدارة الجلسات بالموازنة والمواءمة بين المخالفات والتجاوزات المخلة بنظامها ومن ثم تقدير العقاب المناسب ما يجعله عاجزا عن ضبط القاعة وجلب الهدوء الذي يحتاجه للتركيز على ما يقدم من دعاوى ويبرز من أدلة ، والهدوء في قاعة المحكمة مثلما هو مهم للقاضي هو كذلك مهم للمتقاضي لأن موقع القاضي المكاني في المنصة يجعله في موقع الشاهد والمشهود أيضاً أي أن هذا الموقع له وعليه ، ولهذا كان الأصل في المرافعات أن تكون شفهية والاستثناء أن تكون تحريرية وما يجري في الواقع هو العكس، ووصف المشهود عليه لا أطلقه هنا جزافاً ولكنني أراه ترجمة واقعية للمادة الدستورية التي ربطت استقلال القضاء والقاضي بمدى احترامه للدستور والقانون حيث جاء في المادة (149) من الدستور: (القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً والنيابة العامة هيئة من هيئاته وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون) إلى آخر المادة.
إذاً فوضع القاضي في مكان عال هدفه تمكينه من رؤية ما يدور أمامه، وكونه في موضع الشاهد والمشهود لا يعني أنه في موضع الخصم والحكم إذ لا يجوز أن يكون الإنسان أي إنسان وفي أي موقع وأيا كانت ولايته في موقع الخصم والحكم عبئا عليه أولاً ومخالفة واضحة للدستور والقانون وللدين والشرع أيضاً ومصدرا رئيسا للفساد كما بينت ذلك قاعدة دفع الله الناس بعضهم ببعضهم المؤكد عليها في القرآن الكريم (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَـمِينَ).
موقع القاضي في منصة الحكم إذاً يجعل جميع الحضور تحت رقابة الجميع ويدفعهم إلى احترام مكان ومكانة العدالة كقيمة إنسانية لا يمكن أن يسمو أي مجتمع بدون احترامها، ومن لم يلتزم فعلى القاضي إلزامه باتخاذ ما يراه بحقه وفق القانون فالقانون حجة للجميع على الجميع، ولهذا وُصفت القاعدة القانونية بالعمومية والتجريد ومن لا يحترم القانون لا يحق له الحديث عن بناء الدولة.
إن للشعب حقاً
يدك قصور الطغاة
ويجتاح كل الموانع.