في حضرة الرسول

د. احمد علي الهارب

لا يَخْفَكَ الخَطْبُ، إِنْ مِثلِي بِهِ خَطَبَا
وَجَلَّ خَيرُ الذِي أَروَاكَ خَيرُ نَبَا
يَا خَيرَ مَا أَثْمَرَتْ بِالبَيتِ أَدعِيَةٌ1
فِي خَيرِ زَرعٍ حَمَلنَ العَهدَ وَالكُتُبَا
فَطَابَ لُقياكَ، فِي مِيعَادِ أَبرَهَةٍ
وَقَد لَقَى الدَّهرُ فِيمَا كَادَهُ عَجَبَا!
وَطَابَ سُقْيَاكَ، فِي فَوضَى الرِّمَالِ وَقَد
أَجْدَبْنَ دَهرًا، وَأَذْرَتْهَا الرّياحُ هَبَا!
واغْبَرَّ فِي صَفْحَةِ التَّأريخِ واقِعُها
فَلَا تَكَادُ تَرَى فِي أُفْقِهَا طَلَبَا!
*
فَجِئتَهَا وَاقِعًا مَا هَابَ حاضِرَها
وَلَا جُموعَ العِدا مِنْ ذَروَةِ العَرَبَا
وَثُرْتَ فِي عالَمٍ؛ إِدرَاكُ صَحوَتِهِ
ضَغثًا مِن الحُلْمِ، أَو ضَرْبًا مِن العَجَبَا!
أَجْلَيتَ إِذ جِئتَ مَا أَدجَى مَناكِبَها
وَكُنتَ مَنْجَاتَهَا، حِينَ الزَّمانُ كَبَا
وَسَرمَدَتْ مِنْكَ شَمسٌ لَا غُروبَ لَهَا
تَطُوْلُ مَا ضَاقَ فيها عنكَ أو رَحُبَا
وَاخْضَرَّ فِي رَمْلِها، مِنْ كُلِّ يانِعَةٍ
لَوْلاكَ لَمْ نَلْقَها ظِلًّا وَلَا رُطَبَا
*
وَمِن فَمِ الوَحي، أَوْقَدْتَ الوَرَى هِمَمًا
وَعَنْ دُجَى الجَهْل، أَجْلَى هَدْيُكَ الحُجُبَا!
وَبِالمَعالي شَغَلْتَ النّاسَ عَنْ سَفَهٍ
فَزِدتَ أَحلامَها، فِي وَعيِها رُتَبا
وَفاحَ إِيمَانُهَا فِي كُلِّ عابِقَةٍ
مِن الفَضائِلِ، فِي أَخلاقِها أَدَبَا
وَأوْلَدَ الدِّينُ قَوْمًا خِيْلَ لَا رَحِمٌ
لَهُمْ سِوَاهُ؛ وَقَد أَضحَى لَهُمْ نَسَبا!
وَخِيْلَ أَنَّ جَميعَ المُسلِمِينَ عَلَى
قَلْبٍ فَإِنْ يَشْتَكِي؛ نَالُوا بِهِ نَصَبَا
بِكُلِّ رُوحٍ لِكُلِّ المُسلِمِينَ عُرَى
تَمْتَدُّ إِنْ شَدَّها مِنْ بَعضِها عَصَبَا
وَشُدْتَ فِي حالِكِ الأَوقَاتِ نَهضَتَها
إِذْ تَتْبَعُ الوَحيَ فِي إِنفاذِهِ سَبَبا
وَتَبذُلُ الجُهدَ، فِي إِدراكِ غايَتِهِ
وَلَو بِصَدرِ المَنَايَا وَحيُها كَتَبَا!
وَقَد أَدَرْتَ الرَّحَى، أَمثالَ دَوْرَتِهِ
فَدارَت الأَرضُ أَنَّى شِئتَهَا رَغَبَا!
*
وَدارَ عَنكَ زَمانٌ… فِي دَوائِرِهِ
مَا عَادَ مِنْ عابِقٍ، أَو ثائِرٍ غَضَبَا!
زِدنَا عَدِيدًا، تَشَظَّى دُونَ جامِعِها
وَالدَّهرُ أحكامُهُ فِي أَهلِهِ نُوَبَا!
وَفوقَ أَرجائِنا، مَا عَادَ يَجمَعُنَا
فِي وحدةِ الدِّينِ لا صَيْبَاً ولا وَصَبَا! 2
وَفَوقَ أَجْهَلُ مَا لَاقَيْتَ؛ واقِعُنا
وَإِنْ تَوارَى وَحَلَّى وَجْهَهُ ذَهَبَا!
وَزَادَ أعدَاؤُنَا حِقدًا عَداوَتَنا
يُورُونَ نِيرَانَهَا، مِنْ بَعضِنا حَطَبَا!
