«تسوية قيصرية» قلَّصت الاحتقان في حكومة تكنوقراط: اتفاق البرهان- حمدوك .. هل يعيد السودان إلى المسار الانتقالي الصحيح؟
الثورة / أبو بكر عبد الله
14 بندا في الاتفاق السياسي الموقع في السودان بين رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبدالفتاح البرهان ورئيس الحكومة العائد الدكتور عبدالله حمدوك، حضرت فيه مبادئ التنازل والتوافق، ما قلل إلى حد كبير من حالة الاحتقان الطاغي على المشهد السياسي السوداني منذ أسابيع بتظاهرات وأعمال عنف جابت المدن السودانية، كما لبى بعض مطالب الشارع السوداني بعودة حمدوك رئيسا للحكومة وتشكل حكومة من المدنيين، ناهيك عن فتحه بابا جديدا للتوافق وتوسيع الحاضنة السياسية، وإعادة الشراكة بين المكونين العسكري والمدني خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية الحرجة التي يعيشها السودان منذ الإطاحة بنظام الديكتاتور عمر البشير.
الجديد في الاتفاق أنه لبَّى مطالب سابقة ملحة طوتها التعقيدات السياسية بتشكيل حكومة كفاءات وطنية لإنجاز الاستحقاقات المتعثرة للمرحلة الانتقالية، وتداركه الكثير من الاختلالات والأخطاء وربما الفشل الذي وسم الفترة الماضية من جراء آليات تشكيل الحكومة وفق نظام المحاصصة السياسية، بعد أن وضع اصبعه على الجرح، بالنص على تشكيل حكومة تكنوقراط من الكفاءات المستقلة واستكمال مؤسسات الحكم الانتقالي، بتكوين المجلس التشريعي والأجهزة العدلية ورئيس القضاء والنائب العام، ومفوضيات الحقوقية ومؤسسات الحكم الانتقالي وضمان انتقال السلطة في موعدها المحدد إلى حكومة مدنية منتخبة.
ومن جانب آخر فقد أشاع حالة اطمئنان على المستويات المحلية والإقليمية والدولية بعد أن أنهى حالة التجميد التي كان «انقلاب» 25 أكتوبر قد فرضها على بعض بنود الوثيقة الدستورية، بتأكيد الاتفاق السياسي على اعتبارها مرجعية أساسية للفترة الانتقالية، فضلا عن نصها على إطلاق سراح جميع المعتقلين، والتحقيق في الوفيات والإصابات التي جرت في التظاهرات وتنفيذ اتفاق سلام جوبا، وهو ما انعكس من الساعات الأولى بعيد توقيع الاتفاق في المواقف الإقليمية والدولية المؤيدة والمرحبة.
جاء توقيت الاتفاق بعد مراوحات في جهود الوساطة الإفريقية والدولية، حبس معها السودانيون أنفاسهم من تداعيات مفتوحة على كل الاحتمالات، خصوصا مع تنامي الاحتقان السياسي داخليا وخارجيا وتصاعد التظاهرات التي اقتربت يوم الأحد الماضي، قبيل توقيع الاتفاق، من القصر الرئاسي في الخرطوم، حيث كان المتظاهرون يستعدون لاقتحامه مدفوعين بموجة غضب خلَّفها تصاعد عديد الضحايا الذين ناهزوا الــ 41 قتيلا خلال ثلاثة أسابيع من التظاهرات، قبل أن تتمكن قوات الجيش من تفريقهم.
ورغم التجاذبات بين المواقف المؤيدة والرافضة للاتفاق، إلا أنه حظي منذ الساعات الأولى على توقيعه بتأييد وترحيب كبير عبَّرت عنه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول العربية والأفريقية، ما حوَّل التعاطي مع الخطوات التي باشرها قائد الجيش في وقت سابق بوصفها انقلاباً عسكرياً إلى تعاطٍ مختلف من منظور كون ما حدث عملية إصلاحية أفلحت في إنتاج مولود جديد بحاضنة توافقية وسياسية واسعة تحمل في طياتها ضمانات القدرة على مواجهة التحديات دون عقبات.
