وادي مذاب - الصفراء في صعدة.. سلة الغذاء المتكاملة ومراعٍ للنحل والمواشي

مزارعون: نزرع في الوادي اكتفاءنا الذاتي من حبوب الذرة والقمح والخضروات

 

 

مربي مواش: لدي ألف رأس من الماشية وعافيتها في المراعي وفي الحركة وسقمها حبسها في الزرائب
الفائز بجائزة الصماد: أزرع الذرة والبر والطماطم في50 ألف حبلة.. وحصاد هذا العام 5000 قدح من الذرة

مديرية الصفراء، إحدى مديريات محافظة صعدة، تمتد بشكل مستطيل في وسط المحافظة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، يحدها من الجنوب مديرية حرف سفيان من عمران، ومن الشرق مديريتي كتاف البقع والحشوة، ومن الغرب مديريات صعدة وسحار ومجز وباقم ومن الشمال نجران.. يسكنها حوالي 50.845 نسمة يمثلون 6.423 أسرة تقطن في 6.7444 مسكناً، يشكلون 95 قرية و304 محلات تابعة تتوزع على 7 عزل هي (وادعة، نشور، عكوان، وادي مذاب، شرمات المقباب، ولد مسعود).
تتكون الصفراء من سلاسل جبلية مترابطة تتخللها أودية زراعية خصبة هي (وادي مذاب ، وادي عكوان، وادي نشور، وادي سروم، وادي مرون، وادي دماج، وادي كنا).. ومن جبالها المشهورة (براش المطل على دماج، المفلوق المشرف على وادي مذاب، ظفار، كهلان، كدم وأم عيسى).
“الثورة” زارت (وادي مذاب)، وهو واد تنسب تسميته إلى أحداث وملاحم (يوم مذاب) –يوم من أيام العرب في الجاهلية بين قبائل همدان وقبائل عامر وسليم من الحجاز- ويمثل إحدى عزل المديرية، سلة غذاء متكاملة، يمتاز بتربة خصبة، تسكنها وتعيش على خيراتها آلاف الأسر من ذوي النفوس الطيبة كطيبها..

