رواية الصمت وفلسفة الضياع “انجيرونا”

الغربي عمران

أثناء قراءتي لرواية “انجيرونا” للأديبة المغربية ليلى مهيدره.. الصادرة عن دار غراب-
القاهرة مؤخرا..اصطحبتني أحداثها إلى أجواء تلك المدينة الغافية على شواطئ الأطلسي الـ “صويرة”، بالطبع أحداث الرواية وشخصياتها من العمق بحيث يتخيلها المتلقي كل حسب بيئتها، وما هبوط تلك المدينة الإنسانية عليَّ أثناء قراءة انجيرونا إلى كونها مدينة الكاتبة التي كان لنا شرف تلبية دعوتها الكريمة.
إذاً “الصويرة” تحضر كمدينة متدثرة بماض عريق.. تمثل بوتقة لحضارات مختلفة دخلت في تكوينها.. هذه الرواية تقودني إلى ذكرى زياراتي للمغرب واستضافة الكاتبة لنا والدكتورة غادة البشتي من ليبيا والدكتور بشير زندا من اليمن في مدينتها الجميلة، حيث نسقت لأمسية على مقاعد أحد مقاهي المدينة الثقافي.. حضرها جمع مبهج من مبدعي المدينة.. وبعض أدباء مدن مغربية مجاورة.. ومنهم الأديب المتجدد عبدالكريم ساورة.. من قلعة السراغنة.. تخللت النقاشات معزوفات موسيقية بديعة، ثم اختتمت الأمسية بحفل عشاء شهي من الأطباق المغربية.
حين يكون بين يدي عمل أدبي مغربي.. أجده يحملني إلى زياراتي لمدن المغرب الوطن الذي لا تملك إلا أن تحبه.. والتعرف على أدباء أعتز بصداقتي الدائمة بهم.
في المغرب جلت لما يقارب الشهرين بين البيضاء.. فاس.. مكناس.. مراكش.. أغادير .. قلعة السراغنة.. خنيفرة.. بني ملال.. ثم شمالا إلى الناضور.. طنجة.. القنيطرة والعودة إلى البيضاء عبر الرباط.
المغرب وطن مضياف متنوع التضاريس والمناخات.. متعدد الحضارات.. الأمزجة والعادات.. لا يملك الزائر إلا أن يتوه في جمال مدنه وبين نسيج مجتمعه.. ليكسب مزيداً من أصدقاء الأدب.
وأظل في شوق لجولة وجولة لأجمل البقاع وأروع الأدباء.. للتعرف على مزيد من بذخ انسانيته.
“انجيرونا”.. رواية يجذبك عنوانها.. متسائلا عن معناه.. إلا أن ما يزيد العجب.. أن انجيرونا حتى آخر صفحاتها دون أن يصادفني أي ذكر له.. لجأت سائلاً الكاتبة عن معناه.. لتخبرني بأنه اسم لإله الصمت في الحضارة الإغريقية!.
عدت متذكرا صلة إله الصمت بهذا العمل لأجد أن الكاتبة جعلت من الصمت إحدى ثيمات العمل.. بل ومحوره الأساسي.. من خلال نزوع شخصيته الرئيسية للصمت.. والانزواء.. وفق إيقاع حياته كحارس مرآب ليلي. إذ ينتقل القارئ من عالمه الشخصي إلى عوالم الرواية الليلية الغامضة لتفرض عليه إيقاع حياة شخصياتها.. الأقرب إلى حياة الجنون.. حياة شريحة تعيش على هامش المجتمع.. بعبث لا يمكن تصوره قبل الولوج في صفحات انجيرونا.. ففي الوقت الذي يتوفى الأب.. يحل محله الأبن الحالم بحياة جميلة.. كأحد حملة الشهادات الجامعية في الفلسفة.. فجأة يجد نفسه في صندوق هو مأواه الليلي.. منه يراقب ما حوله طيلة الليل.. لنرى بعيونه تلك الحياة الغريبة.. حياة على حافة الجنون والفقر والضياع.. إذ يهيمن الصمت على أجواء مجتمع الرواية من خلال السارد المشارك.. هنا نستطيع أن نطلق على هذه الرواية “رواية الواقع العفن”، من خلالها استطاعت الكاتبة تعرية مواطن الخلل في المجتمع.. كما هي تعرية ومحاكمة للأنظمة الفاسدة تلك التي تعمل على تكريس الطبقية.. وتعميم الفساد خدمة لشريحة عليا من المتسلطين.. حيث تتفشى البطالة وتنهب الثروات وتنعدم العدالة.. وكأن المجتمع تحول إلى غابة.
