التمييز العصبوي او العنصري من الموضوعات الاثيرة للردح السبتمبري العصبوي المزمن .
ويقصد بالتمييز كمفهوم اجتماعي الامتيازات والحقوق المتوارثة لفئة اجتماعية او أكثر يتوارثها الأبناء عن الأبناء دون جهد او استحقاق، وعكسه التميز السلبي ويقصد به الانتقاص المتوارث للحقوق المشروعة لفئة او فئات اجتماعية.
تتفق الدراسات الاجتماعية ان بنية المجتمع اليمني بنية تمايزية وتختلف فيما بينها في عدد المراتب الاجتماعية وفي تقديم وتأخير بعض الفئات لكنها بشكل عام تضع كل من (السادة .المشائخ ,الفقهاء او القضاة )في المرتبة العلياء من حيث الحقوق والامتيازات وفئة دنيا تضم ما يسمى (الاخدام ,أبناء الخمس وغيرها من الألقاب البغيضة التي لم ينزل بها الله من سلطان ).وقبل ان ندخل في نقاش مراتب التركيبة الاجتماعية للمجتمع اليمني وحقيقة امتيازات فئاتها , واصلها هل ديني ام اجتماعي ام اقتصادي ؟ دعونا نرى كيف تعاملت العقلية الثأرية والثأريون مع اعلان ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الغاء الفواق والامتيازات بين الطبقات ؟.
تمدنا الوقائع والاحداث بعشرات الشواهد الدامغة على كيف سقط هذا المبدأ كغيره من مبادئ و مضامين الثورة السياسية والاجتماعية ضحية للثأرية والثأريين ,وكيف اشتغلت عليه بطريقة كيدية ثأرية ضد فئات محددة لإدانتها وتجريمها وليس لإدانة البنية التمييزية في تركيبة المجتمع اليمني واحلال مبدا المواطنة المتساوية لكل الفئات الاجتماعية العلياء والدنيا .فاختزلت الغاء التمييز في اسقاط الامتيازات المفترضة للهاشميين ثم لإقصائهم واقصاء الزيدية كفكر وجماعة , ومع انه كما يقول اللواء عبدالله جزيلان في التاريخ السري للثورة “الكثيرون من تنظيم ضباط الاحرار كانوا من شريحة السادة “..الا ان التعبئة الثأرية التي رافقت مسار الثورة جعلت من كل هاشمي وزيدي امامي مفترض سيما بعد سيطرة التحالف التقليدي للمشائخ والاخوان على السلطة. وفي ذات الوقت عززت من تكريس امتيازات مشائخ القبائل ضمن الفئة العلياء والقوى التقليدية فإضافة الى سلطتهم الاجتماعية في قبائلهم منحتهم سلطة سياسة في الدولة واسبغت علي القوى التقليدية وعلماء الاخوان لألقاب الثورية وحولتهم لرموز وايقونات جمهورية مع ان بعضهم ربما سمع بالجمهورية لأول مرة في 26 سبتمبر ولا يفقه من الثورة والجمهورية الا انها الخصومة مع الامام , اما الفئات الدنيا من المهمشين والاخدام وأبناء الخمس فلم يكن لهم موقع من الاعراب لدى ثوار سبتمبر الثأريون ,وبقيت أوضاعهم على حالها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا دون تحسن ومع انهم الفئة الأكثر تضررا والظلم الواقع عليهم مضاعف فلم يحرموا من أي امتيازات فحسب بل لا يمكن لاحدهم تغيير وضعه معها كانت كفاءته, ولم تبذل الدولة أي جهد لمساعدتهم على تغيير أوضاعهم والتمتع بحقوقهم بموجب مبدا المواطنة المتساوية, ولا زال وضعهم بعد اكثر من خمسين عاما من الثورة دون تقدم على المستوى السياسي والاجتماعي . وأول مرة يتم الالتفات اليهم كان في مؤتمر الحوار الوطني عام 2013م وان كان مجرد إقرار نظري بحقوقهم المشروعة ومسؤولية الدولة إزاء مساعدتهم لتحسين أوضاعهم .