كواليس التسوية
في 25 أكتوبر الماضي اكتنف الغموض الخطوات التي باشرها قائد الجيش الفريق البرهان بقراراته المفاجئة حلَّ المجلس الانتقالي العسكري والحكومة واعتقال أعضائها وبعض رموز حاضنتها السياسية، وإعلانه حالة الطوارئ وإقفال المنافذ البرية والبحرية والاتصالات، لكن بعض معطيات التحوُّل اليوم تشير إلى أن ما حدث لم يكن انقلابا عسكريا كاملا من تخطيط العسكر، بل عملية إصلاحية شاركت فيها أطراف سياسية فاعله ألقت بمسؤولية التغيير على المكون العسكري باعتباره الأكثر قدرة على التنفيذ والصمود أمام العواصف، بينما اختارت التواري عن المشهد مؤقتا للتدخل عند الحاجة إلى الحسم.
بدا ذلك واضحا في تصريحات الفريق البرهان بعيد التوقيع على الاتفاق والتي أفصحت ضمنيا عن أن ما حدث كان مرتبا له بين أطراف سودانية سئمت الاضطرابات والاختناقات التي شابت عمل الحكومة السابقة، خصوصا أنه شكر في كلمته رئيس الحكومة عبدالله حمدوك على “صبره وصموده من أجل الوطن»، وأكد أن « حمدوك سيظل محل ثقة القوات المسلحة السودانية»، ناهيك عن إشارته إلى أن “الاتصالات لم تنقطع مع حمدوك طوال الفترة الماضية» وتأكيده «على ضرورة عودة السودان إلى الاسرة الأفريقية وإزالة اللبس حول ما جرى مؤخرا».
هذه التصريحات أكدت أن الخطوات الانقلابية التي اتخذها يوم 25 أكتوبر، لم تكن انفرادية بل نفذت بمساندة كثير من الفاعلين العسكريين والسياسيين، واستهدفت بصورة مباشرة “قصقصة” أجنحة تحالف الحرية والتغيير الذي كان مهيمنا على الأداء الحكومي في ظل الكثير من التعقيدات والأخطاء التي رافقت الأداء الحكومي والسياسي بصورة عامة وجرَّت السودان إلى متوالية أزمات سياسية …
… فضلا عن إشارته إلى أن «الاتفاق الموقع صار واحدا من خطوط الدفاع عن الثورة السودانية المجيدة ويؤسس لبداية تحول حقيقي في السودان».
الحال كذلك مع الدكتور حمدوك الخارج للتو من أسر الإقامة الجبرية، إذ تحاشى الحديث عن الانقلاب العسكري وتداعياته، مقابل تأكيده على أن الاتفاق السياسي «يفتح الباب واسعا على كل قضايا الانتقال وأنه لا تزال لدى الحكومة القدرة على العمل مع المكون العسكري لمواجهة التحديات، فضلا عن تأكيده على أن الاتفاق قام على نقاط محددة لحقن دماء السودانيين، ويحافظ على مكتسبات العاملين الماضيين ويحصِّن التحوُّل المدني الديمقراطي عبر توسيع قاعدة الانتقال.
كان حمدوك حاسما وواضحا –أيضا- بتأكيده على «الحاجة لتوحيد قوى الشعب لبناء نظام ديمقراطي راسخ، وترك خيار من يحكم السودان للشعب السوداني «وكلما وصلنا إلى نقطة اللاعودة نستطيع إعادة البلد إلى الطريق الصحيح» وهي تصريحات أفصحت بشكل متأخر عن موقفه الرافض لحال الانسداد الذي كانت وصلت إليه الأوضاع في السودان قبل الانقلاب وحالة عدم الرضا عن سير العملية الانتقالية في ظل هيمنة قوى الحرية والتغيير وتجاذباتها السياسية التي خلفت تراكما في الأزمات لوَّح بمآلات خطيرة.
