آبي أحمد من القصر الرئاسي إلى الخطوط الأمامية

هل تنهي «معارك كسر العظم» إعصار تيجراي؟

 

 

على خلاف المشهد الذي عاشته العاصمة الأثيوبية اديس ابابا في العام 1991م عندما قادت الوساطة الامريكية جيش تحرير تيجراي بقيادة ميليس زيناوي الى القصر الرئاسي دون قتال، تبدو الارادة الاثيوبية قد رسمت طريقا مغايرا هذه المرة بعدما تجاهل رئيس الحكومة المنتخب آبي احمد خيار الاستسلام وارتدى بزته العسكرية متوجها الى الجبهات لقيادة الجيش في «المعركة المصيرية» محققا في غضون أيام انتصارات قلبت المعادلة وعززت فرص صمود الدولة الإثيوبية أمام عاصفة التفكك.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

حتى أسابيع قليلة كانت قوات جيش تحرير تيجراي قد فرضت سيطرة كاملة على مناطق اقليمها في الشمال وزحفت على وقع تحالفاتها مع قوميات أخرى نحو الأقاليم المجاورة وخصوصا إقليمي أمهرا وعفر، محققة انتصارات سهلة اسفرت عن اقترابها من العاصمة الاثيوبية بمسافة 300 كيلومتر.
كان السيناريو يقضي بزحف قوات جبهة تحرير تيجراي من الشمال، نحو مدن وميلي وديسي وكمبلوشا وشيغا روبت في إقليمي أمهرا وعفر لقطع الطرق الاستراتيجية المؤدية للعاصمة أديس ابابا ومحاصرتها، بالتوازي مع تقدم قوات حليفها في جيش تحرير اورومو نحو العاصمة، لإجبار آبي أحمد على الاستقالة أو اقتحام العاصمة واسقاط الحكومة بالقوة.
لكن المعادلة تغيرت كليا، بعد قرار رئيس الحكومة المنتخب آبي احمد، تسليم مهامه إلى نائبه والتوجه إلى الخطوط الأمامية في الجبهات لقيادة المعركة ضد جيش تحرير تيجراي وحلفائهم.
خطوة قلبت الطاولة على المتمردين سياسيا وميدانيا، كما قلبت الطاولة على الجهود الدبلوماسية المترنحة، بعد أن حقق الجيش الأثيوبي ومعه القوات المحلية في إقليمي عفر وأمهرا، انتصارات سريعة تمكنت فيها الحكومة من بسط سيطرتها على كامل أراضي إقليم عفر بعد معركة عنيفة في مدينة كاسا قيتا آخر معاقل متمردي التيجراي، واستعادة السيطرة على المدن والبلدات التي كانت قوات تيجراي قد سيطرت عليها في إقليم أمهرا بما فيها منطقة «غاشانا أربيت» الاستراتيجية.
ومؤخرا نشرت وكالات انباء دولية صورا تظهر انسحابا جماعيا لقوات جيش تحرير تيجراي من مناطق في شمالي إقليم أمهرا باتجاه مناطقهم في إقليم تيجراي بينما تمكن الجيش الاثيوبي والقوات المحلية المتحالفة معه، فصل قوات تيجراي المتقدمة في منطقة غاشانا اربيت وقواتها المتأخرة في إقليم تيجراي شمالا وهو الوضع الذي يمكن أن يفتح فرصا جدية للتفاوض.
لم تعلن الحكومة الاثيوبية انتهاء الحرب حتى الآن، غير أن الأجواء التي تعيشها العاصمة الأثيوبية تؤكد أن سيناريو اسقاط الحكومة أو اقتحام العاصمة بالقوة المسلحة قد تهاوى كليا، كما أن التهديدات التي كانت قائمة على الطرق الاستراتيجية المؤدية للعاصمة ازيلت بالكامل.