رواية فاضحة جارحة.. تذكرني بخبز محمد شكري.. وإن كان ما خطه شكري رواية سيرية.. إلا أن ما بين يدينا عملاً متخيلاً يشهد للكاتبة بقدرتها الفذة فنيا وموضوعيا.. على تجاوز نفسها من عمل إلى آخر.. بكل اقتدار، فروايتيها “رائحة الموت” 2018م و” ساق الريح”، كانتا رائعتين، إلا أن انجيرونا تفوقت فيه الكاتبة بموضوعها ومعالجته فنيا.. حيث سلطت الضوء على عوالم منسية.. شرائح مطحونة.. وجعلت من الصمت إحدى خصائص هذا العمل كقيمة إنسانية.. وأيضا إشارة إلى ما يمثله الصمت من موت.. عدم.. انسحاق. ظلم.
لوحة الغلاف تمثال رخامي جميل لـ “انجيرونا”.. امرأة ترفع كفها لتقترب بسبابتها من شفتيها.. ما يعني إشارة لنصمت، ولجمال تلك الملامح.. تبعث على الانبهار في النفس.. وأيضا على الدهشة.. قيمة حقيقية للصمت ونقاء وعمق ما ترمي إليه الكاتبة.. فلكل شيء في حياتنا أوجه.. فلا يمكن أن نرى الصمت رذيلة.. ولا نرى أوجه الفضيلة والحكمة فيه.
إذن هو أسلوب غير مباشر اتبعته الكاتبة بوعي وتخطيط مسبق أن تكون للصمت مكانة رمزية.. سواء من خلال لوحة الغلاف.. أو صمت شخصيات الرواية.. ليتحول الصمت إلى شبه محسوس يدركه القارئ.. وفعل إيجابي مؤثر في النفس.
معظم أحداث انجيرونا تقع ليلا.. بحكم عمل الراوي حارس مرآب.. وما يتبع ذلك من تفاصيل لحياة الليل.. وحدة ..صمت .. تأمل ما يجعل الكائن مع الأيام شخصاً خارج مدار المجتمع وصخبه.. إذ يبدأ عمله مع أول ساعات الليل وينتهي مع بزوغ شمس جديد، ما يجعله في منطقة وسطى بين العقل والجنون..
تصاعد الأحداث.. وتلك العلاقات غير السوية لمجتمع الرواية.. مقابل العلاقات السوية.. من خلال تلك الانساق الحكائية أرادت الكاتبة أن تقول إن لكل شيء عدة أوجه فكل شيء يحمل الخير وكذلك الجمال.. حتى لو بدا لنا قبيحا .. لتأكد ان جمال الحياة ولذتها يكمنان في ذلك المزيج وتلك النسب السحرية للأشياء.
حياة الكاتب على صعيد الشخصية حياة مفعمة بالحركة والنشاط.. فهي ناشطة ثقافية.. وذات قيمة مجتمعية.. ولهذا من يقرأ أعمالها يدرك حضورها المتمثل في قيم الخير والجمال.. في الانتصار للعدالة والإنسانية.. في الجمال والحرية.. وهذا ما يلمسه المتلقي في أعمالها الإبداعية.. ولذلك تأتي شخصياتها مؤثرة .. إضافة إلى معالجاتها ذات صدق فني يترك أثره في وجدان القارئ .. ولعمري أن الأعمال الخالدة تلك التي لا تنسى، فما بالنا لو أن هذا العمل قد أخذ حقه من الانتشار.. كونه لا يعبر عن مجتمع بعينه.. بل يعبر عن الإنسان بآماله وكبواته أينما يكون .
وما أرع لو يلتفت صناع السينما إلى هذا العمل ليكون فيلما سينمائيا.. فمقوماته الإنسانية.. ونسيج أحداثه تدفع القارئ ليرى ما كتبته.. مشاهد سينمائية .. وتلك الشخصيات تقودنا لشخصيات روايات نجيب محفوظ في حواري القاهرة.. وقد ماثلته الكاتبة بالغوص في قاع المجتمع.. أو روايات حنا مينة .. تلك التي تقود المتلقي ليعيش حياة شريحة هامش المدينة هناك على شواطئ بحر اللاذقية.
إذاً ليلى مهيدره تقودنا في روايتها إلى أعماق أنفسنا.. من خلال مجتمع نسجته من خيالها.. ابرزت فيه شرائحه منسية.. قد يقع احدنا في نفس ظروف خريج الفلسفة.. لعيش حياة الضياع التي لم يخترها ولكنه ظلم السلطة.. وضياع العدالة وتفشي الفساد والبطالة.

قد يعجبك ايضا