ومن المؤكد أن الأطراف المشاركة في «انقلاب» 25 أكتوبر الماضي أدركت مخاطر التحولات الإقليمية والدولية على الوضع في السودان والحاجة إلى إعادة رسم الخارطة الانتقالية بما يواكب التحولات الجديد، ذلك أنه من غير الممكن فصل التفاعلات الأخيرة للمشهد السوداني عن المتغيرات الحاصلة في الساحة الإفريقية والدولية عموما، والمؤكد أنها لعبت دورا مهما في فرضها باعتبارها خيار ضرورة إنقاذي لتجنب مآلات كارثية كانت كل التقديرات تشير إلى صعوبة السيطرة عليها في المستقبل.
كذلك لا يمكن فصل ما حدث عن المتغيرات في الساحة السياسية السودانية مع ظهور فاعلين سياسيين جدد كان من الخطأ الجسيم بقاءهم خارج المعادلة السياسية، وفي الصدارة الحركة الثورية والحركات المسلحة التي تحظى بوزن شعبي ربما يفوق ما تمتلكه المكونات السياسية التي كانت حاضرة في المشهد السوداني خلال العامين الماضيين، فضلا عن صعوبة فصلها عن حراك الشارع السوداني الذي بدا متفاعلا ومساهما في رسم خارطة المستقبل محمولا بأهداف ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام البشير أملا في التغيير والانتقال الديموقراطي والبناء والتوحد.
والأهم من ذلك هو التنازلات، فالمتأمل لبنود الاتفاق السياسي سيدرك أن الاتفاق خرج كمحصلة لتنازلات من قبل المكون العسكري والقوى السياسية التي حضرت مراسم التوقيع، وهو ما أفصح عنه الفريق البرهان والدكتور حمدوك بتأكيدهما بعد توقيع الاتفاق أن التنازلات التي تمت كانت من أجل حقن الدماء وتحقيق آمال وتطلعات الشعب السوداني.
وبعد نحو 30 يوما من «انقلاب» 25 أكتوبر، ثم الاتفاق السياسي يمكن القول إن الفارق الذي أحدثه في المشهد السوداني هو انهاؤه حالة الانسداد والاضطراب التي خلَّفها نظام المحاصصة السياسية في تشكيل الحكومة من جهة ومن جهة أخرى تهيئته الفرصة لحكومة كفاءات لإكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية، كما أنه دفع بالأحزاب إلى ملعب آخر هو مربع التنافس السياسي على الانتخابات القادمة، بما يضمن للسودان حالة استقرار خلال المرحلة الانتقالية بعيدا عن التجاذبات التي عطلت الكثير من الجهود والتوجهات نحو استكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية التي سجلت في العامين الماضيين فشلا ذريعا باعتراف كل المكونات السياسية والعسكرية السودانية.
كوابيس الإقصاء
في مقابل الترحيب المحلي والإقليمي والدولي بالاتفاق لم يخل المسرح الداخلي من مواقف مناهضة ظهرت مع الساعات الأولى لتوقيع اتفاق التسوية السياسية، إذ اعتبرته القوى السياسية في تحالف الحرية والتغيير اتفاقا بين قائد الانقلاب وحمدوك، وليس بين المكونين العسكري والمدني ما يبقي مفاعيل الأزمة قائمة.
ومن جهة أخرى فإن الاتفاق -رغم تخفيفه حالة الاحتقان الداخلي- كان مخيبا للآمال بتكريسه الحكم العسكري من خلال نصه على أن يشرف مجلس السيادة العسكري الجديد برئاسة الفريق البرهان على مهام المرحلة الانتقالية، بما يعنيه ذلك من طي لصفحة الشراكة الانتقالية مع تحالف قوى الحرية والتغيير المشكل من تيارات سياسية كبيرة لها وزن في المشهد السوداني.