وَشَقَّنَا الدَّهرُ، إِذ هَانَتْ مَبَادِئُنَا
فَصَارَت القَومُ فِي سِرْبِ الوَرَى ذَنَبَا!
*
هَلْ تِلكَ أَقدارُنا تَروِي مَصائِرَنا!
أَمْ حَظُّ مَنْ يَجتَزي سُوءًا بِمَا كَسَبَا؟!
وَعَنكَ فِينَا كِتابُ اللهِ، مَا غَرَبَتْ
آيَاتُهُ؛ بَلْ عَلَيهَا فِعلُنا غَرَبَا!
وَكَانَ فِيكَ قِيَادُ المُسلِمِينَ عَلَى
نُورِ الكِتابِ، فَأَضحَى مُلْكُها سَلَبَا
وَإِنْ يَخِبْ فِي مَعالي القَومِ قائِدُها
أَلْفيْتَ فِي صُلْبِها مِنْ ضَعفِهِ عَطَبَا!
وَمَا عَلَى كَثْرَةِ الأَقوامِ نُصرَتُها
بَلْ نَهجها، ثُمَّ حَادِيهَا عَلى الّلهَبَا
وَمَا طِلابُ العُلا فِي كَفِّ أُمْنيَةٍ
بَلْ قَدْرَ سَعي الخُطَى، والجُهدِ يَقتَرِبَا
وَمَا عَلَى حُلْمِها تَحلِيقُ رِفعَتِهَا
إِنْ عَزْمَهَا فِي رِكابِ العالَمينَ خَبَا!
وَإِنْ رَأَتْ فِي سِوَى القُرآنِ عِزَّتَها
فَمَا لَهَا دُونَهُ هَدْيًا وَلَا غَلَبَا!
وَمَا لَهَا دُونَ مَا أَبْقَيتَ مِنْ أَثَرٍ
لِنَهْضَةِ الدِّينِ؛ إِلَّا ذُروَةُ العَقِبَا
إِذَا هَدَى اللهُ بِالْإِيمَانِ حُجَّتَهُ
وَفِي صِراطِ الهُدَى لِلهِ قَد وَثَبَا
*
إِلَيكَ يَا سَيِّدي أَوتارُ قافيَتِي
تَسْتَنْطِقُ الحَالَ، فِي أَصدَائِهَا صَخَبا!
والعُذرُ إِنْ صَوتُها قَد فَاقَ، أَو جَهَرَتْ
بِغَيرِ قَدرِكَ، أَو فِي جَوِّهَا شَغَبَا!
ذَكَرْتُ “أَنْ تَحبَطَ” الأَعمالُ فَارتَجَفَتْ 3
مَخارِجُ القَولِ، فِي قِيعَانِهَا رَهَبَا!
وَدَدْتُ لَو أَنَّنِي فِي كُلِّ فاصِلَةٍ
صَلَّيتُ بِالحَرفِ، فِي أَنحائِها أَدَبا
وقَد طَفِقْنَ حُروفي، كالحَجِيج عَلى
ضَوامِرٍ ترتجي في سَعيها قُرُبَا
عَزَفنَ عَن مَكْرُماتِ الأَرضِ أَبْحُرُهَا
وَبَحرُ جُودِكَ لَا تَخشَى بِهِ نَضَبَا!
*
يَمّمتُ مِن “نَفَسِ الرحمنِ” أَنْفَسَها 4
وعَرْفُ أنفاسِها مِن طِيبِ أرضِ “سَبَا”
وَقَد تَيَمَّنْتَهَا يُمْنَاً، وما بَرِحَتْ
تَمُدُّ إيمانَها يُمنَاكَ مِن “رَجَبَا”5
وإن رَمَتْها الليالي قَفْرَ داهيةٍ
رامَتْ إليكَ، فَهَزّتْ مجدَها وَرَبَا!
تَقْفُو هُداكَ، وقد أعليتَ جانبَها
كأنّ للوحي في أصلابِها طَلَبَا
وفي خُطاكَ -وإنْ قامت قيامتُها-
ترى السلامةَ ميعاداً ومُنقَلَبَا!
واليومَ عَن أهلِها؛ أشكو وتسبقني
أوجاعُها، ثم نَلقى في رَجاكَ أبَا!
ومِن جَوى يأسِها أَجترُّ أسئلةً
ترجو المُرادَ، وإن لَم تَرْضَهُ العَرَبَا
وقد رَفَعتَ مَقامَ القَومِ، فارْتَكَسوا
جِذْعَ الهُوَيْنَا، وَمَا مِنْ حَصْدِها هَرَبا!