استطلاع /  يحيى الربيعي

بدأت جولتنا في واد غزير الخضرة فسيح الجوانب وخصب التربة عند الساعة السابعة من صباح يوم الجمعة 12 نوفمبر وحتى السادسة مساء.
تقدر مساحات أراضي الوادي الصالحة للزراعة بأكثر من 3 ملايين حبلة زراعية، ما يعادل 9.5 آلاف هكتار.. لا يزرع منها سوى الثلث، أما الثلثان فإنها لاتزال فيش رعي للماشية ومناحل للعسل إلى حين الانتهاء من الفصل في قضايا منظور بشأنها بين يدي لجنة شكلت بتوجيهات قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي حفظه الله.
مبادرات وتوعية
بدأت رحلتنا في الوادي مع الممارس التنموي ربيع ناشر محمد الدرس بالوقوف على “حاجز الخف” في قرية الخشم عزلة مذاب مديرية الصفراء الذي تم إنجازه بمبادرة مجتمعية بحتة بسعة تقديرية 3 ملايين متر مكعب.. وتستفيد منه 34 أسرة زراعية تتربع على عرش 60 هكتارا زراعيا لا يستغل منها سوى 30 هكتارا في زراعة الحبوب والخضروات والفواكه إضافة إلى تربية الماشية، ثم تكلم عن مبادرة صيانة الطريق الترابي من نقطة العمشية إلى الصافية بطول 24 كيلومتراً، بمبادرة مجتمعية بحتة بتكلفة تقديرية 4 ملايين ريال، وهو طريق تجاري يربط محافظتي صعدة والجوف، كما يقوم المجتمع في مذاب بتنفيذ عدد من المبادرات المجتمعية في المجال الزراعي والتي كانت عبارة عن حواجز مائية عددها 6 حواجز.
انطلقنا بصحبة الفارس ربيع نطوف القرى والمزارع والمراعي.. نحيي جلسات توعية بأهمية المشاركة المجتمعية في التنمية، وضرورة أن يتأطر المزارعون في جمعيات تعاونية زراعية تمثلهم وتعمل على رعاية مصالحهم، والتوعية بالمزيد من إطلاق مبادرات بناء الحواجز، والقنوات والكرفانات على طول وادي مذاب، وضرورة استصلاح الأراضي الزراعية والتوسع في زراعة الحبوب وتربية الثروة الحيوانية، كما يجري الترتيب لعمل ورش ودورات تدريبية في مجال مناحل العسل، حيث تعتبر مناطق مذاب غنية بالغطاء النباتي الصالح لمراعي النحل.
ونجري دردشات خاطفة عن العمليات الزراعية مع من نجد من المزارعين أو مربيي الماشية، ولم نفوت فرصة الاستمتاع بمشاهدة مناظر خلابة من غطاء نباتي كثيف يكسو أرجاء الوادي والجبال المحيطة به من كل جانب من شجيرات العلب والقرض وأصناف من الطنب بالإضافة إلى تنوع لا محدود من حشائش الرعي والنبات الطبي والعطريات.
حساب النجوم
المزارع جبران مسفر علي هادي (65 عاما) كان هو المحطة الأولى حيث رحب بنا وأخذ يشرح خصائص منطقته الغنية بتربة خصبة، ومياه متوافرة من آبار سطحية، ومن دردشتنا معه عرفنا أنه مزارع يحافظ على العمليات الزراعية المتوارثة عن الآباء والأجداد، فهو لا يعتمد كثيرا على المبيدات والأسمدة في زراعته، وإنما يعتمد على استخدام الذبيل البلدي، ويحرص على متابعة نجوم الزراعة، ولا يزرع محصولاً إلا في نجمه، مؤكدا أن اتباع العمليات الزراعية الصحيحة هي الطريقة الأمثل لتجنب إصابة المحاصيل بالكثير من الآفات والحشرات الضارة.
وقال “نحن في منطقة ذي فاين، -عزلة مذاب مديرية الصفراء صعدة- نزرع كل ما نحتاج من حبوب الذرة الرفيعة بأنواعها، وكذلك القمح والخضروات وبعض الفواكه، مكتفين ذاتيا من خيرات أرضنا، ولا نلجأ لأحد غير الله”.
المزارع جبران حدثنا كثيرا عنما ورثه عن أبيه وجده من فقه معالم الزراعة، وأسرار العمليات الزراعية التقليدية من حرث وتسوية وذري وحصاد، وقال: كل عمل يتم بطرقه السليمة وفي موسمه وذلك كفيل بحفظ المحاصيل وعدم تعرضها لأي آفة أو حشرة ضارة، مشيرا إلى أنه الآن يجهز الأرض لاستقبال موسم بذر القمح الذي يتطلب أن يكون في وقت معلوم كي لا يتعرض المحصول للتلف وعدم الإثمار، منوها بوجوب مراعاة أن يأتي الشتاء، وزرعه ما زاد عن العرم.
