الأزمة التي واجهتها دولة الإمام يحيى حميد الدين مع زعيم قبيلة حاشد الشيخ ناصر الأحمر وابنه حسين بن ناصر الأحمر في 1921م لا تختلف في طبيعتها عن الأزمة التي واجهتها جمهورية الحمدي مع حفيده الشيخ /عبدالله الأحمر في السبعينيات من القرن الماضي .
في مذكراته يوضح الشيخ/عبدالله الأحمر طبيعة الأزمة بين الإمام ووالده وجده الشيخ ناصر الأحمر فعلى حده، قبيلة حاشد كانوا أنصار الدولة أو الإمام لا رعايا ” وهو توضيح يلخص الخلاف على طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الدولة والقبلية أو شيوخ القبيلة في تصورين، تصور يرى أن كل أفراد الشعب وقبائله رعايا ومواطنين للدولة التي لها الحق في فرض سيطرتها على جميع رعاياها وبسط نفوذها على جميع أراضيها بما فيها أراضي قبيلة حاشد، وتصور يمثله الشيخ عبدالله الأحمر وشيوخ القبائل الأقوياء يرى أن حدود سلطة الدولة في المدن أما القبائل فهم مجرد أنصار للدولة لا سلطة لها مباشرة على أفراد القبيلة فهم رعايا الشيخ صاحب الحق في الإدارة المحلية للقبيلة سياسيا واقتصاديا وأمنيا ,وهو الخلاف الذي حكم أزمة الدولة في اليمن عبر التاريخ من الممالك القديمة السبئية والحميرية إلى العصر الحديث وكانت قدرة الدولة على فرض نفوذها وسلطتها حسب سياستها مع شيوخ القبيلة وما يتوفر لها من وفر وفائض اقتصادي يساعدها على تعزيز شرعيتها من خلال الخدمات التي تقدمها لأبناء القبيلة تربط مصالحهم بالدولة .
وإجمالا كانت ظروف اليمن التاريخية الاقتصادية والطبيعية في معظم الأوقات لا تعمل لصالح وجود دولة مركزية قوية كما سياتي.
إلا أن العقلية الثأرية التي حكمت الدراسات الاجتماعية في اليمن حينا من الدهر والسياسة الثأرية التي أحكمت سيطرتها على الدولة والثورة والجمهورية كعادتها في اختزال أزمات اليمن من انهيار السد إلى سقوط شرعية هادي في نظام الإمامة والهاشمية والزيدية، التفسير السحري الأثير كآلية من آليات حجب الرأي العام عن رؤية فشلها ,وفزاعة سحرية تعلق عليها أزماتها ,متناسية أن اليمن في القرن التاسع عشر وبداية لقرن العشرين- الفترة التي ظهر فيها مفهوم الدولة الوطنية الحديثة -كان يحكمها الإنجليز في الجنوب والعثمانيون في الشمال باستثناء الأرياف في شمال الشمال في حجة وصعدة وعمران ,حتى العاصمة صنعاء كانت حينها تحت سيطرة العثمانيين وكانوا هم المسؤولين عن وضع اليمن في هذه المرحلة التاريخية المفصلية في حياة شعوب الشرق مع بداية عناصر ومؤثرات الحضارة الغربية في الهبوب على المنطقة وتحريك المياد الراكدة للشرق الغارق في التخلف الحضاري والسياسي .
وقبل هذه الفترة كانت معظم مناطق اليمن خارج نفوذ الدولة الزيدية التي انحصر نفوذها في الهضبة العليا باستثناء فترات متقطعة سيما على عهد الدولة القاسمية, أكثر من ذلك قبل قدوم الهادي لليمن وتأسيس الدولة في القرن التاسع الهجري(630)، في عام الوفود وفد اليمنيون على شكل قبائل وفي حين بدا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبعث رسائله للدولة والإمارات المجاورة كان يخاطب كل دولة أو إمارة باسم ملكها ,فارس والروم ومصر والحبشة والحيرة, والبحرين ,إلا اليمن أوفد إليها عددا من المبعوثين وخاطب رؤساء القبائل نظرا لغياب سلطة مركزية قوية تمثلهم، لذلك فإن هذا السبب السحري الأثير لا يسعف العقلية الثأرية في تغطية أوضاع اليمن في كل أقاليمه وفي كل تواريخه وإن ساعدهم مرة سيخذلهم ألف مرة.
ليس الهدف كما أسلفنا الدفاع عن الإمامة ولا الطعن في الجمهورية إنما إعادة الأمور إلى نصابها ونسبة الظواهر إلى أسبابها وتحطيم السياجات الثأرية التي ضللتنا حينا من الدهر ولا زالت تضللنا عن إدراك أزمة الدولة ومحاولة استكشاف أسبابها بما من شأنه أن يساعد في التشخيص السليم وبالتالي معالجات فعالة وذلك من خلال إحاطة بانورامية على وضع الدولة وانتقاء محطات تاريخية تبرز بشكل إجمالي أهم العناصر والمحددات التي حكمت الدولة في اليمن قوة وضعفا.