هذا الوضع فسر الظهور الثاني لرئيس الحكومة الإثيوبية آبي احمد في جبهات القتال مدليا بتصريحات عكست قدرا كبيرا من الثقة بقوله «من هنا نخطط لاستراتيجية لنهزم من تبقى منهم، سنعتمد التقنية العسكرية لتقليل الخسائر البشرية، العدو يهدف إلى كسر كرامة الشعب والبلاد، لكنه لن ينجح، داعيا شباب تيجراي إلى الاستسلام، معتبرا أن «الحكومة اضطرت إلى هذه الحرب، وأنها مع ذلك ستنتصر».
لكن هذه التطورات لم تكن موضع اهتمام الأطراف الدولية التي ظلت تراوح مكانها، بإعادة انتاج مواقفها السابقة والتي عبرت عنها تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الداعية لوقف النار والعودة للمفاوضات والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية، وكذلك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، الذي أعاد التحذير من مخاطر تطور النزاع الدائر إلى أعمال عنف طائفية قد تفكك نسيج المجتمع وقد تؤدي إلى نزوح يذكِّر بمشاهد الفوضى التي عمت مطار كابول بأفغانستان في اغسطس الماضي.
ما الذي غيَّر المعادلة؟
ترك رئيس الحكومة المنتخب آبي احمد القصر الرئاسي وتوجهه إلى الجبهات، كان حدثا مفصليا بالنسبة للجيش والشارع الاثيوبي، فالجميع توقعوا نهاية وشيكة لحكومته المنتخبة بالهروب الآمن إلى خارج البلاد، غير أن خططه في وقف عجلة التدهور الداخلي وتعاميه عن الضغوط الخارجية، أنتج فعلا معاكسا مع التفاف الاثيوبيين حوله بصورة فاقت التوقعات، وتجسدت في الاعداد الكبيرة للمتطوعين الذين شرعوا بحمل السلاح، بالتزامن مع تراجع كبير للعمليات العسكرية لجيش تحرير تيجراي وحلفائهم في العديد من المناطق الملتهبة.
أما العاصمة اديس ابابا التي يقطنها 11 مليون نسمة فقد بدت بعد اتجاه آبي احمد إلى الجبهات أكثر تماسكا وتبخرت الى حد كبير مخاوف الشارع من الانهيار المفاجئ، كما توسعت رقعة المؤيدين للحكومة والمستعدين لدفع أي ثمن مقابل اخماد التمرد والحفاظ على مشروع نهضة اثيوبيا.
هذه التطورات بددت إلى حد كبير مخاوف الإثيوبيين القاطنين في العاصمة والأقاليم الموالية للحكومة الفيدرالية، بعد أن كانت قد تطورت في الأسابيع الماضية ودفعت اديس ابابا إلى اعلان حالة الطوارئ والشروع بتسليح المدنيين للدفاع عنها أمام زحف المتمردين الذين تقدموا إلى نحو 300 كيلومتر من العاصمة.
وبالمقابل عززت التطورات الميدانية الثقة لدى الشارع الاثيوبي بأن لديهم رئيس حكومة يستطيع الصمود والمواجهة وتحقيق انتصارات، بعدما وضعت الأحداث الأخيرة الأثيوبيين أمام خيارين، إما استكمال مشروع نهضة أثيوبيا أو دوامة صراع عرقي قد تضع اثيوبيا في فوضى تفكك دموي يصعب التكهن بمآلاته.
هذا المشهد مثَّل انتصارا كبيرا للأثيوبيين على الصعد السياسية والعسكرية والديبلوماسية، خصوصا وهو تزامن مع ضغوط خارجية متصاعدة نتيجة استمرار المجتمع الدولي بسحب بعثاته الديبلوماسية وخصوصا بريطانيا وإسرائيل وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا التي شرعت بتنظيم رحلات جوية انتهت بإجلاء كل رعاياها من اثيوبيا.
الحال كذلك مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين شرعا بإجراءات لإجلاء عائلات موظفيهم المباشرين، وسط توقعات دولية تتحدث عن مضي اثيوبيا نحو الحرب الأهلية واحتمال الانهيار.