اما مصدر هذه التركيبة التميزية فان الفرضية التي تحمل الامامة الزيدية مسؤوليتها ,وتجعل السادة في اعلى السلم الاجتماعي للمجتمع اليمني فلا يسندها أي دليل فالتركيبة الاجتماعية للمجتمع اليمني والمكانة الاجتماعية (للسادة) تأثرت بالسياق الاجتماعي القبلي للمجتمع اليمني وبحسب دراسة القصر والديوان عن القبيلة -وهي من الدراسات الرائدة في بابها -كان دور القبيلة هو الحاسم (سيأتي في الحلقة التالية سبب تفوق تأثير القبيلة على الدولة والعناصر الثقافية الدينية ) في تنظيم التركيبة الاجتماعية وتحديد المكانة الاجتماعية للأفراد في الجماعة القبلية, وعلاقة الفرد بالقبيلة هي التي تحدده مكانته وحقوقه في القبيلة .فأفراد القبلية الاصليون يتمتعون بحقوق متساوية اما الافراد الذين يلتحقون بالقبيلة من خارج الوحدة القرابية فتختلف حقوقهم ومواقعهم بحسب طريقة التحاقهم بالقبيلة وذلك بواحدة من ثلاث طرق .الأولى: الالتحاق الاختياري عن طريق المؤاخاة اما قبيلة تعلن اتحادها بقبيلة أخرى او فرد من افرادها يختار مؤاخاة قبيلة أخرى, هؤلاء يحتلون مكانة متساوية مع افراد القبيلة الام ,والثانية الالحاق الاضطراري عن طريق الضم والالحاق مثل اسرى الفرس ويسمون أبناء الخمس واسرى الاحباش ويسمون الأخدام وهؤلاء يوكل اليهم الاعمال الخدمية ويحتلون مرتبة متدنية .والطريقة الثالثة :الالتحاق عن طريق الاجارة والهجرة كالهاشميين والقضاة وهؤلاء يحتلون مكانة علية لا سباب دينية وطبيعة الاعمال الفكرية والدينية التي يزاولونها وهي اعمال محترمة من وجهة نظر القبيلة .
وكما هو واضح كان الشيوخ -حسب دراسة القصر والديوان -هم الذين يتمتعون بالمكانة العالية في القبيلة ثم السادة والقضاة، و في نظام القبيلة كوحدة سياسية واجتماعية فان مشايخ الضمان هم راس الاتحاد القبلي ويعتبرون بمثابة السلطة السياسية ويمثلون الاتحاد امام الدولة والقبائل الأخرى ,يليهم شيوخ القبائل وهم النخبة العسكرية الذين يديرون الشؤون العسكرية والأمنية للقبيلة الأمناء والاعيان ويمثلون السلطة التنفيذية للقبيلة ويتولى جمع الزكاة وتوثيق العقود ونحوها .اما الهاشميون فكانوا يخضعون لنظام الهجرة (يشبه وضع المقيم في الدولة الحديثة)ونظام الهجر في العرف القبلي يوفر لهم الحماية لكن لا يسمح لهم المشاركة في إدارة شؤون القبيلة .
صحيح كان هاشميو المدن يتمتعون بمزايا سياسة واقتصادية تدرها عليهم الوظائف التي يشغلونها في إدارة الدولة المتوكلية(كانت سلطة الدولة قبل الثورة وبعدها تتركز في عواصم المدن اما خارجها فكانت القبيلة هي الحاكمة باستثناء فترات متقطعة ) والمستفيدون منها كانوا بيوتات محدودة , اما غالبية الهاشميين وخاصة سكان الأرياف المناطق القبلية فكانوا هجرة ونظام الهجر في العرف القبلي يوفر لهم الحماية لكن يشاركون في إدارة شؤون القبيلة ووضعهم الاقتصادي اقل من افراد القبيلة, ويختلف وضعهم بحسب الخدمات التي يقدمونها للقبيلة فالعائلات الهاشمية ذات التأهيل العلمي الديني الجيد و التي تشتغل بتدريس العلوم الدينية تتمتع بوضع افضل كمرجعية دينية لقبيلة ,ادارة الشؤون الدينية للقبيلة ,تعليم القران وامامة الصلاة واحيانا توثيق عقود الأرض والنكاح, ويشاركهم الفقهاء في هذه المكانة لكن هذا لا يمنحهم حق المشاركة في إدارة شؤون القبيلة السياسية والعسكرية