وَلَيْتَ فِي الذِّلَّةِ المَنْجَى وقد رَضيوا
مَنْ رَاقَها الآنَ، فِي الأُخرَى لَهَا شَرِبَا!
*
إليكَ كيفَ الهوى أردى وأَورَثَها
ذُلّاً، وَمَا العِزُّ إِلَّا سَيِّدُ الكُتُبَا
وَنَهْجُ سَيْرِكَ في حَصدٍ لِغايَتِهِ
وَخَيرُ مَنْ يَقْتَدي مِنْ قادَةٍ نُجَبَا
وَأُمَّةٌ فِي سَبيلِ اللهِ غايَتها
فَغَايَةُ العيشِ لا مَالاً ولا لَعِبَا!
شَهِدْنَ كُلُّ الدُنا إِتمامَ مَنْهَجِها
وَأَكْمَلَ اللهُ فِي التَّنْزيلِ مَا عَزَبَا
وَيَشْهَدُ اللهُ أَنْ بَلَّغتَ حُجَّتَهُ
وَمَا سَأَلتَ بِهَا أجراً وَلَا أَرَبَا
“إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى”.. كَأَنَّ بِنَا
مَنْ يَدَّعِيكَ، وَلَا يَرعَى لَكَ القُرَبَا!
أَنَّى يُصَلِّيكَ مَنْ صَلَّى، وَمَا بَقِيَتْ
بَعدَ السَّلامِ الذِي ألقَى.. فَكَيْفَ أَبَى؟!
وَمَا سَلِمْنَ دِماءٌ مِنْكَ زاكيَةً
أراقها السَّيفُ، أو جَفَّتْ على الصُّلُبَا!
فَمَا سُؤالُ الذِي جَافَاكَ حِينَ يَشَا
مِنْكَ الوِدَادَ، وَقَد حَاقَتْ بِهِ الكُرَبَا؟!
*
يَا رَحمَةَ اللهِ لِلأَكوَانِ، حِينَ أَتَتْ
غَيْثًا تَفَرْدَسَ مِنْ جَنّاتِهِ سُحُبَا
وبَسمَةً مِنْ عَلالي جُودِهِ هَبَطَتْ
بِنَابِتِ الخَيْرِ جَارِيهَا الإِلَهُ حَبَا
مَا لِي بِمَدحِكَ مِنْ بَاعٍ، وَإِنْ بَسَطَتْ
يَدُ الضَّعيفِ؛ فَحَصرُ البَحرِ قَد صَعُبَا!
عَظُمْتَ خَلْقًا وَأَخْلاقًا وَمَنْزِلَةً
جَلَّ المُرادُ بِأَنْ يَحويكَ عَنْ كَثَبَا
أَوفَاكَ مَنْ زادَ تَعظيماً على خُلُقٍ
فَمَا عَسَى أَنْ يَزيدَ العَبْدُ إِنْ كَتَبَا؟!
*
عَلَيْكَ صَلَّى إِلَهُ الكَونِ مَا حَمَلَتْ
جَوامِعُ الخَلْقِ فِي ذَرّاتِها حِسَبَا
عَلَيْكَ والآلُ مَا سُحْبُ الزَّمانِ حَوَتْ
وَخِيرَةُ الصَّحْبِ والأَتْباعِ مَا سَكَبَا
بِنُورِ جَاهِكَ، أَرجُو اللهَ مَغْفِرَةً
وَبالشَّفاعَةِ أَنْ أَلقَى بِهَا سَبَبَا
وَفِي صَلاحِ الدُّنا والدِّينِ مَنْفَعَةً
وَفِي ذَهابِ الظَّمَا مِنْ كَفِّهِ صَبَبَا
وَفِي انْفِراجِ الذِي يَجري بِأُمَّتِنَا
وَصَلِّ رَبِّي.. لِأَلْقَى مَا بِهَا وَجَبَا.
صنعاء 1443
هوامش
1 بالبيت أدعيةٌ: دعوات إبراهيم واسماعيل عليهما السلام عند بناء البيت الحرام؛ الآيات 124-129 من سورة البقرة ومنها (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ).
2 لا صيباً ولا وصبا: الصيب المطر والوصب الوجع والمرض، والمقصود لا خير ولا شر.
3 أن تحبط: إشارة إلى ما ورد في سورة الحجرات “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ”
4 نَفَس الرحمن: المراد من اليمن كما ورد في أحد الأحاديث النبوية، كما هي أرض سبأ “بلدةٌ طيبة وربٌ غفور”، وأنفَسَها بالفتح من النفيس والمراد أطيب ما قيل.
5 من رجبا: إشارة إلى وقت إسلام اليمنيين في الجمعة الأولى من رجب، أي منذ وقت إسلامهم أفواجا.