وذهبت الترتيبات الأمريكية بعيدا حيث اعلن مسؤول عسكري لشبكة CNN ان واشنطن نشرت عناصر من قوات الصاعقة البرية من الكتيبة 1/75 على أراضي جيبوتي لتقديم المساعدة للسفارة الأمريكية في اثيوبيا إذا تدهور الوضع هناك، كما تحدث عن استعداد ثلاث سفن حربية برمائية متمركزة في الشرق الأوسط لدعم عمليات اجلاء القوات الأمريكية من اثيوبيا إن استدعى الامر.
حرب الحرية والسيادة
بخلاف أسلافه، بدا آبي أحمد حاملا لمشروع جديد لم يراهن كثيرا على حسابات وتقييمات القوى الكبرى.
وفي حسابه على «فيسبوك» كتب: «لدينا تاريخ في الدفاع عن اسم اثيوبيا، الحرية والسيادة التي تمتعت بها البلاد لآلاف السنين ليست منحة، من المستحيل الحفاظ على الحرية دون ثمن، لقد دفع هذا لثمن بالدم، ومات الابطال من أجل ذلك، نمر بهذه المحنة اليوم لكن اثيوبيا ستنتصر، نحن الآن في المراحل النهائية لإنقاذ بلادنا، أعداؤنا يهاجموننا من الداخل والخارج، على الدول الافريقية الوقوف إلى جانب أثيوبيا في محنتها بروح الوحدة الافريقية».
أدركت حكومة آبي أحمد من اليوم الأول أن هناك حربا دعائية تراهن عليها قوى خفية في إسقاط الحكومة والتعجيل بانهيار النظام والجيش الاثيوبي ووضع البلد في حالة فوضى تفسح الطريق لتدخل دولي، كان مرجحا أن يضيف المزيد من التعقيد لأزمة تبدو قابلة للحل بمفاعيل محلية.
وأكثر ما كانت تحتاجه الحكومة الأثيوبية في هذه المرحلة، هو اكساب حربها ضد تمرد تيجراي وحلفائهم المزيد من الشرعية والتأييد الشعبي أولا وثانيا ومواجهة البروبغاندا.
وأفلح الأداء الجيد للحكومة الأثيوبية إلى حد كبير في اقناع الشارع الأثيوبي بأن حربها على جيش تحرير تيجراي هي من أجل استقلال ونهضة واثيوبيا وأنها ضرورية من أجل إحلال السلام الدائم في هذا البلد الذي مزقته الحروب.
وقد تحدث آبي أحمد عن حرية وكرامة وسيادة الشعوب السوداء، وهي الدعوة التي انتجت الكثير من المؤيدين، ليس في أثيوبيا وحسب، بل وفي الصومال وأريتريا ودول افريقية اخرى، خصوصا وهو تحدث لأول مرة عما سماه «أهداف تسعى إلى حرمان الشعوب السوداء من حريتها».
هذا البعد السياسي الذي حمل في بعض جوانبه نزعة عنصرية، عبَّر عنه كذلك المتحدث باسم الشؤون الخارجية الإثيوبية السفير دينا مفتي في تصريح نقلته وكالة الأنباء الأثيوبية «إيتا» ولفت فيه إلى أن دعوة آبي احمد للسود من وسط الجبهة ألهمت الإثيوبيين وجميع الافارقة لتعزيز نضالهم من اجل السيادة والحرية».
أولويات ملحة
من غير المتوقع أن تؤدي معارك «كسر العظم» التي حقق فيها الجيش الفيدرالي الأثيوبي انتصارات كبيرة في الأيام الأخيرة، إلى ثبات المعادلة الأمنية في هذا البلد، إذ يصعب التكهن باستمرار فرصه بفرض السيطرة الميدانية على كل المناطق الملتهبة أو حتى محاصرة أي تحرك لقوات التيجراي وحلفائهم في حال قرروا خوض جولة حرب جديدة، فالأوضاع الميدانية في بلد فيدرالي متعدد الاثنيات لا تلبث أن تتغير بسرعة، ما يعني أن الخطر لا يزال قائما حتى الآن على الأقل.