ولا في غرم وجرم القبيلة كما سبق. ويتوارث افراد العائلة هذه المكانة ما داموا يحافظون على موروثها العلمي ومادام يخرج منهم العلماء والا فانهم يفقدون هذا الامتيازات. فهي ليست امتيازات متوارثة كما توحي بعض الدراسات الاجتماعية ,اما بقية الاسر الهاشمية التي لا حظ لها كبير في العلوم الدينية فكانوا فلاحين يشتغلون في فلاحة الأرض التي يملكونها وبالأجر اليومي ,لذا فان تصوير الهاشميين طبقة او فئة متجانسة تتمتع بامتيازات سياسية وحقوقية متوارثة ما هي الا من اختراع التعبئة الثأرية فالهاشميون كفئة كانت حظوظهم السياسية والاقتصادية متفاوتة فالكتلة الأكبر منها لا يتمتعون بأي امتيازات اجتماعية أو اقتصادية وعلى حد الشاعر عبدالله البردوني ” فقد كان اغلب السادة من طبقة الفلاحين والحرفيين والتجار اقتصاديا واجتماعيا ”
اما الاحترام القائم على العاطفة الدينية لقرابتهم من النبي محمد صلي الله عليه واله وسلم فحالة سائدة في كل المجتمعات الإسلامية تقريبا لا تخص الزيدية ولا المجتمع الزيدية بدليل ان هذه المكانة الاجتماعية موجودة في المناطق الشافعية وفي حضرموت والمدن اليمنية التي لم تكن تاريخيا ضمن نفوذ الدولة الزيدية ,وكوضع الاشراف في مصر الذين يحضون باحترام العامة كما يقول سيد سالم مصطفى في كتابه تكوين اليمن الحديث وكوضع الاحباب في افريقيا وشرق اسيا وكل دول العالم الإسلامي .
وبشان غلبة العنصر الهاشمي على إدارة المملكة المتوكلية فعلي فرض صحته يتحمل وزره سياسة النظام الحاكم وليس الزيدية وذلك لان نظام الامامة كنظام حكم وان كان يشترط النسب العلوي لمنصب الامامة اما ما عداه من المواقع القيادية والإدارية فلا يشترط فيها غير الكفاءة والأهلية بحسب طبيعة المهمة ,في كتاب متن الازهار المدونة الفقهية المرجعية عند الزيدية يجوز للإمام حتى الاستعانة بغير المسلمين وان يؤمر على السرية اميرا صالحا (المقصود بالصلاح الكفاءة )ولو فاسقا على حد الازهار في كتاب السير ,أي ان الخبرة في المواقع القيادة تقدم أحيانا حتى على حسن الديانة فما بالك باشتراط الهاشمية . وثانيا المعروف عن الامام يحيى والامام احمد انهما كانا يفضلان الاستعانة بالقضاة اكثر من الهاشميين في مواقع السلطة العلياء لإبعادهم عن المنافسة على منصب الامامة . يقول البردوني ان الائمة انتهجوا عمليا طريقا وسطا فقصروا شروط الامامة عليهم واستوزروا غيرهم من البيوتات الأخرى من ذات المكانة الفقهية في اغلب العهود من أمثال الشوكاني والاكوع والحيمي وال الارياني وال جغمان وسائر النابهين الفقهاء . وقلما استوزر امام أحدا من قرابته كما انهم اتخذوا القيادات المحلية لأمراء الحرب ولكبار الموالي سادات التصالح اجتنابا لطموح ذويهم الذين كانوا ينفردون بحكم المنقطة التي يخضعونها او يقيمون فيها ..ولهذا اتخذ الائمة وزرائهم وقادة اكثر حروبهم من غير ذويهم”
وبخصوص اشتراط النسب العلوي في منصب الامامة فهي كالخلافة والتاريخ السياسي الإسلامي عموما يقوم على العصبوية او الرابطة العصبية التي يعتبرها ابن خلدون أساس الملك وان العرب لا يحصل لهم الملك إلا بعصبية أو صبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين. ويجب ان تقرا كجزء من التاريخ السياسي الإسلامي في سياقاتها التاريخية ومن الظلم محاكمتها لمعايير الفكر السياسي الحديث .
.