بالشهادة نُحيي موتنا

زياد السالمي

 

على ما نحن فيه من الهزيمة حد الخجل من خوض غمار تناول شرفهم الرفيع ودورهم الأعظم من كل ما في الوجود كدور قد يجعل المرء مطمئنا أنه قد وّفق في اختياره الحياتي حال كونه فاعلاً مفيداً ومسؤولاً على تقديم الواجب المناسب لكينونته كإلزام ناجع عن ضرورة التكليف النوعي حتى تكتمل الأدوار وتتكامل في البناء الوجودي والحفاظ عليه وحمايته، وحين نتأمل في ذلك نجد أن أسمى دور يقدمه الإنسان هو الجهاد في سبيل الله وأن أسمى البذل هو بذل النفس والمال في سبيل دينه ووطنه وإنسانيته.
وكذلك هم الشهداء، هكذا حين نتأمل وتنساب القلوب مع العقول في ملكوتهم نحدق بخجل .
وحين نتكلم عنهم أو تذرف الدمعُ أعيننا فقداً يجرح خدودنا ملحُ الخجل وحين نحاول أن نتوسد مواقفهم ونستند إلى تضحياتهم ينتابنا الخجل ( أي فناء دنيوي يستحق أو يرتقي أو ينال شرف أن نستوقفه إلينا بهم أو ندفعه عنا بهم )،
وحين نريد مدحهم وسرد مناقبهم وفضائلهم ترتجف المشاعر والمعاني من الخجل فثمة شعور يجلدنا استصغارا وانتقاصاً لحظتها : إنهم من علاهم ينظرون إلينا وإلى محاولاتنا، بينما الله العلي العظيم سبحانه وتعالى قد مدحهم وجعلهم ضيوفه .
وحين نخطئ سواء بتمثل الخير وكيفيته أو بتنكر الشر وكيفيته ونتنبه أنهم حوالينا يشهدون علينا نصاب بالخجل وحين نحاول التموضع الإنساني في الفعل يخطرون كوجه مقارنة في الحال، فنتعرق خجلا، أي وجه هذا الذي يمنحنا الحق كإدراك واعٍ عادل منصف لحجم المفارقة بين صدق وسمو الموقف والعهد ، وبين وهم المحاولة ؛ إنه الموت بأبهى معانيه نعيشه على هذه الأرض ، إنها الحياة بأسمى تمظهرها وأقدس مقاصدها يعيشونه على هذا الوجود .
الموت في الاستشعار والموت في التفكير والموت في الافتعال والموت في التصمت والموت في التدبر والموت في التبرير والموت في التحليل والموت في التأويل والموت في التضليل والموت في التحوير والموت في التكييف والموت في التأطير والموت في المعاداة والموت في الإيفاء والموت في التواجد والإيجاد ؛ برغم أنه حقيقة واعية وليس ثمة ما يحيلنا أو يؤنبنا عن امتهار هذا الموت، وربما قد يكون بعضه موتا محببا ومستصاغا ، إلا أننا مهما حاولنا فلسنا سوى أموات نقتات الاستماتة في هذه الأشياء ونسير بها وبركامها إلى الموت ؛ وحين نتلفت ونستحضر أمام غيابنا المقصود والمشهود في وجودهم الحاضر كشاهد لا مشهود أو مردود ، ندرك موتنا أكثر وحياتهم الأوفر .
وهنالك مفارقات عديدة في موضوع الموت والشهادة تجعل من الشهادة أسمى ما يحلم به الإنسان المؤمن وذلك كون إذا الموت فكرة كريهة لا تشجّع على التفكير أو الحديث، فإن الشهادة على عكس ذلك أفق حي مرح في الكتابة عنه كموضوع مع ما تحمله من شعور الفقد للشهيد المفقود . وإذا كان الموت بطبيعته كلية مطلقة بفناء البشر ( كل نفس ذائقة الموت ) إلا أن بعض البشرية مستثنون من هذه الكلية المطلقة وهم الشهداء، فبالشهادة لم يعد الموت بطبيعته كلية مطلقة كونهم أحياء وليسوا موتى ( أحياء عند ربهم )، فضلاً عن أن الثقافة الدارجة في الوعي الجمعي أن الشهيد يطلق عنه ميتاً لحظة استرسال عفوي، وذلك خطأ كبير ومخالفة لأمر إلهي يحرم حسبانهم كنية دون سلوك قولي أو فعلي