وأضاف “موسم البر والشعير في الشتاء، وتبقى عشرون يوماً حتى نزرع البر والشعير، وتستمر فترة الزراعة إلى الحصاد حوالي 150يوماً (حوالي خمسة أشهر) وهذا النجم اسمه الجوزاء نسني فيه الأرض، ثم نحرثها ونذري من أجل ما يصادف البرد في أيامه، فما يصاب باليباس، بعد هذا الموسم قال الهلالي: (عويدك يا الثريا تواري البر الأجران، أما الذرة ففي كل ديوان)”.
ويواصل “ومن بعدها نذبل الأرض بالذبيل، (ونشله طازج من موقع المواشي إلى المزرعة ونحرث) وأحيانا نعمل للذبل حفر، وندفنه فيها من أجل تموت ما فيه من ديدان ضارة.. هذا رأس وادي سبأ، ولا نحتاج لأحد، هذا واد كريم لمن يكرم أرضه بالعمل.. وبعدها نحرث الأرض ونبذر الذرة وهي نجوم، وقال: الثريا والجوزاء والهنعة ثمان والذراع وبذري نثرة، وعلب وجبهة وسهيل وسادس وسابع ونطح وبطن وننتخب البذور، ونختار الجيدة ونطرحها أصياب، وعندنا حسابات وعندنا نجوم نزرع عليها الحب، ونزرع الحبحب.. ثم أنشد قائلا: يا صرب لا تنقوا خياره ضعوا يابسه وخاضره في الغرارة.. ألا يا الله اليوم يبو الطايف يا مؤمن الطير والطير خايف.. ألا يا الله اليوم يبو الطايف يا مؤمن الطير روس القطايف”.
قدوتي الأنبياء
المحطة الثانية كانت صوب الهيجاء حيث التقينا صدفة بالعم (حسين قائد هباش 60 عاما) مربي ثروة حيوانية من صغره عن أبيه عن جده، يمتلك 1000 رأس من الماشية (ماعز، وضأن، وإبل)، من سكان الجوف، ويعمل على رعي ماشيته بطريقة البدو الرحَّل، ويتواجد في منطقة مذاب -مديرية الصفراء- صعدة، ويستعد للانتقال إلى منطقة أخرى لا تزال غنية بفيش الرعي، وفيها من الماء ما يكفي لحاله وسقاية ماشيته.
وهناك استمعنا إلى حكاية العم حسين التي قال فيها: نحن نقتدي في عملنا بالأنبياء -عليهم أفضل الصلاة والتسليم-، فقد عمل نبي الله موسى -عليه السلام- بالرعي قبل أن ينطلق بدعوته إلى فرعون وكذلك فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مؤكدا ضرورة الاهتمام بالثروة الحيوانية، والانطلاق في سبيل الله ، منوها بوجوب الاعتماد على النفس، معتبرا الثروة الحيوانية من أهم الضروريات التي يجب علينا جميعا الاهتمام برعايتها وتنميتها.
وأهاب بالجميع الاهتمام الكبير برعي الماشية، لأنها حين ترعى من منطقة إلى أخرى تكون في حالة وقاية من الأمراض، مؤكدا أن ماشيته لم تصب بالأمراض البتة، لأنها ترعى في الفيش من خشاش الهيجة، محذرا من حملة التحصين التي تقوم بها المنظمات، ناصحا “الذي يريد ماشيته متعافية يخرجها ترعى في البراري، لأن الأمراض تأتي من حبسها في الزرائب، اترك الماشية تخرج ولن يصيبها شيء.. ضروري الاهتمام بالزراعة والثروة الحيوانية من أجل أن نكون أقوياء، والقوة الحقيقية هي أن يكون لدينا اقتصاد قوي.. ولكي نكون أقوياء لا بد أن نأكل مما نزرع والقوة في الاقتصادي هي مصداق قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما معناه: “المومن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”.
وفي الهيجاء الكثير من الرعاة الذين يتنقلون بمواشيهم وإبلهم من مرعى إلى مرعى، وأغلبهم من رعاة الإبل الأصيلة التي تملأ وادي مذاب حيثما اتجهت.
الخير وافر
وفي الثالثة عرجنا على المزارع (آدم أحمد محمد) الفائز بجائزة الرئيس صالح الصماد- المرتبة الثانية (حراثة)، ويعتبر من أكبر المزارعين في محافظة صعدة، يزرع بنفسه 50 ألف حبلة، ويؤجر بنظام الشراكة في الفائدة 20 ألف حبلة.. يزرع الذرة والبر والطماطم.