ومن جهة ثانية، ليس لدى الحكومة الفيدرالية فرص لإخماد التمرد المسلح كليا، فمساحة الحركة التي يتيحها الدستور الأثيوبي للحكومة الفيدرالية تضع الكثير من العراقيل أمام هذا الهدف، وأقصى ما يمكن عمله هو وقف التمرد وضمان عودة القوى المتمردة إلى أقاليمها والتعاطي معها وفقا لمحددات الدستور الاثيوبي، وسوى ذلك قد يؤدي إلى احتقانات جديدة قد تتوسع في مناطق أخرى.
والوضع الجديد الذي خلفته انتصارات الجيش الاثيوبي، قد يعزز فرص العودة إلى المفاوضات السياسية، لكنه يضع أمام آبي أحمد أولويات يتعين عليه إنجازها على المستوى الداخلي في قيادة مبادرات جديدة للمصالحة وترميم جراح الحرب الأخيرة وإعادة الأقاليم التي تشهد اضطرابات إلى المظلة الفيدرالية، والأهم من ذلك إعادة مناخ الوحدة بين الأقاليم الاثيوبية إلى سابق عهده وتعزيز الثقة بقدرة الحكومة الفيدرالية على حل مشكلات الأقاليم التي تطالب بحكم ذاتي وفقا للدستور الاثيوبي.
وسيتعين على آبي أحمد كذلك انتاج مقاربات فيدرالية جديدة، يمكنها استيعاب مطالب التنوع الهائل في المجتمع الأثيوبي المكون من 80 عرقية تتحدث بأكثر من 100 لغة بما يحفظ وحدة اثيوبيا، ضمن قواعد الحقوق والمصالح التي يمكن أن تقلص فرص العرقيات الـ 13 المطالبة حاليا بالانفصال.
كما سيتعين عليه اعادة النظر في سياسة الاقصاء الكامل التي اتبعها في جهوده الإصلاحية، وإعادة تشكيل التحالفات بمراعاة الخصوصية الاثيوبية في التعدد الاثني والعرقي دون المجازفة بتحالفات خارجية تلوحِّ ببقاء أثيوبيا في دائرة الصراعات المسلحة محمولة بالتركة الهائلة للأحقاد الثأرية.
ومن المهم كذلك أن يفكَّر آبي احمد بآليات لتوسيع تمثيل سائر القوميات الاثنية في حزب الازدهار بما في ذلك استقطاب نخب سياسية من قومية التيجراي والامهرا والأورومو وعفر، وغيرها، لتقليص فجوة التهميش السياسي والاقتصادي ومنح هذا الحزب الفتي افقا وطنيا وحصانة على المستوى الفيدرالي عموما وامام الأحزاب العرقية القوية والمؤثرة في المشهد الاثيوبي.
ولا يبدو أن امام حكام إقليم تيجراي الذين قادوا التمرد المسلح سوى العدول عن توجهاتهم بإسقاط الحكومة بالقوة المسلحة، والاستجابة لقرارات البرلمان الاثيوبي والاندماج فيه، وفق أي صيغ توافقية تحفظ كرامة شعب تيجراي وكرامة البرلمان الاثيوبي في آن.
وعلى المستوى الدولي سيتعين على آبي احمد اجتياز عقبات كبرى في إعادة العلاقات الطبيعية مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، خصوصا بعد التدهور المريع للعلاقات الأثيوبية الامريكية جراء ما سماه الأثيوبيون الدور الأحادي للولايات المتحدة الذي ظل طوال الفترة الماضية يطالب الحكومة بوقف النار والعودة للمفاوضات بل وإخضاعها لالتزامات كثيرة دون مطالبة الطرف الآخر بالتزامات مماثلة.
وبالمقابل سيتعين على المجتمع الدولي إذا ما كانت هناك نيات حقيقية لاستقرار اثيوبيا ومنطقة الشرق الأفريقي، تجنب الدفع بالفرقاء نحو مربع المفاوضات الضيقة، ومساعدة الاثيوبيين في انتاج تسويات جديدة، تواجه التمايز بين عرقيات المجتمع الإثيوبي وتجعل من الوحدة الإثيوبية أولوية في أي مقاربات سياسية قادمة.

قد يعجبك ايضا