واعتبرها الله جريمة مكتملة الأركان بالنية فقط ؛ أي بمجرد التفكير بأن الشهداء موتى فما بالك القول عنهم بأنهم موتى، فمثل ذلك عند الله أعظم، أضف إلى ذلك أن الموت ومن ضمنه القتل يحمل الطابع الشخصي، أي أن الذي يموت يموت عن نفسه فقط فإن الشهادة تجاوزت هذا الطابع الشخصي فثمة من يقتل نيابة عن الآخرين وهم الشهداء يقتلون نيابة عنا ودفاعا عن ثوابتنا، أيضاً إذا كان الموت معطى مصلحة شخصية لانحسار الذات عن الآخر كجدوى وانحصارها في الآخرة عن نجاتها والفوز بالجنة، فإن الشهادة معطى لمصلحة أوسع يستفيد منها محبو الشهيد وأهله وذووه .. ليس هذا فحسب بل إنه إذا كان الأجل ( الموت – والشهادة ) كحتمي ومقدر ومسمى غيبي ويقين غير معلوم فإن الأولى لكل من ألقى السمع وهو شهيد أن يجعل أجله حياة وليس موتاً وذلاً من خلال اختيار الشهادة والجهاد في سبيل الله، ومن تفضيل الشهادة لما أن اعتبار الموت أمراً يخشاه البشري ويستعيذ منه ويتبرم ويشكو من المعاناة ويتشبث بقوة بالحياة وأدوات رفض الموت حد استعاذته بالله إذا طرقت أذنه كلمة الموت، بل قال أحد المفكرين ( إن ثمة شيئين لا يمكن أن يحدق فيهما المرء : الشمس والموت )، ويستوي في ذلك المفكرون والعامة العلماء والبسطاء اللاهوتيون وغير اللاهوتيين ؛ في حين أن المفارقة الأروع أن الشهادة حلم ومبتغى وأمل يتمناه المؤمنون، ومن المؤكد حقيقة أن الموت ليس محببا أو سبيلا في تناوله فلسفيا، فإن الشهادة كمحل تناول الدين الإسلامي – على الرغم من العجز من تقبل الرأي الديني، إلا أن التأمل في الفناء وحقيقة وجود قوة خفية لها صلة بأحداث الموت، تعني أن هنالك إلهاً يملك ذلك الموت، يوجب الأخذ بهذه الحقيقة من قبل العلوم والفلسفة غير الدينية، وإن كانت حقيقة دينية التي جعلت من الشهادة بديلا للموت لها امتيازاتها ومفازاتها ، لتداخل وتقارب التناول والبحث حول هذه الفكرة باعتبارها من مواد واختصاص الفلسفة، لعل في ذلك تقريبا وإزالة نفور الفلسفة المعروف تجاه فكرة الموت ..
من جهة أخرى لا يختلف العقل البشري عن حقيقة أن من غريزية الإنسان السعي نحو الخلود ورفضه الفناء وجل أمنياته أن يكون خالداً ونيل ذلك يعد مستحيلا فإن الوسيلة الوحيدة والسبيل الوحيد لنيل خلود الحياة الأبدي وبالتالي التغلب على الفناء هو عن طريق الشهادة في سبيل الله وبالتالي تغلبه على الفناء وتحقيق أمنيته التي بسوى الشهادة مستحيلة وهي نيل حياة الخلود، مما ندرك المنزلة والفوز الذي ناله الشهداء في الدنيا والآخرة كحياة واحدة يعيشونها بعكس الموتى بين الفناء الدنيوي والنوم البرزخي والحياة الأخروية .
أخيراً نلحظ أن المؤمن لا يضمن حسن الخاتمة كسنة إلهية التي جعلت مظاهر الحياة كفتنة يعيشها، فإن الخاتمة المضمونة عند الجميع هي بنيل الشهادة في سبيل الله .
بعد كل ذلك، ماذا نجدنا كموتى فاعلين؟ لا محالاة سنكون برجماتيين نفعيين نتلمس بهم الحياة الحقيقة لنحيي بهم موتنا اليقيني من خلال رعاية ذويهم أو بتكريمهم بل إننا نتلمس فيهم الحياة في الدنيا كشفعاء من الأقرباء لنيل الاستحقاق ورفع الدرجات كأنبل شفاعة حسنة كما هم شفعاؤنا وشهداء علينا بإذن الله في الآخرة، فاستعينوا بشهدائكم على الحياة أيها الموتى .

قد يعجبك ايضا