المزارع آدم أكد- خلال لقائنا به- أن الخير هذا العام كان وافرا وكثيرا بالرغم من أن المطر كان قليلا إلا أن ساقيته كانت سابرة، لذا فقد كانت الكفاية في القليل من المطر، مشيرا إلى أنه حصد هذا العام 5000 قدح، مؤكدا اخراج زكاة ثماره حان حصاده، وهذه هي الزكاة منتظرة من يأتي ليأخذها، ما تدخل مخازن أبدا.
وتطرق المزارع آدم إلى المعاناة التي تواجه المزارعين في هذه المنطقة جراء شحة المياه، خاصة وأن الآبار سطحية، ولا بد لها- من وجهة نظره- من منظومة حصاد مياه الأمطار كي تغذيها، منوها بضرورة تضافر جهود الجميع رسميا وشعبيا في سبيل عمل هذه المنظومة من حواجز وكرفانات وسدود.
الأسمدة والنقاز
وبجوار مزرعة أحد مزارعي البرتقال(….) سألناه عن سبب ظهور الاصفرار على بعض أشجار مزرعته.. فأجاب: “هذا المرض مشكلته عويصة.. ظهر قبل عامين، ويطلقون عليه مرض “النقاز”، ويصيب الرمان والبرتقال بشكل كبير جدا إلى درجة أن بعض الأشجار تنقز بالمرة (تموت).. يقال إنه بسبب الأسمدة والمبيدات التي تدخل لنا عبر التهريب، وهي غير صالحة أو محرمة.
وأضاف: “نحن مزارعون -على عمانا- نصدِّق بائعي هذه الأسمدة والمبيدات، وأغلبهم غير متخصصين.. عندما تطلب من أحدهم دواء لهذا المرض؟ يعطيك سماداً أو مبيداً تستخدمه، ويبقى الحال كما هي أو يزداد سوءا.. الخلاصة، نريد حلا للتخلص من هذا المرض، تعبنا من الغرامة عليه، نريد من وزارة الزراعة والري أن تقدر تعب المزارع الذي يظل يغرم على الغرس والعناية بها ما بين سنتين إلى ثلاث سنين حتى تثمر، وعندما يفرح أنها بدأت تنتج تصاب بهذا المرض “النقاز”.
صبوحي من استراليا
وقبيل المغرب كانت محطتنا الأخيرة مع الحاج المزارع (……- 75 عاما)، وهناك انصت الجميع لحديث الخبرة والتجربة وألم المعاناة وصدق النصيحة، حيث قال: (بدأت محاربة الزراعة في اليمن، وفي صعدة بالذات في عهد الرئيس الغشمي، وأذكر حينها أننا بدأنا نبحث عن مادة الديزل، وقلت حينها أمام محافظ صعدة والمشائخ والمدراء في صعدة متسائلا: انظروا كيف نحن اليوم آمنين ومراعين لفطورنا يأتي من استراليا؟
قلت وقتها: هم اليوم يعطونا منتجاتهم كهدايا وهبات، وغدا سيكون لهم معنا شأن آخر.. غدا سيتحكمون بنا، سيخضعون قرارنا لهم، ونحن سنركع لهم ما دام قوتنا صار من عندهم، وربما قد نضطر إلى أن نظفر “زنانير” يهودة، لأن من لا يملك قوته يكون ذليلاً.
واليوم، هذا هو مصداق كلامي، ولا أبالغ إن قلت: إن هؤلاء اليهود والنصارى لو يفكروا فقط أن يفعلوا عطلاً فنياً في باخرة من بواخر القمح التي يصدرونها إلى اليمن بما يؤخرها مدة أسبوع زمان، ماذا سيكون عليه الحال؟
ألم يصبح حالنا مع الغرب الذي “صبوحنا” عنده، كحال غنم البدوي حين يغلق عليها في زريبة، إذا أراد أن يفتح لها تسرح، وإلا فهي مغلق عليها لا حول لها ولا قوة.. صح ما قلت أم أنا غلطان؟.. تركنا مهرة الآباء والأجداد الذين كانوا يقولون: الذي ما معه كفاية سنة في بيته ما هو بني آدم كفؤ.
يا رجال: الذئب منا اليوم هو الذي يقسم ماله نصفين، نصف يزرعه قمح، والنصف الآخر فواكه وخضروات، ولا تركنوا على اليهود، ولا تنتظروا أن يأتي قوتكم من أوروبا واستراليا، بل الأفضل أن نأكل مما نزرع، ونكتفي ذاتيا من خيرات أرضنا الطيبة.
يا رجال: الذئب من في بيته بقر وماعز وضان، حليبه وسمنه وبره وعسله من نتاج بلدنا الطيبة.. أرضنا خيرة ومعطاءة تحتاج فقط من يكرمها بالرعاية والذبيل البلدي، وهي بالتأكيد ستكرمه بالخير الكثير.. أرضنا صالحة لزراعة كل شيء.. أين سواعدنا وجهودنا وإخلاصنا واستقامة أمرنا وصلاح ذات بيننا، وكل شيء سابر).
وأنشد بالمهيد: يا الله طلبناك، والزارعي مسكين حط الحب بين الطين- قد ذيه ختامه وعلى الله تمامه- ويا ربي وداعتك كلنا في طاعتك.
* تصوير زيد البكري

قد يعجبك ايضا