بشكل إجمالي يمكن أن نحدد أزمة الدولة اليمنية تاريخيا في أربعة محددات رئيسة -لازال عدد من عناصرها يؤثر على وضع الدولة المعاصرة- ندرة الموارد وشيوع الملكيات الخاصة للأرض، والضعف المزمن الذي أصاب الدولة اليمنية وسلطتها المركزية الموحدة منذ القرن الأول الميلادي ,تعاظم نفوذ القبلية وقوة التقاليد القبلية كبديل أكثر ضمانا من سلطات الدويلات الهشة والغير مستقرة .
ظروف اليمن الطبيعية وموارده الاقتصادية، لم تكن توفر أكثر من أسباب البقاء وتقتضي من السكان جهدا فائقا ولا تسمح بوجود وفر في الفائض الاقتصادي يساعد الدولة على بناء مؤسسات قوية وفرض سلطتها ونفوذها على كل أقليمها , فالزراعة تعتمد على الأمطار الموسمية الغير مستقرة ،كما تنعدم فيه الأنهار الدائمة الجريان نظير الأنهار في العراق مصر والتي تساعد الدولة في السيطرة على مشاريع الري وربط اقتصاد المجتمع والسكان بالدولة .واستخدام فائض الإنتاج في مشاريع خدمية وأمنية واقتصادية وتعزز سلطة الدولة في المحلات والأرياف وليس فقط بالاعتماد على أدوات الدولة القهرية الأمنية والعسكرية.
يتعزز هذا بطبيعة الملكيات الخاصة للأرض السائدة في اليمن سواء الملكيات الخاصة للأفراد أو العامة للقبيلة فاليمن من البلدان الإسلامية القليلة التي أراضيها أراضي عشور في حين معظم الأراضي الاسلامية خراجية بلاد الشام ومصر وآسيا الوسطى وغيرها والأراضي الخراجية كما هو معروف ملكيتها للدولة وإقطاع خاص بالدولة وللسكان حق الانتفاع بالأرض مقابل نسبة يدفعونها للدولة لكن لا يملكون رقبتها وهذا يجعل مورد معيشتهم مرتبط بالدولة واستمر هذا إلى العصر الحديث (وتربط كثير من الدراسات بين غياب الملكيات الخاصة وقدرة الدولة على فرض سلطانها على سبيل المثال ترى أن الأساس الاقتصادي لقوة سلطة واستبداد الدولة العثمانية يتمثل في الغياب الكامل للملكية الخاصة ).
أما في اليمن فالسائد هي الملكية الخاصة للأرض سواء للأفراد أو للقبيلة فهم يملكون رقبتها ويدفعون العشر أو نصف العشر زكاة الأمر الذي يعني استقلال الموارد الاقتصادية للسكان والمجتمع عن اقتصاد الدولة وفي بلد زراعي كاليمن الأرض هي وسيلة الانتاج والمورد الاقتصادي الأساسي ،وفي مجتمع كهذا توفر له الأرض المعيشة والقبيلة الحماية فإن الدولة فكرة فائضة عن الحاجة، ونتيجة للضعف المزمن للدولة فقد تولد وعي عام لتوزيع السلطة بين القبيلة والدولة، القبيلة حكم ذاتي لأبناء القبيلة ,والدولة سلطتها تحكيمية أي مجرد حكم بين القبائل وليس حاكما لها سيما مع الخصائص التي اتسمت بها القبائل اليمنية (قبل أن تتحول لغول ابتلع الدولة بعد ثورة سبتمبر ) كانت تجعلها أكثر ضمانا من الدويلات الغير مستقرة, فالقبيلة بطبيعتها الأصلية إدارة ذاتية شوروية تعارض سلطة الفرد ، والشيخ لا يملك سلطة سن الأعراف بل الحكم وفقا لها وهو مسؤول عن حماية أفراد القبيلة وأفرادها وتقصيره في القيام بواجبه تجاهها يعرضه للمسائلة واللوم وشرعيتهم في سيادة القبيلة حسب قدرتهم في خدمة القبيلة ولا يملك أدوات قهر لإخضاع القبيلة (تغير هذا بعد الثورة فأصبح لشيوخ القبائل الأقواء سلاح وجيش وميليشيات قبيلة ) وفي الحلقة القادمة نتناول بشكل موجز تفاعل هذه المحددات في نماذج من تجارب بعض الممالك القديمة والدويلات الوسيطة والعصر الحديث.