ويشير المناهضون للاتفاق إلى أنه جاء متأخرا قياسا بمطالب الشارع التي تجاوزت عودة حمدوك والحكومة المدنية إلى اللاءات الثلاث التي لا يزال تحالف قوى الحرية والتغيير -الذي يضم عددا من المكونات السياسية السودانية- يرفعها وتشدد على « لا تفاوض ـ لا شراكة ـ لا شرعية للمكون العسكري» ناهيك على تأكيده على أن التحالف غير معني بأي اتفاق مع ما أسماها “الطغمة الغاشمة».
كما عادت مظاهر الحياة إلى طبيعتها بفتح المدارس والجامعات أبوابها وعاد الموظفون إلى أعمالهم وكذلك عادت المصارف والشركات التجارية والأسواق إلى نشاطها السابق.
ورغم أن البرهان حاول توجيه رسائل تطمين لخصومه في تحالف قوى الحرية والتغيير بأنه لن يكون هناك إقصاء لأحد خلال الفترة الانتقالية سوى ما تم التوافق على إقصائه وهو المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في نظام البشير) وحرصه على التوافق، في إشارة إلى عزمه على معالجة القضايا العالقة مع الشركاء المقصيين إلى من المعادلة السياسية تحالف الحرية والتغيير، غير أن هذه التطمينات لم تكن كافية.
وعلى كل الملاحظات والانتقادات التي عبَّرت عنها قوى الحرية والتغيير وغيرها حيال اتفاق التسوية الجديد، فإن من الصعب الإقرار بأنه أغلق الباب كليا أمامهم، فما هو مؤكد هو أنه نص على حق جميع السودانيين في المشاركة السياسية سوى حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عهد نظام البشير، كما أنه جعل من التوافق السياسي عنوانا للمرحلة المقبلة.
ولعل التصريحات التي ادلى بها الفريق البرهان والدكتور حمدوك عززت ما حمله الاتفاق بهذا الشأن وكانت متوافقة وأفصحت عن إجماع بعدم إقصاء أي مكون سياسي والحرص على بناء شراكة متينة مع سائر المكونات السياسية على قاعدة التوافق.
ورغم كل التفاعلات الإيجابية في المشهد السوداني يبقى السؤال حول ما إذا كان الاتفاق السياسي سينهي الأزمة السياسية في السودان؟
والإجابة على هذا السؤال تبدو ضبابية، مع إقرار أطراف المعادلة السودانية المضي بخيار تصحيح أخطاء الفترة الانتقالية وتحقيق التعافي السياسي بتعزيز قيم الشراكة والتسامح والمصالحة دون العدول عن مواقفهم المتصلبة تجاه النظام السابق في ظل استمرار خطاب الكراهية ضد النظام السابق الذين يشكلون في الواقع جزءا مهما من المعادلة السياسية، بل يمكن اعتبارهم ركنا من أركان حالة التوافق التي يصعب تحققها في حال بقوا خارج المعادلة السياسية.
وقد أعاد اتفاق “البرهان- حمدوك» هذا التوجه في البند رقم (11) الذي نص على إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام 30 يونيو (نظام الرئيس المعزول عمر البشير) مع مراجعة أدائها في المرحلة السابقة ورفدها بالكوادر المؤهلة في التخصصات والخبرات اللازمة التي تمكنها من أداء عملها بصورة ناجحة وعادلة، مع تفعيل لجنة الاستئنافات ومراجعة قراراتها وفقا لدرجات التقاضي المقرة قانونا.
وليس هناك ما يبرر بقاء هذه الحالة الثأرية دون تسويات ممكنة، فأكثر ما يحتاجه سودان ما بعد الثورة هو التصالح والتوحد وانهاء عوامل التشظي والانقسامات والتعايش وتعبيد الطريق للتنافس الانتخابي الشفاف، وأي إقصاء لقوى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية موجودة على الأراضي حاليا لا يعني إلا تأجيل دوامة أخرى من الصراع يصعب التكهن بمآلاتها.